عندما بدأت موجة اندماج بعض المصارف العالمية في أواسط ثمانينات القرن الماضي لم تحدث ضجة كبيرة كما هي الحال عادة عندما يدمج مصرفان أو مصنعان كبيران غربيان، بل تم الأمر بهدوء، وبعيد عن الضجيج الإعلامي لكي لا تطرح علامات استفهام كبيرة حول أهداف هذه الخطوة العملاقة. ولقد نشأت عبر تزاوج مصارف ضخمة أميركية وأوروبية مثل: "تراست بنك" الأميركي في الثمانينات، وأحد المصارف الألمانية، مصارف يطلق عليها اليوم اسم "المصارف القارية"، وهي لا تخضع لنظام دولة معينة، بل تعتبر مجالسها الإدارية هي هيئة مستقلة في اتخاذ القرارات المتعلقة بعلاقاتها بحركة السوق المالية والبورصة، فكانت بذلك أول إشارة لاستقلالية النظام المصرفي أو قطاع المال، وتمتعه بحرية الحركة، واتخاذ القرارات في أي ظرف من الظروف دون العودة إلى أيِّ مؤسسة تنفيذية رسمية أو حكومية، أي بما يتماشى ومصالحه الخاصة.
لكن ومن أجل الحفاظ على ميكانيكية الحركة المالية العالمية نشأت ما تسمى بمصارف مجموعات البلدان أو الكتل، وهي شبيهة بالمصرف المركزي الأوروبي، وبدأت هذه المصارف تأخذ شكلاً معينًا في أميركا الجنوبية وآسيا وبلدان جنوب شرق آسيا أو مجموعة مصارف لمنفذين أغنياء لهم نفوذ ضخم على الاقتصاد والمال. وينتظر أن تهيمن هذه المصارف على سوق المال العالمية قبل حلول منتصف القرن الحالي، ما يعني أنها سوف تكون لها الهيمنة الأكبر على التجارة والاستثمارات في العالم، مستفيدة من ما يسمى بالعولمة التي تخطَّت حدود المفهوم القومي للدول، حتى إنها ألغته تمامًا مركزة على المصلحة الذاتية ليس إلا، وساعد في ذلك عالم التقنيات السريع التطور والذي ألغى بدوره كل الحدود، وهذا ما نشهده في أمثال صغيرة مثل التعامل المصرفي أو "المصارف أون لاين"، أو "التجارة أون لاين" وغيرها.
وتعاظم شأن هذا التحول الجذري يعجل في ظهور تكتلات وقوى اقتصادية ومالية عالمية جديدة من المتوقع أن تصبح خلال الثلاثين سنة المقبلة مهيمنة على الأسواق الدولية بسبب تحقيقها تدريجيًّا اكتفاءً ذاتيًا بل وفائضًا (المثال على ذلك الصين)، وهذا سيخلق تحديًا كبيرًا جدًا لقطاع المال الحالي بصيغته وقواعده القديمة التي تتناسب ومصالح من وضعها سابقًا، ولن يتمكن من الصمود والبقاء في المشهد المصرفي في عالم الغد.
وإلحاح خبراء المال للتعجيل بوضع نظام مالي عالمي جديد له أسباب كثيرة؛ منها -كما سبق- دخول لاعبين جدد، وعدم تمكن الغرب (أوروبا الغربية والولايات المتحدة) من الخروج من دائرة مؤثرات تباطؤ معدل النمو الاقتصادي والركود والأزمات من دون حلول، وعدم تمكن دول من إحداث إصلاحات لهياكلها لمواجهة تأثير الأزمة المالية التي بدأت فعليًّا قبل حلول الألفية الثالثة بكثير. هذا الوضع دفع بالكثير من المصارف والشركات الغربية مع اليابان إلى كسب دماء جديدة عبر الاستثمار في الكثير من المجالات، أيضًا الصناعات المتوسطة في البلدان الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل، لكن في المقابل تمكنت هذه البلدان -وبالأخص الصين- من اقتحام الأسواق المالية الغربية دون صعوبة، في الوقت الذي تقف فيه المصارف الغربية ذات العراقة مكتوفة الأيدي أمام نمو أسواق ناشئة رئيسة جديدة ومؤثرة.
هذه التطورات جعلت متوسط النمو الاقتصادي لمنطقة جنوب شرق آسيا، أي بلدان مجموعة "آسيان"، -وتضم إندونيسيا وماليزيا والفيليبين وسنغافورا وتايلند وفيتنام ولاوسي وميامار وكامبودجيا- جعلت متوسط النمو حاليًّا يصل إلى حوالي الخمسة في المائة سنويًّا، ما يرشحها لأن تكون من أهم الاقتصاديات النامية مقارنة مع الكثير من اقتصاديات الغرب، ومركز جذب للمستثمرين والمصدرين الأوروبيين وبالأخص الألمان، ما يعني أيضًا انتقال المال إلى هناك. ومع أن النمو في بلد مثل الهند يتوقع أن لا يتجاوز في السنوات المقبلة الـ6.5 في المائة (أقل من المتوقع)، لكنه يظل أفضل بكثير من الأرقام التي تظهر في توقعات النمو في أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة الأميركية. في هذا الأثناء تضع الصين والهند وبلدان جنوب شرق آسيا خططًا إصلاحية لاقتصادها رغم نموه، وخاصة ما يتعلق بالاستثمارات الخارجية المباشرة للأعوام العشرين القادمة؛ لأنها لا تواجه -كما البلدان الأوروبية الغربية- تأثيرات مشكلة الديون، وانهيار أسعار الأسهم وأزمات مالية وإفلاسات وتداعيات أزمة اليورو، ولن تكون استثماراتها في الغرب فقط، بل وأيضًا في بلدان نامية، فهذا ما تقوم به الصين منذ فترة لا بأس بها، فيما تنظر واشنطن -وبسبب أزمتها المالية وأزمة اليورو- بقلق إلى نموها الاقتصادي المتباطئ، وخفضت توقعاتها للنمو للعام الحالي والمقبل أكثر مما كان متوقعًا.
