* ليس مستبعداً تخيل وقوع أسوأ سيناريو لطرابلس وسكانها، أثناء انزلاق الدولة كلها إلى الفوضى والفقر
* يواجه لبنان جموداً حقيقياً وهو حبيس دائرة مفرغة لن يتحسن فيها شيء دون إصلاحات وتغييرات حقيقية، في حين ترفض الطبقة السياسية الحالية فعل أي منها
تحولت الاحتجاجات التي خرجت في مدينة طرابلس اللبنانية الأسبوع الماضي إلى أعمال شغب عنيفة عندما اندلعت اشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين، مما أدى إلى مقتل شخص وجرح ما يزيد على 400 آخرين. وألقى المتظاهرون زجاجات المولوتوف والألعاب النارية على مبنى بلدية طرابلس التاريخي، فاشتعلت فيه النيران.
قد تكون هذه المظاهرات- على الرغم من قصر مدتها ومحدودية مكانها- إشارة أو نموذجاً على ما يمكن أن ينزلق إليه لبنان من انهيار وفشل لمؤسسات الدولة.
وعلى الرغم من تمكن قوات الأمن من قمع المتظاهرين وفرض الحظر الكلي، لا يعني ذلك أن غضب الناس تراجع. بل على العكس، يزداد الجوع والخوف كل يوم، ويبدو أن المدينة- ومعها بقية الدولة- على حافة انهيار كبير واضطراب اجتماعي جماعي، وإن كان أكثر عنفاً وفوضوية.
وقد أسرع كثيرون في القيادة السياسية باتهام فصائل دولية وإسلامية بالوقوف خلف الاحتجاجات، متناسين أن طرابلس أكبر وأفقر مدن لبنان، وأن أكثر من نصف اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر. ووفقاً لإحصائيات صندوق النقد الدولي، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 25 في المائة في العام الماضي في حين ارتفعت الأسعار بنسبة 144 في المائة في الفترة ذاتها.
محنة طرابلس
طرابلس ليست أفقر مدينة في لبنان فحسب، بل عانت احتياجاتها للتنمية من إهمال قيادات المدينة والدولة على مدار عقود. فهي تعاني من قلة التمويل والتهميش، على الرغم من إمكانياتها الاقتصادية الكبيرة وبنيتها التحتية. ولكن العديد من الفصائل والقادة السياسيين استغلوا مشاكل المدينة لإبقائها تحت السيطرة واستغلال سكانها من أجل خدمة أجنداتهم السياسية. من حافظ الأسد إلى منظمة التحرير الفلسطينية وحزب الله، بالإضافة إلى العديد من الجماعات الإسلامية، جميعهم استغلوا الحراك النشط في طرابلس على مدار عقود لإثارة توترات طائفية واشتباكات سياسية.
لقد شهدت طرابلس الكثير من أسوأ أعمال العنف في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية. قاتل إسلاميون القوات شمال المدينة في عام 2007، وجلبت الثورة السورية أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين، ولكنها أيضاً أثارت توتراً طائفياً بين سكان طرابلس من السنة والمجتمع العلوي. ونظراً للحرب المستمرة في سوريا، خسرت طرابلس علاقاتها التجارية القوية مع سوريا.
وفي تقرير أعدته وكالة «رويترز»في مايو (أيار) 2020، تعتمد القوى العاملة للمدينة بالكامل تقريباً على الدخل اليومي، ويجني 66 في المائة منهم أقل من دولار يومياً. ويقبع أكثر من نصف الأسر ضمن الفئة الفقيرة، إذ يفتقرون إلى الخدمات الأساسية والتعليم والرعاية الصحية. ومنذ ذلك الحين، تدهورت الأوضاع، وتسبب الإغلاق في منع القوى العاملة اليومية من الحصول على حد الكفاف لإطعام أسرهم.
أضف إلى كل ذلك، غياب قيادة سنية حقيقية- باعتبار أن الغالبية العظمى من سكان طرابلس والشمال من السنة- فلم يساعد أي من السياسيين السنة الحاليين طرابلس ولم يمثلوا سكانها. على النقيض، استفادوا من السكان أثناء الانتخابات والحملات السياسية.
