* إن كانت مصالح السوريين غائبة، وإن كانت وفود المعارضة تمثل مصالح الدول والأجهزة الداعمة لها، فلا بد من إيجاد آلية لوضع نهاية لمعاناة عشرات الآلاف من المعتقلين وذويهم
بعد فشل الجولة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف، انعقدت في منتجع سوتشي أعمال الجولة الـ15 للمفاوضات في إطار «مسار آستانه»بحضور ممثلين من البلدان الثلاثة الضامنة (روسيا، وتركيا، وإيران) وبمشاركة وفدين من النظام والمعارضة.
عندما انطلق مسار آستانه في 2017، تم الاتفاق بين الدول الضامنة على إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد، في الجنوب (درعا والقنيطرة) وغوطة دمشق، وشمال حمص، وإدلب. ورغم ذلك قامت روسيا بتصفية المناطق الثلاث الأولى، والسيطرة عليها مع إيران وقوات النظام الواحدة تلو الأخرى، بدءًا بغوطة دمشق، ثم درعا وشمال حمص. ولكن كل ذلك لم يدفع تركيا ووفد المعارضة السورية الموالية لتركيا لوقف هذا المسار، لا بل استمر الفشل سيد الموقف إضافة إلى تقديم التنازلات الواحد تلو الآخر دون مكسب حقيقي واحد للسوريين إن كان ميدانيا أو سياسيا. لا بل إن التنازلات التي قدمت في مسار آستانه رافقتها تنازلات وإخفاقات في المسار السياسي، فتحول الحديث من تشكيل هيئة حكم انتقالي كما نص بيان «جنيف-1»، إلى محادثات عبر لجنة دستورية، تتفاخر دول آستانه بأنها نتاج اتفاقاتها بما في ذلك مؤتمر سوتشي للحوار السوري الذي رعته روسيا في سبتمبر (أيلول) 2018.
ويقول المتحدث باسم وفد المعارضة السورية إلى آستانه، أيمن العاسمي في تصريح صحافي، إنه «عندما نتحدث عن جنيف ونرى أن الأمم المتحدة لم تقم بما يجب أن تقوم به، فما علينا إلا أن نرجع إلى مسار آستانه لنضع القطار على السكة بشكل واضح والنتائج الملموسة يذهب بها لجنيف ليتم تأطيرها»، وأضاف: «إن لم تكن هناك دفعة قوية للجنة الدستورية فربما يتم النظر في مسارات أخرى».
ولم ينس العاسمي- بعد حديثه عن فشل جنيف وفشل اللجنة الدستورية- التأكيد على أن «أجندة الاجتماعات في سوتشي ستشمل قضية المعتقلين».
وعند انطلاق أعمال آستانه عام 2017، جاء في بيان الاجتماع الأول «الاتفاق على وقف إطلاق النار بين النظام والمعارضة، وإطلاق المعتقلين»، في الاجتماعات الـ13 اللاحقة، تم ذكر «تعثر ملف المعتقلين»، واليوم يؤكد العاسمي أنهم ما زالوا يبحثون ملف المعتقلين، 15 جولة ولم يتمكن وفد المعارضة ومعه تركيا من الضغط لإطلاق معتقل واحد من سجون الأسد، ولكن العاسمي نفسه يعتبر أن مسار آستانه هو من يضع القطار على السكة، فأي قطار وأي سكة وإلى أين يتجه هذا القطار؟ إن كان من نتائج هذا المسار تسليم المناطق الواحدة تلو الأخرى للنظام عن طريق حلفائه، وإن لم يستطع هذا المسار إطلاق سراح معتقل واحد بعد 4 سنوات على انطلاقه؟
وقبل أيام أطلق ناجون من السجون السورية وعائلات محتجزين ومفقودين أول نداء جماعي من أجل العدالة، عبر ميثاق حمل رسالة واضحة: «أوقفوا التعذيب في المعتقلات فوراً واكشفوا عن مصير عشرات آلاف المفقودين. عندها فقط يمكن إيجاد طريق لإنهاء الصراع السوري».
في الواقع فشلت جميع جولات المفاوضات بوضع هذا الملف الإنساني وغير القابل للتفاوض أساسا، على سكة الحل. ومع كل الفظائع التي ظهرت مع شهادات ناجين من معتقلات الأسد وصور قيصر وشهادة حفار القبور، إلا أن هذا الملف حتى اليوم لم توله المعارضة بدايةً الاهتمام اللازم ولم تفرضه على أي طاولة مفاوضات، علما أنه من الملفات التي اعتبرت قبيل انطلاق جنيف 2014 بأنه غير قابل للتفاوض، ويجب حله قبيل الحديث عن أي مواضيع تفاوضية أخرى.
فشلت جولة آستانه إذن في الحفاظ على وقف التصعيد في المناطق الأربع، وفشلت في إطلاق معتقل واحد، ومع ذلك يرى وفد المعارضة إليها أنها عملية يجب أن تستمر، لا بل يرون مسار آستانه مسارا ناجحا إذا ما قورن ببقية المسارات، فعن أي نجاح يتحدثون؟
لقد سمح مسار آستانه لتركيا بتنفيذ عمليتين عسكريتين داخل الأراضي السورية، الأولى: هي عملية درع الفرات (2016-2017) شمالي حلب. والثانية: هي عملية غصن الزيتون (2018) في عفرين، كما نشرت قوات لها في شمال إدلب بموجب اتفاق إدلب (2017) مع روسيا، وبذلك تمكنت تركيا من تحقيق مصالحها والسيطرة على أراضي شمال سوريا وقطع الطريق أمام مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي المتمثل في إقامة كيان له في الشمال السوري.
وعلى صعيد آخر، تذكر تقديرات «الشبكة السورية لحقوق الإنسان»إلى أن عدد المعتقلين أو المختفين قسراً في سوريا بلغ 149 ألفاً، أكثر من 85 في المائة منهم على يد النظام.
وينقل تحقيق صحافي عن الناشطة في ملف المعتقلين مريم الحلاق، والدة أيهم (25 سنة) الذي كان طالباً بالدراسات العليا في طب الأسنان، عندما تعرض للاختطاف من حرم جامعة دمشق، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 وقتل تحت التعذيب، ينقل عن لقائها وأهالي المعتقلين، المسؤول الأممي غير بيدرسون: «عندما اجتمعنا معه في 2019 لقيت نفسي عم قله بدي قبر لابني… وقلتله منشان ما نطالب بقبور للمعتقلين اعمل على إخراج المعتقلين. وضع إيده على صدره وقال هذا أول الملفات وأول حديث مع النظام».
فإن كانت مصالح السوريين غائبة عن هذه المسارات، وإن كانت وفود المعارضة تمثل مصالح الدول والأجهزة الداعمة لها، فلا بد من إيجاد آلية لوضع نهاية لمعاناة عشرات الآلاف من المعتقلين وذويهم، فبين آستانه وسوتشي والدستور، مأساة يومية مستمرة لآلاف البشر.