لندن: لم يزر دمشق من لم يعرج على درة أسواق الشرق وأكثرها جمالا، سوق الحميدية.
في الطريق إليه عبر شارع الثورة، من شارع النصر في منطقة الدرويشية، لا يمكن لدمشقي أن يخطئ رائحته؛ إلى يمين مدخله قلعة دمشق وتمثال صلاح الدين الأيوبي، تميزه من بعيد بمدخل ذي سقف عال يرتاح عليه الحمام الدمشقي، يؤدي إلى شارع طويل مغطى بطول 600 متر لا تميز آخره، وبعرض 15 مترا.
السوق غير مضاءة نهارا، لكن سقفها المغطى بألواح معدنية من الحديد والتوتياء المقوسة به ثقوب صغيرة تفسح الطريق لخيوط الشمس لتدخل فتنير المكان بلطف، وعلى جانبي المدخل حيطان من الحجر المعتق ما زالت تقف بصلابة وثقة، منذ عام 1780، وزادت عليها السنوات عراقة وجمالا.
* يشق السوق طريقه في قلب دمشق القديمة، ويتفرع عنه ويحاذيه أكثر من 20 سوقا
للمدخل هيبة تستشعرها لحظة تقع عيناك عليها حتى دخولك تحت ظل السوق المغطى والمميز بقناطر معلقة. على جانبي السوق أعمدة أثرية ضخمة، وفيها تباع أشهر بضائع العاصمة، من الموزاييك وأقمشة الأغباني والدامسكو والتحف التراثية والمنحوتات الشرقية والنحاسيات والخشبيات والأرابيسك، وفيه محلات لبيع الحرير والقطنيات والأحذية وأدوات الزينة والمنسوجات والمطرزات والسجاد.
محال ضيقة متلاصقة، على باب كل منها صاحب المحل ينادي على بضاعته بأسعارها أو بجمل مميزة وطريفة أحيانا... لا بد أن يمازحك الباعة في محاولة للفت انتباهك للدخول، وحين ينجح في ذلك ينادي على صبي في المحل «دير بالك ع الحجة، وراعيها (أي أعطها تخفيضا)». دائما جاهزون للتفاوض على الأسعار وقد تستطيع ثنيه عن السعر حتى النصف، فهدف التجار في هذه الأسواق أن تعود إليهم مجددا: «مامنختلف ع السعر، كسبناكي زبونة (أي ربحناك زبونة دائمة)»، وقبل أن تخرج، يعقد الأيمان المعظمة أن تأخذ هدية صغيرة أو ضيافة تتذوق بها منتجات المحل، حتى وإن لم تشتر شيئا، وعليه فإنك لن تخرج من السوق يوما جائعا.. فهم كرماء بشدة ولطفاء بأناقة وخفيفو الظل بحذر.. هكذا هم أهالي المدينة.
* سقفه المغطى بألواح معدنية من الحديد والتوتياء المقوسة به ثقوب صغيرة تفسح الطريق لخيوط الشمس لتدخل فتنير المكان بلطف
للسوق رائحة مميزة ممزوجة بخفة بين المكسرات والحلويات والزيتون والمجففات والزيوت والأجبان والشوكولا والبن والبهارات، لتنتج رائحة لا بد تحفر في الذاكرة، لا يخطئها زائر ولو بعد حين.
تستطيع أن تعقد النية على الدخول دون أن تشتري شيئا، لكنك يستحيل أن تقوى على ذلك، فلو نجحت بأن لا تلين أمام رائحة المأكولات، أو ألوانها الجذابة، ستلين للطف وخفة دم الباعة، أو نجاحهم في إغرائك بأهمية البضاعة، وستخرج من كل محل ضاحكا سعيدا بالحديث المقتضب الذي بدأ ببراعة وانتهى بلطف.