النظام المالي الحالي يزداد سوءًا:
يكتب الدكتور "توبياس برايس" الخبير المالي الألماني منذ عام 2008 بشكل متواصل عن أهمية استبدال النظام المالي الحالي بآخر عصري، وهو يقول في آخر كتبه أن وضع النظام المالي العالمي الحالي يزداد سوءًا، ما جعل بلدان مثل الولايات المتحدة لا تعرف كيف ستتمكن من التعامل مع أزماتها والتي منها الديون، وكيف ستتعافى اليابان من آثار الكارثة النووية التي لحقت بها (علما أن ديون اليابان تعدت الـ7.8 ترليون يورو)، وما هي انعكاسات التطورات في العالم العربي على الاقتصاد العالمي على المدى البعيد. وليس واضحًا ماذا سيكون مصير اليورو وحرب الدولار معه. على أساس هذا كله لا يمكن الحديث اليوم عن استقرار في ظل النظام المالي الحالي، إننا بعيدون جدًا عن الاستقرار.
وعن سلبيات النظام الحالي يقول باحثون: إن تعقيداته وعدم شفافيته قد زادت للغاية، ما أدى إلى المزيد من عدم الاستقرار، على أي حال، إنه نظام في غاية التعقيد؛ لأنه يحمل في طياته آثارًا سلبية متتالية، بحيث إن القيم المالية يمكن أن تدمر في ثوانٍ قليلة. لذا فإن البروفيسور الألماني وزملاء له منشغلون دائمًا بمسألة كيفية العثور على أفكار لحماية النظام المالي من انعكاسات وتأثيرات الأحداث الفظيعة والقاسية.
وبرأي "برايس" -كما يبدو- لم يعد بالإمكان أيضًا السيطرة على مسار النظام المالي الحالي بالشكل المطلوب، وذلك بعد الانحرافات والكوارث المالية في الغرب التي وقعت في الفترات الأخيرة وبالأخص أواسط القرن الماضي وحتى اليوم. فأسواق المال لم تعد قادرة كما هو مطلوب منها الجمع بين العرض والطلب، أي توفيرها للعارض الإمكانية لزيادة أرباحه وأمواله، وللشاري الإمكانية لتمويل الاستثمارات، ولهذا يجب خدمة السوق المالية بتقديم أفكار لها تخدم النهج الجديد والقديم في المنافسة، وتخلق في نهاية المطاف قيمة للمجتمع، ولكن -وللأسف- هناك آثار جانبية غير مرغوبة لم يعد بالإمكان تفاديها.
لكن ورغم هذه الضبابية يستبعد البروفيسور انهيار النظام المالي الحالي في القريب العاجل، فالأمر ليس بهذه السهولة، مع ذلك يجب القول: إن قلة الشفافية وتزايد التشابك وقواعد لعبة الأسواق المالية العالمية ساهمت في حدوث هذا الوضع؛ ما يجعل المخاطر النظامية الشاملة غير مرئية، وكان الاعتقاد أنها سوف تختفي إذا ما تم توزيع تحمل مسؤولية أعبائها.
لكن ما الوسيلة لمواجهة وضع من هذا النوع؟
ليس هناك أي خبير مالي لديه الوصفة السحرية أو الصحيحة، لكن يقول "برايس" : لقد أجريت بحوثًا مع خبراء مال آخرين مثل البروفيسور "أوجين ستانلي" من جامعة بوسطن، استخدمنا فيها النهج المعتاد للبحوث في الاقتصاد، فقمنا بتطوير مجموعة من النماذج التي تظهر افتراضات معقولة، ومعايرة أجهزة الاستشعار مع البيانات التجريبية من العالم الحقيقي. لقد جمعنا كميات هائلة جدًا من البيانات المالية التجريبية، وعلى هذا الأساس حاولنا وضع نماذج محسنة جديدة ليتم تطويرها, على سبيل المثال طرحت وزميلي من جامعة بوسطن السؤال: كيف تحدث الفقاعة المالية في الأسواق العالمية التي تهدد النظام المالي، ومتى يظهر الجشع؟ ولقد وجدنا أشياء مدهشة جدًا. إذ إن حجم الفقاعات في السوق المالي يزداد في البداية ببطء شديد، ولكن قبل الوصول إلى نهاية الاتجاه تصبح سرعتها عالية جدًا. والمميز هو في أي شكل يزداد الحجم، فبناء على الكميات الهائلة من البيانات التي تحتوي على 2،6 مليار تعامل في سوق الأوراق المالية، تمكننا من العثور على قانون يمكن وصفه بأنه قانون انضباط أو ضبط".
