* لم تكن سوريا بعيدة يوماً عن عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، فهي لم ترفض يوما التفاوض مع تل أبيب، رغم أنّ تاريخ العلاقة بينهما مرّ بمنحنيات
* قبل رحيل الأسد الأب، انخرط مرات عديدة بمفاوضات عبر الأميركيين، واستكمل الأسد الابن مسيرة والده، فدعا في خطاب القسم الأول له عام 2000، أميركا كي تكون راعياً نزيهاً للسلام
بيروت: قبل نحو الشهرين من موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، حرص الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على إطلاق قطار التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. يومها كثرت التحليلات والمعلومات التي أكّدت أن مسبحة التطبيع ستكرّ لتشمل معظم الدول العربية، ومن بين هذه الدول سوريا، على الرغم من أنّ سوريا لا تزال تحكم من نظام بشار الأسد الذي فقد شرعيته الدولية والعربية، ويواجه عقوبات سياسية واقتصادية قاسية من المجتمع الدولي وعلى وجه الخصوص من الولايات المتحدة.
وقبل نحو أسبوعين خرجت إلى العلن تقارير تحدثت عن لقاء سوري- إسرائيلي برعاية روسية، في قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تضمن البحث عددا من النقاط، بينها مطالبة تل أبيب بإخراج ميليشيات طهران من سوريا، في مقابل طلب من الجانب السوري بـ«تسهيل العودة إلى الجامعة العربية والحصول على مساعدات مالية لسداد الديون الإيرانية ووقف العقوبات الغربية لفتح المجال (أمام دمشق) لإخراج إيران»، وتابع التقرير: «لم ينتهِ الاجتماع لاتفاقات محددة، لكنه يُشكل بداية مسار تدفع روسيا باتجاهه، ويتوقع أن يشهد توسعاً كبيراً في عام 2021».
وعلى الرغم من نفي النظام السوري حصول أي لقاءات تجمعه مع الجانب السوري، إلاّ أنّ تقارير أخرى تحدّثت أنّ موسكو تتولى تبادل الرسائل بين الجانبين السوري والإسرائيلي دون حدوث لقاء قريب، وتحاول تقريب وجهات النظر للوصول إلى اتفاق تاريخي.
بين سوريا وإسرائيل تاريخ من الرسائل
لم تكن سوريا بعيدة يوما عن عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، فهي لم ترفض يوما التفاوض مع تل أبيب، على الرغم من أنّ تاريخ العلاقة بينهما مرّ بمنحنيات منذ عام 1948، الذي يعرف بعام «النكبة» الذي شهد قيام إسرائيل. وقد شهدت العلاقة بين الجانبين على حرب مباشرة ومعارك استنزاف في أعوام 1948 و1967 و1973، إضافة إلى مواجهات على الأراضي اللبنانية في ثمانينيات القرن الـ20. وصولًا إلى الهدنة والاقتراب من عقد اتفاق سلام في أعوام 1991 (مفاوضات مدريد) و1999 في الولايات المتحدة الأميركية، ثم الوساطة التركية عام 2008.
وقبل رحيل الأسد الأب، انخرط مرات عديدة بمفاوضات عبر الأميركيين (4 جولات في واي بلانتايشن)، واستكمل الأسد الابن مسيرة والده، فدعا في خطاب القسم الأول له حين وصل إلى السلطة في العام 2000، أميركا كي تكون راعيا نزيها للسلام، وقال حرفياً: «نؤكد هنا على أننا مستعجلون لتحقيق السلام ولكننا غير مستعدين للتفريط بالأرض ولا نقبل لسيادتنا أن تمس. بمعنى أننا نستعجل السلام لأنه خيارنا والشعب العربي السوري شعب محب للسلام عبر التاريخ»، وهذا ما حصل، بوساطة تركيا ذهب الأسد للتفاوض مع إسرائيل في العام 2008. إلاّ أنّ جميع هذه المفاوضات لم تسمح بالوصول إلى تطبيع شامل، ولكنّها حافظت على الهدنة بين الطرفين. على الرغم من أنّ إسرائيل لم تأخذ جانب طرف في الحرب السورية منذ بدايتها، ولم تسع إلى إسقاط النظام السوري أو دعم أي فصيل معارض له، وهذا ما أكّده وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس الذي قال: «نحن غير معنيين بمن سيفوز بالسيطرة على سوريا، سواء الأسد أو غيره». وفي تصريح آخر قال: «لا مصالح لنا في سوريا ولبنان سوى منع التموضع الإيراني». من جانب آخر تصريح لرجل الأعمال السوري رامي مخلوف ابن خال الرئيس بشار الأسد في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» نشرت عام 2011 قال فيها: «إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا، فلن يكون هناك استقرار في إسرائيل». وهذا دليل على أنّ نظام الأسد على رأس الحكم في سوريا يحافظ على أمن إسرائيل في المنطقة، وسيطرة الهدوء على هضبة الجولان.
وفي هذا السياق رأى رئيس تحرير موقع «أساس» محمد بركات، في حديث لـ«المجلة» أنّ «المحادثات بين إسرائيل وسوريا ستستمر لتصل إلى تطبيع كامل، فإذا لاحظنا أنّ نتنياهو وترامب أيضا كانا حريصين على عدم سقوط الأسد، وما يؤكد هذه النظرية أن الجيش الإسرائيلي لم يوجه أي ضربة على مواقع لقوات النظام السوري رغم القصف المستمر من الجانب الإسرائيلي، ولكن المواقع التي تستهدف على الأراضي السورية هي مواقع تابعة لإيران وميليشياتها، من مواقع عسكرية ومستودعات أسلحة وذخيرة وغيرها، وهذا ما دفع إيران إلى رفع علم النظام السوري على بعض مستودعاتها لأنها تعلم أن إسرائيل لا تستهدف قوات النظام السوري».
