[caption id="attachment_55247691" align="aligncenter" width="620"] الشاعر الراحل سليمان العيسى [/caption]
كانت حياة الشاعر سليمان العيسى، بمجملها، حصيلة فقدٍ طالته منذ نعومة أظافره. بدءا من مسقط رأسه في غرب أنطاكيا الذي أصبح جزءا من الأراضي التركية فيما بعد. ومرورا بالأحلام السياسية التي جعلته طريد السلطات المحلية والعربية. وانتهاء بغربته التي آثر أن يقضيها في اليمن لـ15 عاما.
ما بين كل هذا، أثرت عليه «النكسة» كما أثرت على أبناء جيله، فانصرف إلى كتابة شعر الأطفال بشكل كبير، وعرفه السوريون في شكل خاص، في شعر الأطفال. وهنا، عند هذه النقطة بالتحديد، كان سليمان ضحية للاستخدام الآيديولوجي المفرط من قبل حزب البعث في سوريا، حيث طبعوا قصائده في الكتب المدرسية على نطاق واسع، ولشدة ولع النظام البعثي به، وقتذاك، كان يتم التشديد على تلامذة المدارس لحفظ قصائده إلى درجة حفظ اسمه مع النص، فما إن ينتهي التلميذ من قراءة مقطوعات الحفظ، حتى يتلو على الفور وكجزء من القصيدة فيقول: سليمان العيسى!
ولد العيسى عام 1921، وصدر له عشرات الكتب والمسرحيات الشعرية، ومن كتبه «شاعر بين الجدران» 1954، «قصائد عربية» 1959، «أمواج بلا شاطئ» 1961، «رسائل مؤرقة» 1962، «أزهار الضياع» 1963، «دفتر النثر» 1981، «الكتابة أرق» 1982. وسواها من كتب شعرية كثيرة افتتحها بـ«مع الفجر» في أول الخمسينات من القرن الماضي. ثم ديوانه «أعاصير في السلاسل». أما توجهه الناقد الثوري فقد خطه في «رمال عطشى» عام 1960، حيث ضمّنه نقدا وسخطا على ما آلت إليه أمته، وهو الذي صار اسمه متلازما مع حزب البعث، ليصبح شاعر البعث بلا منازع.
رغم المآسي التي عبرها الشاعر من خلال حياته الشخصية، وتحديدا فيما يتعلق بأحلامه السياسية وأفكاره التي اعتنقها كل حياته، فإن سليمان العيسى كان ضحية مزدوجة، في وقت واحد معا. فمن جهة، تم استغلال توجهه القومي لاستخدامه دعائيا في الكتب المدرسية، حيث قامت السلطات الرسمية بطبع أشعاره في مراحل التعليم الأساسي، حتى نفر الأطفال من شعره بعدما كبروا، ولم تتسنّ لهم الفرصة الأخلاقية الكافية لقراءة تجربته الشعرية بمعزل عن الاستخدام الآيديولوجي المفرط لها، فقد كان جزءا من سياسة الدولة، وطرفا أساسيا في «معاركها الآيديولوجية» المفتوحة على كل الجبهات. من هنا، توقفت تجربة قراءة العيسى عند مراحل التعليم الأساسي، مما ألحق ضررا جسيما بتجربة شاعر أضرّه التوحد الآيديولوجي مع الدولة أكثر مما أفاده.
ومن جهة ثانية، وقعت تجربة سليمان العيسى ضحية ثقافة الحداثة الشعرية العربية، فتم التعامل معه اعتباطيا بصفته شاعرا مدرسيا عاديا، فنشأت أجيال أدبية كاملة دون حتى أن تعطي لنفسها فرصة التعامل الفني مع تجربته، وتم الحكم عليه بـ«الإعدام» الفني، فأُهمِل من قِبل كل الأجيال الأدبية الجديدة وتم التعامل معه بلا مبالاة وصلت إلى حد الظن بأن العيسى قد فارق الحياة أكثر من مرة.