ويضيف: "الأحداث الحادة جدًا تحدث كثيرًا، وأكثر مما قد يتوقعه المرء، كما أنه يمكنها أن تأخذ أي حجم تعسفي، وعبر قانون الانضباط هذا يمكن الكشف عن توقيت التطورات وهذا مهم جدًا؛ لأنه يمكننا أن نجمع معلومات وقائية عن انفجار الفقاعات المالية، وبالتالي توقيت انفجارها؛ ما يجعلنا قادرين أيضًا على جعلها تنفجر قبل أن تصبح كبيرة جدًا، وتمزق اقتصاديات ومال بلدان بكاملها".
لماذا يجب انتظار قدوم فقاعات المال؟
السبب في ذلك -حسب قول الخبير المالي- أن النظام المالي لم يعد بالإمكان مراقبته، واعتقاد المرء بأن كل شيء ينظم نفسه بنفسه وعلى أفضل وجه، اعتقاد غير صحيح، فالنظام المالي أصبح إقليميًّا, فحتى المصارف الإقليمية أصبحت مشاركة في لعبة البوكر الضخمة، وهذا يخفي مخاطر كبيرة للتعاون، إن قواعد أدام سميث -(مؤلف أسكتلندي للاقتصاد الكلاسيكي في بداية الثورة الصناعية، وحدد القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية)- لا تصلح إلا للأوقات الجيدة.
إذن كيف يجب علينا خلق نظام مالي يحافظ على الاستقرار؟
الجواب هو أن أي شكل من أشكال النظام يحتاج إلى صمامات أمان تكبح جماح اتساع دائرة أي مشكلة مالية إقليمية أو دولية تقع، وهذا ما لا يتوفر في النظام المالي، لذا نحتاج أيضًا إلى شيء شبيه بجهاز محاكاة. ففي الكثير من الفروع الإنتاجية وعند تصميم أشياء جديدة كالسيارات أو الطائرات أو غيرها، وقبل إنزالها إلى السوق فإنه تتم تجربتها على جهاز محاكاة ضخم وكأنها تعمل حقيقة، فلماذا لا نطبق ذلك أيضًا على نظم اقتصاديات السوق والنظم المالية الجديدة، بهذه الطريقة يمكنها تحديد التبعات مسبقًا. فعلى سبيل المثال يمكن إجراء اختبار كي نعرف مسبقًا ماذا يمكن أن يحدث عندما نترك كمية السيولة النقدية المتداولة تزداد من دون حدود.
إن اتساع دائرة عرض السيولة المتداولة يكون ناجمًا عن تزايد كميات القروض غير المسددة في السوق، ومن أجل تسديدها يصبح من الضروري اللجوء إلى قروض أخرى، وإذا ما وضعت ضوابط فإن ذلك يجبر الاقتصاد على ضرورة النمو. وهنا فإن اعتقاد خبراء مال -ومن بينهم "ألن غرينسبان" الحاكم السابق للاحتياط النقدي الاتحادي وحاكم المصرف المركزي الأميركي لأكبر دولة في العالم- تنقصه أفكار ذات صلة، فمنذ ذلك الحين تحاول المصارف الوطنية وبالأخص المصارف الأميركية حل كل مشكلة عبر خفض الفوائد ورفع كمية الأموال في التداول ما أحدث فقاعات سيولة هائلة تبحث لها عن مكان تستثمر فيه، ووجدت ضالتها في مجال العقارات أو صناعة الأغذية أو المواد الخام مع نتائج سلبية، والمشكلة التي نتجت عن ذلك وجود كميات مال هائلة أكثر مما هي الحاجة إليها.
ولا يرى الخبير المالي فائدة في قرار سويسرا مؤخرًا لجم سرعة ارتفاع الفرانك السويسري من أجل مواجهة مشاكل النظام المالي الحالي وتأثيراته على قطاع المال السويسري، ويقول إنها وصفة قديمة لا تصلح لأزمات اليوم. فالمصرف المركزي السويسري لا يمكنه الوقوف دائمًا إلى جانب الأسواق التي تنتج دائمًا خسائر، فهذا الإجراء لا يساعد أحد لكن هناك آليات جديدة تتماشى مع التطورات المالية العالمية يمكنها أن تحد بشكل عقلاني من المضاربات النقدية.
ولو كان البروفيسور الألماني ملك العالم فماذا يفعل لحل المشكلة المالية العالمية، وهل من الضروري حلها عن طريق نظام نقدي جديد؟ يقول هنا: أنا لست ضد النقد، مع ذلك أجده مملاً، فهناك نظم تحفيز أخرى، والكثير من البحوث في هذا المجال أشارت إلى أن ليس كل شيء يقاس بالمال لأنه أحادي البعد، وهذا بحد ذاته له عواقب وخيمة، مع ذلك نحاول بواسطة المال تسيير أشياء كثيرة في وقت واحد، ورغم أن العديد من الدراسات والبحوث التي وضعت أشارت إلى عدم نفعها، والكثير من علماء الاقتصاد والمال يدركون ذلك، إلا أنه لم يحدث تغيير لهذا التوجه.