وفي أثناء احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019، حطمت طرابلس النمط المعتاد وشاركت في أكبر وأقوى تظاهرة شعبية معبرة في العام. وعلى الرغم من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والأمية، سميت طرابلس «عروس الثورة»بسبب مظاهراتها السلمية المعبرة عن التنوع والتحضر. ولكن في ظل الإغلاق بسبب كوفيد وتردي الأوضاع الاقتصادية والجمود السياسي، وقع كثيرون في الأحياء الفقيرة بالمدينة تحت خط الفقر، وفقدوا كل شيء فيما عدا التعبير عن غضبهم وخوفهم وإحباطاتهم.
يبدو أن طرابلس اليوم تمثل البداية- شرارة احتجاجات مقبلة في الشوارع واضطرابات اجتماعية لن تقمعها قوات الأمن. سوف تتوالى بعدها مدن وبلدات ومجتمعات لبنانية أخرى على الأرجح، بمجرد أن تزيد وطأة الفقر على قدرتهم على التحمل أو بمجرد أن تنتهي أسوأ مراحل الجائحة. مرة أخرى سوف تقود طرابلس خطاب الشارع وتشعل شوارع لبنان.
التطلع للمستقبل
لا يبدو أن الوضع المالي أو الاقتصادي أو السياسي في لبنان سوف يتغير في المستقبل القريب. يواجه لبنان جموداً حقيقياً وهو حبيس دائرة مفرغة لن يتحسن فيها شيء دون إصلاحات وتغييرات حقيقية، في حين ترفض الطبقة السياسية الحالية فعل أي منها. وعلى الرغم من قدوم الإدارة الأميركية الجديدة أو إعادة تقديم المبادرة الفرنسية، الأمر الوحيد الذي يمكن أن يحقق تقدماً هو تشكيل حكومة.
ولكن تشكيل الحكومة مجرد جزء من التفاصيل، ولا يمكن أن يؤدي إلى تقدم حقيقي من دون إصلاحات جادة. ولا يبدو أن المفاوضات حول تشكيل الحكومة تقدم أي إشارات مبشرة أو جديدة. لا تزال القيادات السياسية تتصارع على حصصها في مجلس الوزراء والثلث المعطل، في حين ينصرف تركيز المجتمع الدولي عن لبنان والشرق الأوسط عامة.
وبالتالي ليس مستبعداً تخيل وقوع أسوأ سيناريو لطرابلس وسكانها، في أثناء انزلاق الدولة كلها إلى الفوضى والفقر. حاول كثيرون من فقراء طرابلس الهروب عبر البحر إلى أوروبا ولقي كثيرون مصرعهم في الطريق. قد تستمر قوارب الموت التي تُهَرِّب اللاجئين السوريين واللبنانيين الفقراء عندما يُفقد الأمل تماماً. ومن يغادرون سيصبحون لاجئين في أوروبا، ومن يبقى سيواجه مصيره.
يتوقع كثيرون أن تشتعل الاضطرابات الاجتماعية في جميع أنحاء طرابلس في الشهور المقبلة نتيجة للفقر والجوع. بيد أن البعض يتوقع مزيداً من التدخل الأجنبي. ولا تخفى محاولات تركيا وبعض الفصائل الإسلامية للسيطرة على المجتمع السني الذي يفتقد إلى قيادة في لبنان. ولن يكون مفاجئاً أن نرى مساعي إيرانية لتجنيد شباب من السنة من طرابلس في ميليشيا حزب الله الموازية، سرايا المقاومة.
لميتطرف السُنة في لبنان، ولا يريدون التطرف. بل هم من أكثر المسلمين «المعتدلين»في المنطقة، وهذا بسبب القيادات والمظلات السياسية السابقة. بيد أنه في ظل غياب القيادة الحالية وفي غياب المساعدة والتوجيه، سيتعرضون لجماعات وفصائل متطرفة، محلية وإقليمية.
طرابلس عاصمة الشمال وثاني مدن لبنان. بها ميناء كبير والعديد من الفرص الاقتصادية مثل الزراعة والصناعة. في الوقت ذاته، بدأت جميع عناصر التطرف في التفاقم، مثل الفقر والأمية وغياب القيادة المعتدلة الحكيمة.
يمكن أن تسلك المدينة أي الطريقين، والاتجاه الذي ستتخذه قد يُنبِئ بمستقبل المجتمع السني على وجه التحديد، ومستقبل لبنان في العموم.