* حتى من داخل حزب الليكود، برئاسة نتنياهو خرجت الانتقادات لمثل هذه المشاركة الواسعة للحريديم التي تعكس عدم امتثالهم لأوامر الشرطة وتطبيق تعليمات الإغلاق
* القبول بانفلات الحريديم وتمردهم، يؤكد من جديد على تفضيل نتنياهو مصالحه الشخصية على المصالح العامة في إسرائيل
تل أبيب: المشاهد التي صدمت الإسرائيليين، من جمهور ومتخذي قرارات أدت إلى انقسام ونقاشات داخل إسرائيل، لجنازة الحاخام المتشدد دينيا (حريدي) الحاخام، مشولام دويفيد سولوفيتشيك، رئيس معهد ديني في القدس، حيث شارك أكثر من 14 ألف متشدد ديني، وبرزت القبعات السوداء التي يرتديها المتدينون متلاصقة الواحدة بالأخرى بلا تباعد اجتماعي وبخلاف تام لكل التعليمات التي أقرتها الحكومة ووزارة الصحة في محاولة للحد من انتشار فيروس كورونا، في وقت كانت إسرائيل في ذروة الإغلاق الثالث في جميع البلاد والقيود المشددة على الجمهور، بمنع الابتعاد عن البيت كيلومتر واحد، وإغلاق المدارس والمصالح والذروة في ارتفاع عدد المصابين والمرضى في حالة خطرة، والوفيات جرّاء هذا الفيروس، الذي لم تتمكن إسرائيل بعد من السيطرة عليه.
الشرطة لم تتدخل. رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، التزم الصمت ولم ينبس ببنت شفة، في وقت ارتفعت فيه صرخات المواطنين وأصحاب المصالح المغلقة، الذين يعيشون حالة تدهور اقتصادي غير مسبوق، أو يعانون هم وأفراد عائلاتهم من آلام الفيروس. وحتى من داخل حزب الليكود، برئاسة نتنياهو خرجت الانتقادات لمثل هذه المشاركة الواسعة للحريديم التي تعكس عدم امتثالهم لأوامر الشرطة وتطبيق تعليمات الإغلاق:
- انتهاكات صارخة في مختلف البلدات اليهودية المتشددة دينيا.
- انفلات وعدم التقيد كبقية المواطنين في إسرائيل.
- التمرد على الشرطة وحتى الاعتداء على عناصرها.
وهذا كله أمام صمت نتنياهو، عشية الانتخابات البرلمانية التي ستجري يوم 23 مارس (آذار) المقبل، الذي يرضخ، بل إنه يغازل هذه الشريحة اليهودية لضمان دعمهم له في الانتخابات، دون أن يبالي لصحة الجمهور الإسرائيلي ولمخاطر انتشار وباء كورونا بطفراته المختلفة.
وزير الأمن، المنافس لنتنياهو في هذه الانتخابات، زعيم حزب «أزرق- أبيض» بيني غانتس، وفور ظهور مشاهد الجنازة غرّد على «تويتر» يقول: «إن هذا بسبب التطبيق غير المتكافئ. يتم حجر الملايين من العائلات والأطفال في بيوتهم والتزامهم بالتعليمات، بينما يتجمع الآلاف من الحريديم معا في جنازة، معظمهم من دون كمامات».
وأضاف غانتس محذراً: «لن نوافق على استمرار إغلاق مزيف وغير فعال. إما أن يخضع الجميع للإغلاق وإما أن يتم فتح كل شيء. لقد ولت أيام التساهل». وأعقبت تغريدة غانتس احتجاجات وانتقادات من مختلف رؤساء الأحزاب، الذين يتفقون على شعار انتخابي «إسقاط نتنياهو».
ضغف نتنياهو أمام الحريديم
القبول بانفلات الحريديم وتمردهم، وكأنهم دولة داخل دولة ومن دون صدور أوامر للتعامل بيد من حديد معهم وصمت نتنياهو، إنما يؤكد من جديد على تفضيل نتنياهو مصالحه الشخصية على المصالح العامة في إسرائيل، من جهة، ونجاح الحريديم في فرض قواعد لعب لنتنياهو، سواء في حملته الانتخابية، أو في حال تشكيله حكومة بعد الانتخابات.
وهناك من وصف ذلك بـ«عار نتنياهو»، وهناك من اعتبر مشاهد الجنازة وقبلها عدم الالتزام في إغلاق المدارس وفتحهم المصالح التجارية وممارسة حياتهم اليومية وكأنهم يعيشون في دولة خالية من فيروس كورونا، بل نظام الغاب الذي لا يلزمهم بأي شيء، بـ«شهادة فقر لزعامة نتنياهو».