ومن وجهة نظره فإن أفضل آلية لتمكين النظام المالي من مواجهة التحديات، وبالتالي توفير استقرار لأسواق المال هي إحداث عمل منسق للسيطرة على المؤثرات التي تحدث خللاً للأسواق المالية مثل التقييم والحكم الخاطئ للمخاطر في النماذج المستخدمة. نحن لم نتعلم كثيرًا من الأزمات المالية التي حدثت سابقًا، لذا علينا سلوك منحى آخر مثل التنويع؛ فهو عامل مؤثر وجيد من أجل التقليل من المخاطر. والاعتقاد السائد أنه وعندما يتم إنشاء صناديق أسهم على النحو الأمثل فإن الخسائر سوف تقل اعتقاد خاطئ، إذ يفترض المرء أن التبعيات التاريخية ستجعل أسعار الأسهم مستقبلاً ثابتة، لكن يمكن أيضًا للأسهم أن تنهار بسرعة البرق، وهذا ما يسمى بانهيار التبعيات وما يمكن مشاهدته عند انفجار الفقاعات في الأسواق المالية، لكن لم يؤخذ ذلك في عين الاعتبار في أي نموذج للمخاطر، ولذلك فإن المناطق العازلة أو الخالية من المخاطر للمؤسسات المالية قليلة جدًا، وعليه فقد نكون بحاجة حقًا إلى هيكلية مالية جديدة.
يضاف إلى ذلك أنه ونظرًا للأزمات المالية المتكررة يجب وضع الافتراضات الأساسية على المحك، والنظر في البدائل، لكن ينبغي اختبارها قبل ذلك خصوصًا في النظم المعقدة، فالتنظيم الذاتي هو أقوى من اختبارات المراقبة الخارجية، ولكن ليس وفقًا لقواعد ادام سميث. إذ يمكن للمرء تحديد القواعد التي تدعم التنظيم الذاتي المقصود، وهو ما يعود بالفائدة ليس على الفرد فقط بل وعلى النظم أيضًا.
وهذا التوجه يحظى باهتمام البروفيسور الألماني "ديرك هالبنغ" الذي يقول: إن المرء يحاول التلاعب على النظم الضعيفة من أجل الوصول إلى بديل أفضل. بالطبع ليس من السيئ رفع رأس المال، مع ذلك يجب المواصلة والمتابعة، وعلينا أن ندرك أننا نواجه أسئلة مصيرية منها: كيف يمكن إنقاذ الرخاء في أوروبا في ظل المطالبة باستبدال النظام المالي الحالي بآخر جديد. فالناتج المحلي لبلدان الاتحاد الأوروبي يتجاوز الـ 16 ترليون دولار سنويًّا، وبهذا فإنه من أكبر الاقتصاديات في العالم. لكن هذا الاتحاد يتشكل من دول ذات أداء اقتصادي مختلف، فكيف يمكن إنقاذ هذا النظام فائق التعقيد الذي لا يعرف حتى سياسة مالية مشتركة في المستقبل؟ إننا نحل هذا الأمر اليوم عن طريق التحويلات المالية، لكن كما يبدو فإنها خطوات غير مدروسة جيدًا حتى الآن.
وهذا الرأي يؤكد فائدته الكثير من خبراء المال، والذين لا يعتبرون الحل هو في ربط الاقتصاد الحقيقي مثلاً بتحديد معيار للذهب كما يعتقد البعض الآخر، ولا يعتقدون بأن النظام المالي الحالي المريض يمكن معالجته بأي نوع من أنواع العقاقير المتداولة، بل يجب إيجاد نظام جديد، وتعزيز نقاط القوة في كل بلد، إن الكثير من التجانس ليس جيدًا لأوروبا.
عدا ذلك فإن كل ما يجب القيام به هو تفهم العالم الجديد، فحيال الأحداث المناخية الصعبة العديدة أدرك الكثيرون أنه لا يمكن مواجهة التحديات الحقيقية بالأساليب التقليدية، ومن الأفضل للباحثين في كل التخصصات المالية والاقتصادية والمصرفية مماشاة نظام المعلومات والتقنية المستقبلي. إنه مشروع عشري بدأ هذا العام، ويدعمه الاتحاد الأوروبي بالمليارات، وسيكون عمله مستقبلاً استكشاف السيناريوهات المستقبلية لعالمنا، إضافة إلى ذلك سوف يتم تطوير كمبيوتر عملاق، ونظام أساسي لتحليل البيانات عليهما؛ للتعرف مبكرًا على الأزمات المالية، وإمكانية تحديد الفرص لحلها أو مواجهتها.
النظام المالي:
يلعب النظام المالي دورًا على مختلف المستويات، الاقتصادي والعالمي والوطني والإقليمي، والعناصر الأساسية في النظام المالي هم عادة أشخاص وأسر ومدخرات وإيداعات وشركات وإدارات وأقسام وحكومات ومنظمات فوق الوطنية التي تحدث حركة التدفقات النقدية فيما بينها، أيضًا المؤسسات الحكومية والخاصة.
ويخص القطاع المالي كل المؤسسات والأنظمة التي تقدم خدمات مالية للاقتصاد، ويشمل ذلك بالأخص الأسواق المالية، وأسواق الذهب والعملات، وسوق رأس المال، والوسطاء الماليون (المصارف وشركات التأمين الخ).
ولقطاع المال وظائف مؤثرة من أهمها تشغيل المال والتسيير والتوجيه، أي التوسط وتنسيق تدفق المال بين الدائنين والمدينين والتأمين ما يعني الحد من المخاطر المرتبطة بوسائل نقل الأموال. وأهم مؤسسات الدولة في النظام المالي المصرف المركزي والمصارف فوق الوطنية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد العالمي أو مصارف التنمية الدولية ذات الأنشطة الإقليمية وبنوك التسويات الدولية، ووكالات الإشراف المختلفة كالدائرة الاتحادية للإشراف على الخدمات المالية في ألمانيا.