في الحقيقة، هناك شعراء غير سليمان العيسى كانوا هدفا دسما للتنظير الحداثي الذي أطاح بشعراء كبار، مثل نزار قباني، إلا أن قوة الأخير وشهرته وتجدده المتواصل أرغم كل شيوخ الحداثة على الاعتراف بموهبته الفذة. ولم يقع قباني ضحية الذوق الأدبي الجديد، الذي كاد يطيح حتى بنظرية الشعر العربي. ومثله الشاعر الكبير عمر أبو ريشة الذي أثبت قدمه في تاريخ الشعر العربي، وفي عز قوة التنظير الحداثي. إلا أن العيسى لم يستطع أن يفلت من خطيئة الحداثة، فكان ضحيتها الأشهر وشاعرها الذي غيّبه التنظير بعد أن غيبه الاستخدام الآيديولوجي المفرط.
[blockquote]
قضى سليمان العيسى أعوامه الأخيرة في اليمن، بصحبة زوجته الأكاديمية وأستاذة الأدب ملكة أبيض، وهي رفيقة حياته التي كانت إلى جانبه في كل مراحل عمره. عرفه اليمنيون بقصائد الأطفال كما عرفه السوريون. ثم عاد إلى دمشق وسكنها في الفترة الأخيرة، ليغيبه الموت في التاسع من شهر أغسطس 2013.
[/blockquote]
هكذا يبدو سليمان العيسى بأنه كتلة من الخسارات، منها مسقط رأسه الذي أصبح في دولة أخرى، بعد إلحاق لواء إسكندرون بالأراضي التركية. ومنها أحلامه القومية التي جعلته يتنقل ما بين حلب ودمشق وبغداد وصنعاء، وسواها من مدن الهروب. ومنها تضيّق الأرض من تحت قدميه حتى كاد لا يجد مكانا في الآونة الأخيرة يركن إليه بعد عودته إلى دمشق، فقد شهدت «ضاحية دمّر» التي سكنها في الفترة الأخيرة، عنفا عسكريا مثلها كباقي المدن السورية.
إلا أن أشد خساراته تلك التي كانت تتعلق بطبيعة التجربة، فأخذته الدولة وتخلى عنه الحداثيون، وأهمله القراء وأصبح من الماضي البعيد، بسرعة. بعد كل الاحتفاء الرسمي بتلك القامة الأدبية. ربما لتغير في مزاج قراء الأدب، وربما للقسوة المفرطة التي تتحلى بها الحداثة الشعرية، وربما للتداخل اللامشروط ما بين تجربته والنظام السياسي، إلا أن القطعي غير القابل للتشكيك هو أن نظرية الأدب لا تتوقف عن التباس معين أو شبهة أو بعد شخصي.
التاريخ الأدبي يتقدم ببطء، لكنه لا يترك أحدا. سفينة هيرمان ملفل ستتوقف في قلب المحيط الواسع، لتلتقط عابرا جديدا. ولعل ما سيرد الآن من شعره في تلك العجالة خير دليل على الخسارة المزدوجة التي يمثلها العيسى، فمثلا، على الرغم من كل ما قيل ويقال عن سجن «المزة» العسكري في سوريا، الآن وما سبق، سيلاحظ القارئ أن للعيسى قصيدة عن هذا السجن هي خير تعبير عن قسوته وعنفه. وللغرابة، فإنك لن تجد استخداما لشعره في كشف حقيقة «سجن المزة» الرهيب، بما يؤكد الضرر الذي لحق بتجربة الشاعر جراء التوظيف الرسمي المفرط لآيديولوجيا حزب البعث له. ونختم بقول العيسى عن السجن المذكور:
[blockquote]هذي هي «المزة» السوداء واجمة الركابِ
هذي سلاسل أمتي نثرت على تلك الشعابِ
هذا هو السجن الملفّع بالحديد وبالحرابِ
في هذه الظلمات يرقد من تركت من الصحابِ
في هذه الظلمات كم جسد تقطّع كم إهابِ!
[/blockquote]
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.