* هنالك دائماً بائع متجول يرتدي «قنبازا» وطربوشا وعلى ظهره إبريق ضخم به شراب التمر الهندي أو «العرقسوس» أو التوت الشامي البارد
يشق السوق طريقه في قلب دمشق القديمة، ويتفرع عنه ويحاذيه أكثر من 20 سوقا، بينها سوق السروجية (سروج الخيل والجلديات والشوادر القماشية) وسوق البزورية (الأغذية والمكسرات والبن والسكاكر) وسوق الصاغة وسوق المناخلية (المناخل والغرابيل والعدة الصناعية) وسوق العصرونية (الأدوات المنزلية) وسوق الحرير، وسوق «تفضلي يا ست» (سوق العرائس) وسوق القباقبية (لبيع القباقيب والنجارة العربية) وسوق المسكية (الكتب والقرطاسية) وسوق الخياطين، وسوق النحاسين، وغيرها، تملؤها أصوات الباعة والأطفال والزبائن والضحكات والطرق على أواني النحاس ونحت الخشب، فتسير بينها لساعات دون أن تشعر بالتعب، وإن راودك العطش؟ لا مشكلة! فهنالك دائما بائع متجول يرتدي «قنبازا» وطربوشا ويحمل على حزام بطنه كاسات بلور، وعلى ظهره إبريقا ضخما به شراب التمر الهندي أو «العرقسوس» أو التوت الشامي البارد، تشربه وتعيد إليه الكأس فتحظى منه بشربة باردة وابتسامة ودعوة لطيفة، ثم لا بد أن تقابل بائعا آخر على بعد بضعة أمتار يعرض عليك شرابا باردا آخر، فتخبره أنك شربت التمر الهندي قبل قليل، ليؤكد أن عليك تجربة «العرقسوس» الذي يحمله، فتجد نفسك دون انتباه تشرب مجددا كأسا باردا لذيذا..
في السوق محل بوظة شهير (بكداش) وهو أشهر متجر لبيع البوظة في العاصمة منذ عام 1885، يبيع أنواع البوظة المصنعة بطريقة الدق باستخدام ما يشبه المهباج الضخم، الذي تسمع صوته على بعد أمتار، ورغم أن كافة الأصناف التي يقدمها لا تقاوم، إلى أن بوظة الفستق الحلبي الملفوفة هي الأشهر.
يشتهر السوق أيضا بالبضائع المصنوعة بالأيدي، وتستطيع أن تشاهد عمليات دق النحاس وحفر الخشب وتطعيمه داخل المحال على ضيق مساحتها، وغالبا ما تجد الممتهن لتلك المهنة عما «نحاسا» كبير السن يكرمك بابتسامة لدى دخولك، ويرحب بك مشاهدا لسير عمله في دق النحاس بينما يحكي لك عن تاريخ «الصنعة» و«معلم الكار» الذي ورث عنه هاتين اليدين المغبرتين اللتين تحكيان حكاية عمر من الإتقان وطيب السمعة.
هكذا يبدو السوق... شارع مزفت بالإسفلت، ازدحام كثيف، محال متلاصقة وبضائع معلقة على الحيطان أو ممتدة خارج المحل، باعة متجولون يبيعون الحلوى وغزل البنات والذرة المسلوقة والمشوية وشراب التمر الهندي والتوت الشامي و«العرقسوس» والكستناء المشوية... سوق ضخم لا يمكن أن تمله مهما تشابهت المحال! قد يملك أحدهم محلا في الحميدية ويملك عشرات غيره خارج السوق، إلا أن فرعه في السوق المغطى لا بد أنه الأهم والأقرب إلى قلبه، والأكثر شهرة.
ينتهي سوق الحميدية إلى ساحة الجامع الأموي الفسيحة، حيث مئذنة الجامع هي أول ما تشاهده في طريق خروجك، قبالته معبد جوبيتر وأعمدته الطويلة، ومنهما إلى قلب المدينة القديمة، شام الياسمين القديمة.