وضعية الحريديم في إسرائيل تعكس ضعف نتنياهو السياسي أمام شركائه المستقبليين في تشكيل الحكومة. فنتنياهو يرى في غض النظر عن خرقهم لتعليمات الإغلاق مصدرا للحصول على أصواتهم في الانتخابات، التي من المتوقع أن يواجه صعوبة كبيرة في المنافسة، خصوصا أمام خصمه من داخل حزب الليكود، جدعون ساعر.
ولم يقتصر الأمر على نتنياهو، ففي العديد من تصرفات الحريديم، خلال الإغلاق، تغض الشرطة النظر عنها بل تتعاون معهم، على الرغم من تعرض عناصرها في العديد من الأحيان إلى الاعتداءات، ما استدعى جهات إلى تسمية ذلك «جماعة VIP» وأفضل معاملة من الشرطة، في وقت كانت عناصر الشرطة تلاحق المارة في البلدات الإسرائيلية بسبب «الخوف من التجمع» لعشرات الأشخاص، وتفرض غرامات مالية باهظة.
أحداث اليوم ليست بالأمر الجديد، بكل ما يتعلق بتصرفات الحريديم، حيث تصرفوا فوق القانون، ودخلوا بقوة كبيرة إلى السياسة الإسرائيلية ليتحولوا إلى قوة لا يستهان بها، بل لا يمكن تشكيل أية حكومة، وفق ما هو متوقع، من دونهم.
وعلى مدار سنوات، وعبر الابتزاز السياسي في كل ما يتعلق بتشكيل الحكومة أو التهديد بتفكيكها حصلوا على ميزانيات طائلة من خزينة الدولة، وعلى حساب ميزانيات عامة وبينها للخدمات الاجتماعية والصحية. وقد فرضوا نمط حياة على الدولة العبرية، لم تكن متبعة من قبل، بل إنهم في كثير من الأحيان لم يعترفوا بالدولة على الرغم من حصولهم على جميع الحقوق كبقية المواطنين، إن لم يكن أكثر منهم في بعض الحالات. واعتادوا في الماضي على حرق أعلام إسرائيل وعدم الوقوف عند إطلاق صافرة الحداد في ذكرى «الكارثة والبطولة».
ولعلّ عدم التحاقهم بالخدمة العسكرية، التي تعتبر أمرا إلزاميا لكل مواطن يهودي، كانت من الإنجازات الكبيرة التي نجحوا في تحقيقها بعد حصولهم على تصاريح التهرب من الخدمة في الجيش.
وعلى مدار حقب زمنية مختلفة فرضت هذه الشريحة اليهودية المتشددة دينيا تصرفاتها وسياساتها خلافا لكل القوانين والقواعد المتبعة في إسرائيل:
- منذ بداية الخمسينات، رافقت صراعات الأصوليين ضد الدولة وفتح الأعمال التجارية ودور السينما في أيام السبت، أحداث عنف شديدة. هكذا أيضا الصراع الذي اجتاح جميع التجمعات الدينية ضد قانون التجنيد للجيش الإسرائيلي، الذي شمل أيضا النساء حتى إن هذه الصراعات شملت محاولات زرع عبوات متفجرة.
- في السبعينات تجدد العنف. هذه المرة في إطار صراعات المتدينين ضد إجراء تشريح جثث الأموات والتنقيب عن الآثار في الأماكن التي قيل إنه توجد فيها جثث مدفونة. لقد تصرفوا بحرية مطلقة في مواجهة الشرطة، ونفذوا عمليات ضد بيوت وسيارات علماء الآثار.
- في الثمانينات تجددت صراعات «يوم السبت»، حيث تم رشق السيارات التي سارت في محيط الأحياء الأصولية بالحجارة في أيام السبت. حتى إن والد نائب وزير التعليم، مئير بروش، تعرض في العام 1984 لاعتداءات خطيرة من قبل عشرات الحريديم بذريعة أنه أطلق أقوالا مسيئة لزعاماتهم الدينية. ورقد في المستشفى لمدة أسبوعين للعلاج.
- وفي السنوات الأخيرة ظهر تمرد الحريديم في القدس بشكل لم يسبق له مثيل، خصوصا في رفض انصياعيهم لأوامر الجيش وسرعان ما امتد هذا التمرد إلى بلدات أخرى تسكنها نسبة كبيرة من الحريديم، وتضاعفت اعتداءاتهم لشرائح مختلفة بالأساس ضد المواطنين العرب والتحريض العلني بالاعتداء على كل سائق لمجرد أن تكون ملامحه عربية.
