* احتمال أن يكون حزب الله قد أعدمه هو أقرب إلى الواقع، رغم أننا نعلم جميعا أن الحقيقة ستطمس كما طمست غيرها من الحقائق قبلا
لا داعي للكلام عن لقمان بعد. فالمقالات أصابت في أنه رجل هادئ ومحترم، شغوف باللغة العربية، يحب الثقافة والجدل، هو ناشر ومنتج سينمائي ومحلل سياسي وناشط في مجتمعه أيضا. أذكر أنه دعاني يوما لحضور حفلة تخرج نساء من مختلف المناطق اللبنانية أتممن دراسة اللغة الإنكليزية، وكان وقتها بحضور السفيرة الأميركية سيسيون، إذا لم تخني الذاكرة، فقد كان هذا البرنامج يحظى بمساعدة إحدى الوكالات الأميركية«إل يو إس إيد». كان الرجل يقيم حلقات نقاش سياسية وندوات في دارته التي أفرد لها مكانا لاحتواء تلك النقاشات. كان يعمل في مجال حفظ ذاكرة الحرب فكانت «أمم»التي تولت السفارة السويسرية دعمها. دارته كانت في قلب حارة حريك حيث البيئة الحاضنة لحزب انتصر على فرض نفسه ممثلا لطائفته من خلال عمل دؤوب استمر لعقود، منه العسكري ومنه الديني ومنه الاجتماعي ومنه المالي. حزب مدعوم من دولة إقليمية مؤثرة جدا وهي إيران.
لقمان لم يخفِ يوما علاقاته العديدة؛ إن كان بالإدارات الأميركية أو بمراكز الأبحاث فيها أيضا، أو بالسفارات الغربية. ولم يكن سرا أن الرجل كان يقدم أجوبة على أسئلة كانوا يطرحونها تتعلق خاصة بالطائفة الشيعية وبالدينامية التي تتحكم بعلاقتها بحزب الله. لم يخف يوما وجهة نظره وهو كان على اقتناع بأن تلك الطائفة يجب أن تدفع ثمن التصاقها بهذا الحزب وأن يختبر أبناؤها نوعا من النكبة علها تعيد لهم بعضا من الوعي بخصوص خياراتهم التي تبدو انتحارية.
أحد ما قرر إعدام لقمان. وهذا ما حدث. من كان على علاقة بالرجل سارع إلى اتهام حزب الله، ومن كان على خصام معه قال إن اغتياله جاء من قبل أعداء «المقاومة»ويدخل في إطار إحداث أعمال شغب وتوترات في المنطقة، خاصة داخل البيئة الشيعية.
احتفاء نجل أمين عام حزب الله بإعدام لقمان بتغريدة عبر فيها عن عدم أسفه لذهاب البعض (تم حذفها لاحقا) ذكر الناس يوم وزعت تلك البيئة الحلوى على المارة احتفاءً باغتيال جبران تويني، أو بعدها، بما سموه تحرير القصير، غير آبهين بمشاعر أهل وأقارب الضحايا. هذه التغريدة وما رافقها من جدل عززت لدى البعض الشكوك حول ضلوع الحزب بإعدام لقمان.
فرضية إعدام لقمان من قبل أعداء الحزب من أجل التخريب لا تستوي أصلا لأن الرجل لم يكن شعوبيا أو محركا للجماهير وهذا لا ينتقص من أهميته كناشط سياسي وإنما يعكس شخصيته التي تميل إلى النقاشات في غرف مغلقة أكثر منها إلى الشعارات الفارغة في الساحات الممتلئة بالجماهير.
