*هذا هو حال لبنان اليوم، لا يستطيع التحرر من أعباء الماضي، فهو في مكان ما يهواها، ولا يمكنه أن يتحرر من أعباء اليوم، لأنها أصبحت أكبر من قدرته على التخلص منها. لبنان عالق بين زمنين لا يؤسسان لمستقبل إيجابي للأسف
اللبنانيون بأغلبيتهم عالقون بين زمنين. الزمن الأول الذي يمتد من إعلان لبنان الكبير، وحتى بدء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 أسست له بورجوازية ذاك الوقت، وكان أساسا يرتكز على تناقضات كثيرة ستعلن موته حتما في المستقبل من الأيام. أما الزمن الثاني فأركانه هم أمراء الحرب الأهلية الذين لم يحسنوا الاستنتاج من أخطاء من سبقهم لتفادي نفس الأخطاء (وكيف لهم من سبيل لذلك، وهم الآتون من رحم القتل والإجرام) فشرعوا في تثبيت أمراض الطائفية وبرعوا في نهب الدولة وأسسوا لشريعة غابٍ السلطة فيه للأقوى، فاصبح الأسد في غابة لبنان حزبا دينيا عقائديا ومذهبيا أقوى من الدولة نفسها، يعتمد عليها فقط كمنصة لانطلاق عملياته العسكرية والتجارية الإجرامية ولإطلاق العنان لأحلام عقائدية تريد أن تربط أبناء طائفته بعضهم ببعض أينما كانوا ووجدوا، قافزة فوق السيادات الوطنية للبلدان التي يقيم فيها أبناء تلك الطائفة.
في الزمن الأول قام البلد على فلسفة سياسية متضاربة المفاهيم كما وصفها فواز طرابلسي في كتابه «تاريخ لبنان الحديث»،حيث قال إن «الدستور يقوم على فصام سياسي. إنه يؤكد المساواة السياسية والقانونية والمدنية لجميع اللبنانيين، بقدر ما يؤسس للامساواتهم السياسية والقانونية والمدنية بما أنهم رعايا ينتمون إلى جماعات دينية متراتبة تتوازع حصصا متفاوتة من السلطة السياسية والوظيفة العامة».
هذه المحاصصة الطائفية كانت نتاج اتفاق سري غير مكتوب، اخترعته بورجوازيات بيروت المسلمة والمسيحية وقام شكليا على رفضين؛ رفض المسيحيين هيمنة الغرب على قرار لبنان من خلال الموارنة، والثاني رفض المسلمين فكرة ذوبان لبنان في أمة عربية أو إسلامية واحدة، من خلال الأكثرية السنية. ولكن هذا الاتفاق لم يكن سوى حجة لتقاسم وظائف الدولة بين الطوائف بشكل يميل لصالح الموارنة قبل اتفاق الطائف طبعا.
ظنت البورجوازية لدى الطائفتين الأبرز في لبنان أي المارونية والسنية واللتين كانتا ممسكتين بزمام الأمور الاقتصادية والسياسية أنها تستطيع حل عقد النظام ومشاكله حول موائد فاخرة تجمعها في أحد قصورها الفارهة. تلك البورجوازية وقعت في أخطاء تقدير قدرتها في استيعاب الشارع خاصتها والإبقاء على تزعمها له والتأكد من عدم جنوحه نحو احتراب أهلي بالرغم من تناقض تصرفاتها، بحيث كانت تتبنى خطابين، واحدا علنيا طائفيا موجها لجمهورها، تؤكد فيه التزامها بالدفاع عن حقوقه وخطابا آخر بين أعضاء نادي تلك البورجوازية من كل الطوائف قائما أساسا على التفاهمات التي جمعتها في هذا الوطن وعلى رعاية مصالحها. كما أن حل الخلافات بينها كان دائما ثمرة تسويات تقدمها لجمهورها المحتقن على خلفية أن التلاقي وتسامح أبناء لبنان وفرادة التنوع الديني فيه هي أفضل الخيارات، ولو أن هذه التسويات كانت تأتي غالبا على حساب العدالة وليس دائما لحساب الخير العام. الانتليجنسيا اللبنانية التي لم تيأس من فشل هذا النموذج حتى مع انفجار الحرب الأهلية اللبنانية ظلت تعيرها بأنها «حرب الآخرين»على أرض لبنان.
بعد الحرب، انحسرت سلطة البورجوازية اللبنانية حتى اختفت، وظهر مكانها قيادات أفرزها الاقتتال الأهلي سيطر عليها حافظ الأسد حتى مماته، وإيران بواسطة حزب الله منذ اغتيال الرئيس الحريري وحتى يومنا هذا، فأصبحت تمثل ثقلا اقتصاديا وسياسيا، طبعا من دون الثقل الثقافي الذي تمتعت به طبقة البورجوازية اللبنانية قبل الحرب الأهلية. مع هذا التغيير انتقلت السلطة إلى الشارع وفتوته بعد أن ظنت تلك البورجوازية أن بإمكانها السيطرة عليه، وتدجينه، فإذا به يطيح بها ويفرض منطقه ومفرداته وثقافته على البلد من دون أن يحيد عن الأسس الطائفية والمذهبية التي قام عليها البلد، ولكن بمستوى أكثر قذارة وبشاعة. الأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى وهي منتشرة بكثافة في الصحافة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وبين الناس، وهي تجمع بين التخلف والكراهية. هكذا انتقل لبنان من كونه ناديا بورجوازيا إلى غابةٍ الحكم فيها للأقوى.
اللبنانيون ما زالوا منقسمين بين هذين الزمنين. فالنوستالجيا تشد أصحابها إلى الزمن الأول حيث تستهويهم الأشكال من دون المضامين، فترى مثلا في إنشاد أب كنسي ترتيلة «الأم الحزينة»في دفن مسلم هو لقمان سليم حقيقة لبنان، وإن كان هذا العمل في الشكل جميلا إلا أنه لا يعبر فعليا لا عن ماضي البلد ولا عن حاضره ولا يرتب أية تداعيات على العقد الاجتماعي الذي يربط جماعاته بعضها ببعض. هذا المشهد لا يؤسس لموجة مثلا جارفة تقف مع الزواج المدني في لبنان، أو يشد أغلبية شعبية نحو نبذ الطائفية السياسية. أبدا.
أما الآخرون، فهم شديدو المذهبية يمعنون اللعب على الوتر الطائفي ويقومون على إجراء التسويات الثنائية بشكل يبقي على «التوازنات»في البلد ولا يعطي غلبة لفريق على آخر، ولكن كله ضمن سقف وإطار ورضا أسد الغابة. هذا النموذج هو مدعاة أزمات كثيرة ومشاكل كبيرة.
هذا هو حال لبنان اليوم، لا يستطيع التحرر من أعباء الماضي، فهو في مكان ما يهواها، ولا يمكنه أن يتحرر من أعباء اليوم، لأنها أصبحت أكبر من قدرته على التخلص منها. لبنان عالق بين زمنين لا يؤسسان لمستقبل إيجابي للأسف.