ونشوء النظام المالي له ارتباط وثيق بتاريخ المال، لذا اعتبر –ومازال- آلية مهمة لتنظيم توزيع الثروات في المجتمعات، وتنظيم العلاقات بين كل اللاعبين والمؤثرين فيه. وهذه الهيكلية قد تكون على الصعيد الوطني أو العالمي. ورغم وجود هذه الآلية لكن توجد اختلافات كبيرة حول مسائل تتضمنها منها مقبولية الفائدة المصرفية، وأشكال التجارة والضرائب والتوزيع والتصميم على أساس الانتماء الاجتماعي والقبول والاستبعاد من الجهات الفاعلة.
ولقد نشأ النظام المالي العالمي في أربعينيات القرن الماضي، أي بعد نشوء البورصة العالمية بسنوات طويلة، وما واجهته من مشاكل خاصة عام 1922 لذا نجده يحمل آثار التأثيرات السلبية للأزمات المالية القديمة التي لم تعالج بشكل جذري على مدى سنوات مما جعلته متأثرًا بها بشكل أو بآخر حسب رأي خبير المال الألماني "ريشار كونيغ".
نشأة النظام المالي:
المكان الذي شهد ولادة النظام المالي العالمي كان البلدة الأميركية "بريتن وود" الواقعة في ولاية نيوهمشر في شهر يوليو عام 1944(يطلق على النظام المالي أيضًا اسم اتفاقية بريتن وود)، وذلك خلال مؤتمر تاريخي تمت فيه كذلك الدعوة لإنشاء المؤسستين الماليتين العالميتين صندوق النقد العالمي والبنك الدولي؛ ليلعبان دورًا مركزيًّا في ضبط السياسات المالية والتنموية في العالم، والتخطيط للاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. رغم ذلك كانت هناك وجهات نظر متباينة بين المشاركين في المؤتمر، وهم خبراء مال، منها أن هذا النظام المالي الجديد الذي وضع تشوب عمله الشكوك، أي الشك في فائدته وفي قلة قدرته على مقاومة التقلبات المالية، وهذا ما أظهرته الأزمات المالية الكثيرة بعد ذلك، وبالتحديد عندما بدأ الدولار الأميركي الذي ربط به يعاني من تأرجحات في سعره كما يرى الخبير الألماني كونيغ، رغم ذلك واصلت التمسك به البلدان الاقتصادية والمالية القوية كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا التي لعبت دورًا أساسيًّا في وضعه، وبعد ذلك ألمانيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ما جعل كتابًا متخصصين يحذرون في كتاباتهم من النظام المالي؛ لأن تأثيراته ستكون كارثية مع الوقت. فهو وضع في وقت لم تتبلور فيه صورة الأنظمة المالية والسياسية العالمية، وفي ظل أوضاع دولية غير واضحة، منها عدم وضوح تبعات الحرب العالمية الثانية.
واليوم عادت لترتفع أصوات خبراء مال تطالب بقوة بإحداث نظام مالي عالمي جديد يفي بمتطلبات القرن الواحد والعشرين والتطورات العالمية الجديدة، مثل ظهور قوى اقتصادية دولية جديدة وأنظمة تعاملات تجارية ومالية عالمية (العولمة) وغيرها. فالنظام الحالي عديم الفائدة بالنسبة للاقتصاديات الغربية، فهو ما زال يعمل في ظل حالة من الفوضى السياسية والاقتصادية تخيم على المجتمع الدولي مما ستؤثر سلبًا على المبادلات الخارجية والنمو الاقتصادي الدولي، حتى إنه تسبب في حالة كساد لاسيما بعد تزايد القيود المفروضة على المدفوعات، وحرب التخفيضات النقدية المستمرة، وتعقيد علاقات المديونية والدائنية، لذا يجب الإسراع في تحقيق الاستقرار للاقتصاد العالمي تفاديا لأي فوضى خطيرة جدًا.
ربط النظام المالي بالدولار:
وما يجدر ذكره أن اتفاقية بريتن وود (اتفاقية النظام المالي) نصَّت على تثبيت سعر صرف الدولار الأميركي بما يساوي 28.3 غرام من الذهب، أيضا تثبيت سعر صرف عملات الدول الموقعة عليها أمام الدولار الأميركي، وعدم السماح لسعر الصرف بالتقلب أكثر من 2 في المائة صعودًا وهبوطًا من القيمة الثابتة أمام النقد الأميركي، وبهذا كانت أول خطوة لربط الكثير من عملات الدول بالدولار, وبالتالي رهن أسعار صرف عملاتها بالنسبة لقيمة النقد الأميركي، وبذلك ضمنت الولايات المتحدة الأميركية أن تكون قيمة صرف العملات وأسعار المعادن والخامات والسلع والبضائع والخدمات مقدرة ومقيمة بعملتها.
والسبب في ذلك يعود إلى أن الولايات المتحدة كانت تعتبر الدولة الأكثر نفوذًا سياسيًّا و اقتصاديًّا وماليًّا في العالم، وكانت تملك يومها 70 في المائة من مخزون العالم من الذهب (توجد اليوم علامات استفهام حول مصير مخزون الذهب الأميركي) واعتبر الجنيه الإسترليني الأقوى دوليًّا بعد الدولار والشريك الأصغر في النظام المالي الجديد. وبناء على الاتفاقية أيضا سمح للولايات المتحدة ببيع الذهب للبنوك المركزية ومؤسسات النقد وللدول المشاركة في الاتفاقية وشرائه منها، أي أنها تعهدت بإبدال الدولار بالذهب أو الذهب بالدولار بواقع 35 دولارًا للأونصة. ولما كان النقد الأميركي هو مقياس عملات البلدان الموقعة على اتفاقية "بروتون وود" فتكون تلك العملات متأثرة بوضعه، مع ذلك يتوجب على دوله المحافظة على قيمة عملتها وقيمة الدولار, لأن الدولار هو الشريك الوحيد في سعر الصرف, وبهذا ضمنت أيضا أمريكا محافظة جميع الدول على سعر صرف الدولار بدلاً من أن تقوم هي بهذه المهمة، ما أفسح الفرصة أمام نقدها كي يبقى المسيطر ولا شريك له.
