* حاضرنا بكل ما يختصره من أزمات حادة سياسية واجتماعية وثقافية وأخلاقية واقتصادية، هو نتيجة فكرة أن لبنان يمكن أن يستمر بضعفه. ولكن هناك من يبدو أكثر من متحمس لاستكمال تلك التجربة
«قوة لبنان في ضعفه»،مقولة مؤسس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل، الذي أراد وقتها أن ضعف التركيبة اللبنانية أو انقسامه الطائفي يمنع تحول نظامه إلى نظام ديكتاتوري ويبقى التوافق أساسا سياسيا يتبعه أصحاب الشأن السياسي لحل مشاكل النظام وخلافات السياسيين فيه. واتضح مع مرور السنين أن هذا الضعف هو أساس مشاكل ومصاعب أكبر لا يمكن حلها بالتوافق فقط.
فمثلا يتضح اليوم أن ضعف لبنان يشكل قوة حزب الله. فالحزب استطاع استغلال «ضعف النظام»متسلحا بقوته التي راكمها عبر السنين بحجة مقاومة إسرائيل من صواريخ ومال ودعم إيراني مفتوح وآيديولوجيا تربط مناصريه بعضهم ببعض واستراتيجية واضحة للحلف المنتمي إليه يبدأ في طهران ويشمل سوريا ولبنان واليمن والعراق حتى الساعة، ليضع يده على لبنان. حزب الله ومن وراءه يمضيان في تمكين الجبهات التي تربط الدول ذات التواجد الشيعي بعضها ببعض إلى جانب تحالفات مع بعض القوى الأخرى التي تستفيد من المساعدات المالية الإيرانية بمجرد انضوائها تحت لواء المتاجرة بالقضية الفلسطينية مستفيدين من ضعف تركيبة هذه الدول. ويتضح مع الوقت أن إيران نجحت في تثبيت هذه الجبهات في أكثر من مكان.
هذا الحلف تنفس الصعداء بانتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة الأميركية والذي أعرب عن رغبته في استعادة سياسة انفتاحية على إيران، مما يؤدي عمليا إلى تخفيف الضغط المالي والعسكري عنها والذي مارسته إدارة الرئيس ترامب عليه ويعطيها هامشا بالتالي أكبر للتحرك والتصرف بالعواصم التي تسيطر عليها.
وفي المقابل ليس هناك أي فكرة أو مشروع من قبل معارضي حزب الله يمكن الركون إليه أو السعي لتحقيقه أو حتى تقديمه للقوى الفاعلة كبديل عن مشاريع جبهة الممانعة. بل على العكس هناك تمسك بفلسفة «قوة لبنان في ضعفه»السبب الأساسي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. وينادي بطريرك الموارنة بمؤتمر دولي ليؤكد على الصيغة اللبنانية. أي يريد للدول الفاعلة رعاية مصالح الطوائف في لبنان بشكل لا يكون هناك غلبة لطائفة على أخرى على حد تعبيره. أليس هذا ما حصل بعد مجازر 1860 حيث نظمت الدول الفاعلة مؤتمرا دوليا أرست من خلاله نظام المتصرفية وأعطت شكليا الحكم لمتصرف «مسيحي»بينما القرار كان بيد الجزار وغيره من جزاري الباب العالي؟ البطرك الماروني يريد تكرار التاريخ غير آبه بنتائج الماضي.
ومن الواضح أن لا أحد في لبنان يريد أن يقيم مراجعة في العمق لنظام عمره مائة عام، لماذا؟ لأن النتيجة ستكون بمثابة الاعتراف بفشل النظام اللبناني الذي قام على مبداْ امتيازات الطوائف وليس على حكم القانون وستدين تلك المراجعة أمراء الطوائف الذين طبقوه واستفادوا منه وهذا ما يرفضونه.
النظام اللبناني بني على امتيازات انتزعتها الطوائف غالبا على حساب الطوائف الأخرى وبدعم خارجي دائما ما جعل لبنان مركزا عديم الاستقرار لسبب تغير وتبدل موازين القوى داخليا مثلا من الناحية الديموغرافية أو من ناحية الثقل التجاري والاقتصادي (بعد الحرب الأهلية مثلا)، وخارجيا من خلال بروز قوة عالمية وإقليمية على حساب قوى أخرى لها مصالح مختلفة.
من هنا الاستجداء لقيام مؤتمر دولي من أجل حماية امتيازات الطائفة المارونية لن يقدم أو يؤخر شيئا في واقع الحال الديموغرافي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. وكلمة الفصل في هذا الموضوع اليوم ليست لمن أعطى مجد لبنان ولم يستطع تطويره إلى أكثر من نظام ملي، إنما للأقوى الذي استطاع انتزاع امتيازات لطائفته بفضل تفوقه في الداخل وتفوق داعميه في الخارج. قوة لبنان لا يمكن أن تكون بإلغاء المواطنية على حساب الانتماء الطائفي، أو إلغاء العدالة والقانون على حساب التسويات.
إن حاضرنا بكل ما يختصره من أزمات حادة سياسية واجتماعية وثقافية وأخلاقية واقتصادية هو نتيجة فكرة أن لبنان يمكن أن يستمر بضعفه. ولكن هناك من يبدو أكثر من متحمس لاستكمال تلك التجربة.