استدراك الحرب الأهلية
يرى العديد من السياسيين والخبراء أن التمرد الحالي لدى الحريديم يعكس «ليس فقط معارضتهم لسيادة وقيم الدولة، بل أيضا الشرخ الداخلي والفراغ القيادي. فعلى الرغم من أنه كان موجودا في السابق، هذا الشرخ الآن كُشف بكامل قوته في أعقاب وباء كورونا، حتى إنه لم يعد حدثا هامشيا أو محددا مثل معركة على شارع في القدس، حيث إن معظم المواطنين أصلا لا يسافرون فيه، فهذه المرة هي معركة ضد الإغلاق لمواجهة فيروس كورونا الذي يلتزم فيه المواطنون، في حين بقيت المؤسسات التعليمية الأصولية والكنائس الأصولية مفتوحة في معظمها».
وبحسب الرئيس السابق لحزب ميرتس، يوسي بيلين، فإن «ما يجري في الأيام الأخيرة في الشارع الأصولي هو ميل متعاظم للتمرد على قواعد اللعب. عندما نسأل حاخاما ينتمي إلى «الجناح المقدسي» عن الفقه حيال قانون الدولة، يقول إن تعليم أطفال إسرائيل هو الذي يعيل العالم، وواضح أنه يقف فوق كل قانون أو قرار حكومة».
ويضيف بيلين: «هذه مسيرة طويلة تسارعت في سنة كورونا، ورد الفعل عليها لا يمكن أن يبدأ وينتهي فقط بالمطالبة في تنفيذ أكثر عنفا للقانون. لم يعد من الممكن العمل قبل الانتخابات لكن هناك ضرورة في خلق حوار مع رؤساء جمهور الأصوليين، أولئك ممن هم غير راضين عن سلوك المتطرفين، وذلك لغرض الوصول معهم إلى تفاهمات حول سلوك الوسط الأصولي في أوضاع رفض قبول حكم الدولة. والقول إن (حكم المملكة هو الحكم) الذي ميز سلوك يهود المنفى، والذي لا ينطبق بالذات في دولة اليهود، يجب أن يتغير قبل أن نجد أنفسنا في حرب أهلية»، وفق بيلين.
الاستيطان لضمان دعم الحريديم لنتنياهو
وإلى حين إجراء الانتخابات، الشهر المقبل، يبقى نتنياهو رهينة بأيدي الحريديم من أجل ضمان أصواتهم ومن ثم تشكيل حكومة. فلن يصمت نتنياهو، إلى حين الانتخابات، على تمرد الحريديم بكل ما يتعلق بالالتزام في تعليمات الحفاظ على الإغلاق، فحسب، بل من المتوقع أن يقدم لهم المزيد من التنازلات. وفي آخر رضوخ لمطالبهم، كشف عن منحه الضوء الأخضر لهم لبناء الحي الخاص بهم في مستوطنة عطرون، شمال القدس.
ووفق ما كشف، جاءت موافقة نتنياهو مقابل توحيد القوى السياسية في اليمين الآيديولوجي، في شكل تنافس مشترك في الانتخابات المقبلة لـ«الصهيونية الدينية» و«البيت اليهودي»، إلى جانب توقيع حركتي «عوتسما يهوديت»، و«نوعم» للتنافس المشترك.
وما يلوح من استعداد للعمل على بناء حي في عطرون كـ«مقابل سياسي» جاء بعد أن رفضت الإدارة الأميركية السابقة، في أواخر ولاية الرئيس، دونالد ترامب، مطلب نتنياهو دفع الخطة إلى الأمام في
عطروت، التي تقع في «الإصبع الشمالي» للقدس، خلف الخط الأخضر، وخلف جدار الفصل، تدرج في «خطة القرن» للرئيس السابق كأرض سيحصل فيها الفلسطينيون على منطقة سياحية خاصة بهم.
وكانت وزارة الإسكان هي التي خططت للحي اليهودي الجديد في عطرون وهو مخصص لنحو 9 آلاف وحدة سكنية. وإذا ما أقر ذلك، فإن الحي سيقوم في معظمه على أراضي المطار القديم في عطرون، الذي تعطل في زمن الانتفاضة الثانية.
كل هذا بأمل أن يشكل الحريديون درعا داعما يضمن تربع نتنياهو من جديد على كرسي رئاسة الحكومة.