أما عن ميزان المدفوعات فإن نظام النقد نص على أن تبقى الدول من غير عجز أو فائض لما في العجز والفائض من مساس بدول أخرى, وهذه النقطة بحد ذاتها كانت موضع خلاف خلال مؤتمر "بروتين وود" حيث كان توجه الولايات المتحدة التساهل مع الدول ذات الميزان الفائض، أي هي بالذات؛ لكونها الدولة الأولى التي لديها فائض في ميزان مدفوعاتها، كما قوبلت بالرفض الأميركي المطالبة بفرض غرامة تصل إلى 1% على الفائض في ميزان مدفوعات الدولة، بحجة أنه يمكن للدولة التي لديها فائض في ميزان مدفوعاتها معالجته عبر عدة وسائل منها زيادة النفقات أو تخفيض الصادرات وزيادة الاستيراد بتخفيض التعريفة الجمركية، أو بتقديم مساعدات للدول الفقيرة.
أما الدول التي يعاني ميزان مدفوعاتها من عجز مزمن فإن صندوق النقد الدولي يفرض عليها اتخاذ إجراءات علاجية لإيجاد التعادل والاستقرار، وأوجب أن تتجاوز تلك الإجراءات مسحوبات الدولة من رصيدها في احتياطي صندوق النقد، وأن لا تصل إلى حد تخفيض قيمة العملة إلا في حالات استثنائية.
لكن ما لا يتم الالتزام به في الكثير من الأحوال اليوم، بل ويخالف ما نصت عليه اتفاقية "بروتين وود" عند تشكيل صندوق النقد الدولي هو خفض قيمة نقد الدول الموقعة, فالتطورات دفعت بالكثير منها إلى اتخاذ هذا الإجراء لأن صناعاتها بحاجة للقدرة على المنافسة في الأسواق الخارجية ما يرفع من حجم الصادرات ويخفض بالتالي أسعار السلع المنتجة، ويرفع أسعار السلع المستوردة، ويقلل الاستيراد، ويحافظ على مستوى الأجور.
أما عن الاحتياط النقدي فينص النظام المالي وقواعد صندوق النقد الدولي على أن يتكون من هذا الثلاثي: الذهب والدولار والجنيه الإسترليني. لكن ولأن الذهب لا يكفي لتوفير السيولة النقدية اللازمة عند وقوع أية دولة في مشكلة أسند إلى الدولار هذا الدور، ما جعل معظم الأرصدة في بنوك العالم بالنقد الأميركي، وجعله قوة ضغط. إلا أن ذلك قد تغير مع التغييرات العالمية التي حدثت في الربع الأخير من القرن الماضي وحتى اليوم بعد أن قويت عملات أخرى، وظهرت عملات جديدة مثل اليورو الأوروبي، يضاف إلى ذلك خسارة الدولار لقيمته الشرائية كما سبق ذكره.
والعنصر المهم الذي يعتبره خبراء المال دافعًا لتغيير النظام المالي الحالي هو التغييرات الجغرافية السياسية بالنسبة لدول المعسكر الاشتراكي، فهي عاشت لحوالي 70 سنة تقريبًا في ظل نظام اقتصادي وتجاري ومالي مختلف المعايير والنظم، ودخلت اليوم وبعد انفراط عقد هذا المعسكر دائرة التعاملات المالية الدولية، لذا لا بد من تشكيل نظام مالي تكون هي جزءًا منه ،كذلك القوى الاقتصادية والمالية الجديدة في آسيا وأميركا الجنوبية، وكانت تعتبر سابقًا من الدول الفقيرة أو النامية أو المستعمرة من قبل بريطانيا وفرنسا.
والملفت أيضا أن النظام المالي الذي وضع في أربعينات القرن الماضي لم يعط قضايا كثيرة أهمية تذكر، منها الاضطرابات والأزمات المالية الخطيرة في أسواق المال في كل أنحاء العالم، بل تم التعامل معها على الأسس القديمة ما أبقى أزمات مالية من دون حل، أو صعب حلها، وهذا ما شهده العالم منتصف القرن الماضي، حيث رفعت المصانع حجم إنتاجها بشكل قوي عبر ما يسمى الإنتاج بكميات كبيرة وعبر نظام إدارة جديد ما جعل المصانع تحقق أرباحًا كبيرة سريعة بينما بقيت الأجور قليلة، وأصبحت شروط الاقتراض أفضل ما وفر ظروف استثمار جيدة، وهذا بدوره أدى إلى فائض كبير في الإنتاج.
