* فيما بين البابا والبطريرك، توضح المنطقة لإيران أنها لن تستسلم دون معركة... ويجب على العالم أن ينصت إليها
تحدث كثيرون عن أهمية زيارة البابا فرنسيس للعراق، تحديدًا في وقت تمر فيه المنطقة وإيران بتحولات وصراعات عديدة. وعلى الرغم من أهمية الزيارة إجمالًا للجميع في المنطقة، يبدو أن لقاء البابا مع آية الله علي السيستاني المرجع الشيعي في النجف يحظى باهتمام أكبر من بقية اللقاءات التي عقدها.
جاءت الزيارة بعد شهر من الاحتفال بمرور عام على لقاء البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب الذي شهد التوقيع على وثيقة «الأخوة»في أبوظبي. بدعم من دولة الإمارات، استطاعت المبادرة تشكيل لجنة عليا لنشر الرسالة، ويجري التخطيط لإقامة مركز في أبوظبي يضم معبدا ومسجدا وكنيسة، في تجسيد عملي للتعايش والمشاركة بين الأديان.
والآن يذهب البابا إلى النجف، في تقدير لوزن الشيعة العرب، والاعتراف بالسيستاني كممثل للشيعة المعتدلين. وعلى الرغم من أن البابا لم يذكر طهران أو قم ولو مرة واحدة، فإن رسالته كانت واضحة: النجف هي مركز الشيعة الوحيد الذي سيتعامل معه العالم المعتدل.
يجب أن تقلق إيران
من الواضح أن النظام الإيراني مستاء، ولكنه غير قادر على انتقاد اختيارات البابا. ففي نهاية الأمر، لا يوجد رمز مسيحي أكبر، لا سيما بالنسبة لمسيحيي الشرق الأوسط. وعلى مستوى الرأي العام العالمي، سيواجه الاعتراض على اختيارات البابا عاصفة مضادة. وبالتالي، أصيب النظام الإيراني بالشلل على الرغم من استيائه.
بيد أن علاقة إيران المعقدة مع النجف والسيستاني شخصيًا قد تزداد تعقيدًا بعد الزيارة، وعندما تتحقق الترجمة السياسية للاجتماع.
إن الخلافات بين المرجعيتين الشيعيتين متعددة ولها أصول تاريخية، ولكنها أيضًا تؤثر على المبادئ الدينية والسياسية. وفي الفترة الأخيرة بدأت الخلافات السياسية في التصاعد، تحديدًا بعد انتقاد النجف لدور إيران في العراق الذي يأتي على حساب مؤسسات الدولة العراقية.
وعلى الرغم من المحاولات التي يبذلها النظام الإيراني لترويض مرجعية النجف أو السيطرة عليها وعلى خطابها، فلا تزال النجف مستقلة، بل ويزداد تأثيرها، بسبب هذا الاستقلال، بين شيعة العراق. كان هذا جليًا في أثناء الاحتجاجات التي اندلعت في عام 2019، والتي لم تحظ فقط بتأييد مرجعية النجف، بل حملت مشاعر عداء قوية تجاه إيران. وبالتالي، من المحتمل أن البيان الذي جاء عقب اجتماع البابا والسيستاني- للتأكيد على رسائل سياسية واضحة تتعلق بقضايا إقليمية محورية ترغب إيران في اختطافها مثل القضية الفلسطينية- أثار استياء النظام الإيراني على نحو أكبر من بقية الزيارة والبيانات الأخرى التي صدرت من العراق في نهاية الأسبوع الماضي.
على مدار الأعوام الأربعين الماضية، بذلت إيران أغلب طاقتها ومواردها في سبيل ادعاء تمثيلها للشيعة في العالم العربي وخارجه. وعندما أعلنت أخيرًا العواصم العربية الأربع- بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء- تحت سيطرة إيران، لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى انهارت تلك العواصم الأربع تحت وطأة السلاح الإيراني وآلاته القاتلة. وبعد كل هذا الجهد والتضحية في الداخل، حازت مرجعية النجف بالاعتراف ومن البابا نفسه.
آثار الزيارة على لبنان
من الواضح أن زيارة البابا إلى العراق ليست منحصرة في العراق. ففي طريق عودته إلى الفاتيكان أعلن أن زيارته المقبلة سوف تكون إلى لبنان، وهي دولة أخرى ذات أهمية لإيران. لن تكون أول زيارة يقوم بها البابا إلى لبنان، ولكنها ستكون الأولى بعد انهيار مؤسسات الدولة ونظامها المالي. وستكون الأولى بعد وقوع لبنان تحت هيمنة إيران وسيطرة حزب الله.