احتمال أن يكون حزب الله قد أعدمه هو أقرب إلى الواقع، رغم أننا نعلم جميعا أن الحقيقة ستطمس كما طمست غيرها من الحقائق قبلا. قيل في أسباب الإعدام إن فضاء حزب الله لم يعد يتسع للقمان ونقده، وهذا ممكن وقيل أيضا إنه كان يعمل على ملفات حساسة تخص مالية حزب الله وهذا ممكن أيضا، ولكن تلك النظريات كانت أقرب إلى محاولة لسبر أغوار قرار الإعدام من قبل الأحياء، ليستشفوا إن كان هناك من تعديل من قبل حزب الله في قواعد اللعبة السياسية وتلك التي تتعلق بالتعبير عنه خصوصا. للأسف كل ما قيل لا يهم، لأن القتل في هذه الحالة وسيلة يستخدمها الخصم مهما كانت الأسباب. وبالفعل وصلت الرسالة وبدأ البعض بالتراجع شكلا، وأصبح يزايد على حزب الله في موضوع الكراهية «للعدو الصهيوني»بعد أن كان ولقمان يناديان بـ«الحياد»، أما البعض الآخر فقد شرع «الشحادة»على دم القتيل تناغما مع جيناته «الفينيقو-وصولية»عله يحصل على تمويل من هنا أو عمل من هناك. وحدها والدته وشقيقته كانتا على قدر كبير من الرقي في مواجهة المهم.
المهم، ومن بعد كل الشعر الذي قرأناه في رثاء لقمان، من مثل إنه سيصفق يوما من عليائه، وإن دماءه لن تذهب هدرا، تبقى حقيقة واحدة. لقمان مات. حقيقة وحدها سوف تواجهها وتعايشها عائلته، والدته.. شقيقته.. زوجته.. أولاده.. شقيقه، كل يوم. «الثرثرة»حول اغتيال لقمان ستنتهي ومن الصعب أن يقال لعائلته إن لقمان أعدم، ولكن من دون أن يقدم هذا الإعدام أو يؤخر بشيء في القضية التي أولاها طاقاته وأنه لن يصفق بعد اليوم أو يبتسم، وأن دماءه ذهبت هدرا في بلد هو قال عنه إنه كذبة كبيرة.
لماذا؟
لأسباب عدة، أولها يتعلق بطبيعة القاتل إن صح الاتهام. حزب الله أكبر من لبنان، وهو ابتلعه منذ زمن بقبول معظم الطبقة السياسية، عملا بمثل لبناني مقيت يقول: «الإيد اللي ما فيك لها بوسها وادعي عليها بالكسر». حزب الله يلعب مع الموساد والوكالات الأميركية على أنواعها وهو جزء من مشروع أكبر من أن يهزمه اليوم مجرد تصريح تلفزيوني معارض أو حتى الكشف عن اسم مسهل لأعماله. مشكلة حزب الله اليوم حلها في إيران وليس في حارة حريك للأسف.
ثم، وهو الأهم، أن «الثورة»وبعد عام ونصف من اندلاع الاحتجاجات في لبنان أصبحت أقرب إلى الوهم، وهي لا تتعدى التغطيات الإعلامية وإحصاءات عدد الإعجابات لمنشور أو فيديو «لناشط»على مواقع التواصل الاجتماعي، وكله على خلفية نقاشات عقيمة وانقسامات مذهبية وانتفاخات الأنا التي لا تسعها الكرة الأرضية.
في يوم الوقفة الاحتجاجية لإعدامك يا لقمان علا الصراخ بين المحتجين على خلفية من يلقي كلمة الوقفة ومن مرحب به للتوقيع على البيان ومن لا. أحصيت تقريبا واحداً وأربعين «فصيلا ثوريا»وقع على البيان. نعم واحد وأربعون. فماذا بعد؟
لقمان هذه جماهير بالإجمال ساذجة، على أقل تقدير، بغض النظر عن ميولها السياسية أو عن مستواها العلمي أو عدد اللغات التي تتقنها. بالنهاية هي سبب أساسي في مأساتنا التي نعيش، ولو عرفت تلك الحقيقة لكنت ربما ما زلت حيا بيننا تجادل في إن كانت الروح هي الأخرى مادية أم لا.
في هذا الجزء من العالم ليست هناك قضايا تستحق الموت.