تغييرات مؤثرة:
في السابق وصفت الأنظمة المالية التابعة للحكومات بأنها أنظمة مالية دولية، وهذا شمل أيضا دول تعتبر من الدائنين الدوليين والمدينين، لكن منذ ثمانينات القرن الماضي لوحظ زيادة حجم التكامل الدولي للأسواق المالية. فعلى سبيل المثال أصبح التداول المالي الدولي يأخذ مكانه عندما يقوم مستثمر من القطاع الخاص من الولايات المتحدة الأميركية بشراء سندات مالية ألمانية، أو عندما يشتري مصرف ألماني سندات حكومية روسية، وعليه يمكن قياس التكامل المالي وفقًا لمعايير مختلفة وليس كما ينص النظام المالي الحالي، وهذا رفع على سبيل المثال حجم معاملات الأوراق المالية عبر الحدود بين الولايات المتحدة وألمانيا واليابان من 15 في المائة من الدخل القومي الإجمالي ما بين عامي 1975 و1979 إلى 600 في المائة مابين عامي 1995 و2000. ومنذ عام 1990 زاد أيضا حجم التدفقات المالية بين البلدان الصناعية والبلدان النامية والناشئة بشكل ملحوظ جدًا إلا أن القسم الأكبر من المعاملات المالية لا يزال يأخذ مكانه بين البلدان الصناعية. ويظهر جليًا زيادة أهمية المعاملات المالية الدولية بالنسبة للصرف ومبيعات التصدير. ولقد وصل حجم الصرف النقدي اليوم على صعيد العالم إلى 372 ترليون دولار، وحجم مبيعات التصدير إلى 5،4 ترليون دولار, مع ذلك لا تزال التجارة البينية الوطنية في السلع وأسواق المال أكثر أهمية من التجارة الدولية.
مؤشرات عدم جدوى النظام المال الحالي:
لقد ظلت الأزمات المالية العالمية تختفي وراء الأحداث لكنها اشتدت ولم يعد بالإمكان إخفاء حقائق واضحة بأن النظام المالي ذاهب باتجاه الهاوية إلى أن بدأت انهيارات في أسواق الأسهم العالمية عام 2001 ثم بانت واضحة جدا عام 2008 وسميت بالسنة الأشد سوادًا، حيث كان إفلاس وانهيار المصارف العريقة التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ أو بالأحرى أحد ركائز النظام المالي في تعاملاتها مثل حجارة الدومينو، وبدأت أول فصولها في الولايات المتحدة موطن توقيع اتفاقية إنشاء النظام المالي العالمي. ففي منتصف العام المذكور أعلن إفلاس "بير سترينز" وهو أحد أكبر المصارف الاستثمارية وشركات المضاربة العالمية، واستحواذ بنك "جي بي مورغن تشايس" (تأسس عام 1923) عليه بعد أن انهار سعر سهمه من 133 دولارًا إلى عشرة دولارات، وذلك بسبب أزمة الرهن العقاري وتفاقمها، ثم كرت المسبحة كما يقول المثل، ليطال الإفلاس مصارف عريقة ومعروفة أميركية وأوروبية رافقه انهيار أسعار الأسهم بسرعة كبيرة. واشترت مصارف صغيرة بنكي "فاني ماي وفريدي ماك"، وكانا مصرفين شبه حكوميين للرهن العقاري. وواجهت بورصة "وول ستريت" أزمة لم تعرفها سابقا، ففي الحادي والثلاثين من شهر مارس تراجع مؤشرها بسرعة فائقة بنسبة 7،6 في المائة؛ فتأثرت به كل أسواق الأسهم العالمية الأخرى، أيضًا مؤشر"داكس".
وعلى الرغم من خطط الإنقاذ هنا وهناك خاصة في الولايات المتحدة إلا أن الأسواق العالمية للأسهم المالية أصيبت بنكسة ما زالت تعاني منها حتى اليوم. ولم يهدأ الوضع بل تتابعت سلسلة الانهيارات المالية التي جرفت معها مؤسسات معروفة، مثل "ليمان برذرز" للخدمات المالية الدولية (تأسس عام 1850) فأحدث هزة في الأسواق المالية العالمية، وتابع "داوو جونس" انهياره من 12 ألف نقطة إلى 8451 نقطة. أي أنه وخلال عام 2008 خسر أكثر من 33 في المائة، ولم يكن وضع مؤشرات أخرى مثل مؤشر داكس الألماني بعد انهيار "ليمان برذرز" أيضا أفضل، فهو تراجع بأكثر من 40 في المائة ليصل إلى 4810 نقطة. قابل ذلك زيادة دمج المصارف، منها ما حدث عام 2008 حيث اندمجت عشرة مصارف دولية نشأ عنها صندوق للسيولة بقيمة 70 مليار دولار لمواجهة أكثر حاجاتها إلحاحا، ولكي تتماشى من متطلبات أسواق المال.
من جانب آخر امتدت الأزمة لتشمل دولاً أوروبية وآسيوية خليجية وبلدانًا نامية ترتبط اقتصادياتها مباشرة بالاقتصاد الأميركي خاصة بعد وصول عدد المصارف التي انهارت في الولايات المتحدة لوحدها غلى 19 بنكًا.
لكن في المقابل فإن هناك بلدانًا لم تتأثر بالأزمة مثل الصين وإيران وروسيا، حتى إن بعض خبراء المال ينصحون باستبدال النقد الأميركي بعملات أخرى كي لا يؤثر عليها.