وبالتالي، تحظى نيته لزيارة لبنان في هذه المرحلة ببُعد سياسي أيضًا. ولكن السياق أكثر أهمية وملاءمة. فمنذ فترة ليست طويلة دعا البطريرك اللبناني بشارة الراعي- وربما بالتنسيق مع الفاتيكان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون- إلى مبادرة جديدة يتم فيها «تدويل»أزمة لبنان، مما يعني أن تتحول إلى مسؤولية المجتمع الدولي.
في أثناء كلمته الشهيرة في مطلع الشهر الجاري، دعا البطريرك إلى وقوف لبنان على «الحياد»وإلى استقلال الدولة والأحزاب المحلية عن أي نفوذ أو تدخل أجنبي. وقال: «العجز عن احترام الحياد هو السبب وراء جميع الأزمات والحروب التي مرت بها الدولة»، مشيرًا إلى نزع السلاح بالكامل عن جميع الفصائل غير الخاضعة للدولة، بما فيها حزب الله.
يتماشى الأمر تمامًا مع الرسائل التي خرجت من لقاء البابا والسيستاني في النجف، بالإضافة إلى أنه أغضب حزب الله كما أغضب لقاء النجف إيران. بيد أن رسالة البطريرك حملت إشارة أكثر حدة تجاه حزب الله، حيث يبحث كثير من المسيحيين عمن يمثلهم بعيدًا عن الرئيس الحالي ميشال عون وصهره جبران باسيل. بالنسبة للعديد من اللبنانيين، لم يؤدِ التحالف بين عون وحزب الله، والذي أقيم عبر مذكرة تفاهم وُقِعت في فبراير (شباط) عام 2006، سوى إلى دمار وانهيار لبنان ومؤسساته.
عندما أطلق البطريرك مبادرته، أعرب العديد من المسيحيين عن تأييدهم. وأصبح الخيار بسيطًا للغاية: تدويل أزمة لبنان والمضي قدمًا، أو الاستمرار تحت هيمنة إيران والموت جوعًا حرفيًا. لم يعد عون يمثل الشارع اللبناني بحسب عدة إحصائيات واستطلاعات أجريت في لبنان. عندما يخسر عون الشارع اللبناني، يفقد حزب الله غطاءه المسيحي. وعندما يكسب البطريرك الشارع المسيحي، يخسر حزب الله الغطاء المسيحي. وعندما يجتمع البابا مع السيستاني في قلب النجف، لم يعد في إمكان إيران أن تدعي أنها تحظى بتأييد مسيحيي الشرق الأوسط.
هذه التطورات لا يمكن ترجمتها إلى استراتيجيات سياسية برغماتية لاحتواء إيران في المنطقة إلا إذا كان المجتمع الدولي مهتما بالفعل بالاستثمار في خطاب جديد في المنطقة أو بقبول مسؤوليته تجاه لبنان. ولكن بقدر ما يقترب الشارع الشيعي في العراق من النجف ويبتعد عن قم، يقترب الشارع المسيحي في لبنان من بكركي ويبتعد عن بعبدا- مقر القصر الرئاسي. ومن ثم، يجب أن تضع السياسات الدولية في لبنان الأمر في الحسبان عند النظر في مستقبل المنطقة ومستقبل العراق ولبنان على وجه التحديد.
من الواضح على سبيل المثال أن استقالة الرئيس في لبنان واجبة الآن من أجل المضي قُدمًا نحو التغيير، بل هي مطلب شعبي. لقد فقد عون شرعيته كرئيس للشعب اللبناني وممثل للطائفة المارونية. وبالتالي لم يعد في إمكان صهره باسيل الترشح للرئاسة كحق طبيعي. ويجب فرض عزلة أكبر عليهما ومساءلتهما في النهاية.
فيما بين البابا والبطريرك، توضح المنطقة لإيران أنها لن تستسلم دون معركة. ويجب على العالم أن ينصت إليها.
* حنين غدار: باحثة في زمالة فريدمان ببرنامج غيدولد للسياسة العربية بمعهد واشنطن، حيث تركز على سياسة الشيعة في جميع أنحاء المشرق