الدولار يفقد مكانته كعملة احتياطية دولية:
وبناء على هذه التطورات كتب البروفيسور "توماس أمانويل شتاينبرغ" قائلاً: طالما بقي الجزء الأكبر من التجارة العالمية وبالأخص تجار النفط بالنقد الأميركي (الدولار) يمكن للولايات المتحدة تحقيق التوازن وتسديد عجزها في الحساب الجاري بزيادة الدولار، لكن العلامات التي تدل على فقدان النقد لمكانته تزداد.
ويضيف، وما يزيد من صعوبة الوضع طبع أموال جديدة من دون تغطية ذهبية، وهذا يخالف قواعد النظام المالي العالمي. فالكثير من الدول تطبع نقدًا جديدًا دون توفير تغطية ذهبية له، منها الولايات المتحدة التي كما سبق وذكر وضعت علامة استفهام حول مصير احتياطيها من الذهب، فهي القوة المالية الكبرى التي تطبع كميات من الدولارات بشكل غير مسئول، وتضغط في نفس الوقت على الآخرين لاعتماد التوفير القاتل. ومن المعروف أن واشنطن رفعت عام 1973 دعمها للدولار.
التغييرات المهمة التي طرأت:
بعد أن كانت تملك الولايات المتحدة أكبر احتياطي ذهبي في العالم بدأت تغييرات جوهرية تطرأ تتعلق بتداول الذهب تجاريًّا، ما جعل المصارف المركزية في العالم تشتري المزيد من الذهب عام 2012 أكثر مما كان عليه في أي سنة منذ عام 1964 ما شكل بذلك 12 في المائة مقارنة مع عام 2011 وكان 10 في المائة، كما كسرت الصين الرقم القياسي لكل الأوقات بشرائها في شهر ديسمبر من العام الماضي 14.4 طن من الذهب، بينما تدفع تركيا إلى إيران بالذهب ثمن كميات الغاز الذي تشتريه، وكما يبدو فإن مشتري الذهب يدخلون في الحسبان انهيار نظام تسعير النفط بالدولار.
كما تشهد التداولات النفطية أساليب جديدة في الدفع، فالصين تدفع جزءًا من ثمن النفط الذي تشتريه من إيران بنقدها الوطني "اليوان" وجزءًا آخر بالمقايضة، أي النفط مقابل السلع والبضائع. ويبدو أن اليابان والصين نسيتا العداء القديم بعد أن اتفقتا على وضع خطة للاستغناء عن النقد الأميركي، واللجوء عند التبادلات التجارية إلى نقدهما الوطني، وتجري حاليا مفاوضات بين كوريا الجنوبية والصين من أجل اعتماد نفس الخطة، وهذه خطوة مهمة إلى الأمام حيث إن الصين واليابان وكوريا الجنوبية مسيطرة اقتصاديا على المنطقة. وتسعى الصين وروسيا إلى تسوية تجارتهما باستخدام الروبل واليوان. وتتبع الهند نفس الأسلوب تقريبا، فهي تدفع 40 في المائة من ثمن النفط الإيراني بالروبية، فتستخدم إيران هذا النقد من أجل شراء بضائع هندية. واتفقت اليابان والهند نهاية عام2011 على نوع من المقايضة المالية فيما بينهما بقيمة 15 مليار دولار، وتوجد نفس الاتفاقية بين البرازيل والصين، ووقعت في يونيو عام 2012وسبق ذلك اتفاقية بين الصين واليابان.
وأول دولة نفطية خليجية تنضم إلى القافلة هي الإمارات العربية المتحدة التي عقدت مع الصين اتفاقية يقتضي بموجبها دفع الصين ثمن النفط الإماراتي بعملتها الوطنية اليوان. وذكر المصرف المركزي الصيني بأن قيمة هذا العقد تصل إلى 5،5 مليار دولار وذلك بهدف تعزيز التعاون المالي، وتشجيع التجارة والاستثمار، وسعيا من كلا الجانبين لتأمين الاستقرار المالي في المنطقة.
وتريد الصين تدعيم علاقاتها التجارية مع روسيا وماليزيا، لذا سوف تعتمد في تعاملاتها التجارية مع البلدين بعملتها الوطنية "الروبل والرنغيت" كما اليوان الصيني.
وتتسع دائرة البلدان التي أسقطت التعامل بالدولار من حساباتها، فمجموعة "بريكس" وتضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقا اتفقت خلال آخر اجتماع لها في سانيا الصينية على خطوط الائتمان المتبادل في عملات هذه البلدان، وهذا تطور ضخم لأن بلدان "بريكس" ستكون كتلة اقتصادية عالمية مهمة مستقبلاً.
ويأتي موقف الأمم المتحدة داعمًا للمطالبة بتغيير النظام المالي العالمي، إذ أكد مؤتمرها للتجارة والتنمية على أن النظام الحالي للنقد وقواعد رأسماله الذي يربط الاقتصاد العالمي لا يعمل بشكل صحيح، وكان مسئولاً إلى حد كبير عن الأزمات المالية والاقتصادية, عدا ذلك يجب استبدال الدولار كنقد للتبادل التجاري بعملة دولية أخرى. ليس هذا فقط بل لدى صندوق النقد الدولي توجه أعرب عنه عبر إعلان أصدره يدعو فيه إلى استبدال الدولار كنقد احتياطي دولي من خلال نظام حقوق سحب خاصة يعرف باسم SDRC
أي "حقوق السحب الخاصة" وهو بديل عالمي لعملات دولية أنشئ في عام 1969 وهو من حيث المبدأ سلة من عملات وطنية لدول متعددة صادقت عليه حكوماتها التي شاركت يومها بوضعه.