وأضاف بركات: «طبعا عدم السعي لإسقاط نظام الأسد نابع من أن هذا النظام نظام أقلوي لا يرتبط عقائديا بإيران، بل ارتباطه التاريخي بالنظام الايراني هو ارتباط مصالح. أيضا هناك علاقة تاريخية بين إسرائيل وسوريا، واتفاق غير معلن على عدم فتح جبهة الجولان، على الرغم من أنّ إسرائيل قتلت قيادات لحزب الله من الجولان إلاّ أنّ سوريا لم تتحرك، وأي عمل عسكري تمّ من جبهة الجولان ضد إسرائيل كان بتوقيع إيراني وليس سوري. وهذا ما يؤكد أن المحادثات ستستمر لتصل إلى علاقات كاملة، وتسوية على الجولان المحتل من قبل إسرائيل وطبعا إخراج إيران وميليشياتها من الأراضي السورية».
المصالح الروسية
منذ دخول روسيا الحرب السورية إلى جانب النظام السوري وحليفه الإيراني وميليشياته، سعت روسيا إلى تطمين إسرائيل الدائم بالتزام موسكو أمن إسرائيل، وأن لا تتحول سوريا إلى مصدر يهدّد هذا الأمن. وأيضا تبرز بين الحين والآخر إلى العلن عن خيوط حرب غير معلنة بين روسيا وإيران، فلكلا الجانبين مصالح وحسابات مختلفة تربطهما بسوريا، ولكنهما اجتمعا على مساندة النظام السوري لإبقائه على رأس الحكم، لما يخدم مصالحهما. ولكن هل تسعى روسيا لأخذ الأسد إلى علاقات تطبيع كامل مع إسرائيل؟
في هذا السياق، يؤكد بركات: «روسيا التي تسعى لإخراج إيران من الأراضي السورية، كون سوريا البقعة الوحيدة التي تسيطر عليها في الشرق الأوسط، وكون الأسد هو رجل بوتين الوحيد في المنطقة، ستسعى لبذل جهودها لإيصال المحادثات بين الجانبين السوري والإسرائيلي إلى مرحلة التطبيع والاتفاق. خصوصا أن المعطيات تشير إلى تواطؤ روسي- إسرائيلي ضد إيران وميليشياتها، والصدام بين الطرفين آت لا محالة.
وطبعا إيران وميليشياتها لن تسكت عما يجري خلف الكواليس، من مسعى روسي لتوطيد العلاقات بين حليفيه، لذلك كانت هناك رسالتان وجههما محور المقاومة إلى بشار الأسد، الأولى عبر أمين عام حزب الله حسن نصر الله في مقابلته الأخيرة عندما تحدث علنا أنّ الأسد وافق على إيصال صواريخ «كورنيت» التي اشترتها دمشق من الروس إلى حماس والجهاد بغزة، أي إنّ الأسد وافق على إيصال مضادات لتتصدى الطائرات الإسرائيلية إلى غزة. الرسالة الثانية كانت عبر وسائل الإعلام برمي خيوط حول علاقة نظام الأسد المباشرة بتفجير مرفأ بيروت، وهي رسالة واضحة للأسد: خروجك من عباءة محور المقاومة سيكلّفك محاكمات في جرائم حرب وإرهاب. طبعا هاتان الرسالتان هما رسالتا استياء من أي تطبيع أسدي- إسرائيلي يمكن أن يحدث في المستقبل».
إذن، بالتأكيد ستستمر موسكو بلعب دور الوسيط إلى حين تطبيع العلاقات بشكل كامل بين حليفيها، خصوصا أنّ إخراج الأسد من حضن «محور المقاومة»، سيؤمن لإسرائيل شبكة أمان جديدة في المنطقة، عبر الحد من النفوذ الإيراني في سوريا، ووقف إمدادات الأسلحة المتطورة إلى تنظيم حزب الله في لبنان، إضافة إلى السلام الدائم الذي سيعمّ على جبهة الجولان.
حزب الله في مأزق حقيقي
مع بداية الحرب السورية واشتداد المعارك ضدّ النظام السوري، لم يحتج حزب الله إلى بذل الكثير من الجهد لإقناع جمهوره ومناصريه، وعناصره بضرورة الذهاب إلى سوريا والقتال إلى جانب النظام السوري لمنع سقوطه، فدمشق بالنسبة إلى المحور الايراني، هي العاصمة العربية الوحيدة التي احتضنت «حركات المقاومة الفلسطينية»، وأمّنت لحزب الله المعابر البرية والجوية والبحرية لإمداده بالسلاح الايراني.
على الرغم من أنّ النظام السوري وحزب الله تجمعهما حقبة من الدماء والمصالح المتناقضة، إبان الوصاية السورية على لبنان، فعندما كان حزب الله يخوض معارك دموية ضدّ حليفه الحالي حركة أمل، كان النظام السوري يتدخل بين الحين والآخر، ضدّ حزب الله ولصالح حليفته «أمل»، وفي مايو (أيار) 1986، خلّف القتال بين الطرفين عددا من القتلى، وحين خطف حزب الله ضابطين سوريين، رد الجيش السوري باعتقال العديد من أعضاء الحزب، وفي فبراير (شباط) 1987، قتلت القوات السورية عناصر من حزب الله في ثكنة فتح الله، مقر الحزب في غرب بيروت، أعدموا حينها كرسالة تحذير لحزب الله.
ولكن ماذا سيفعل حزب الله الذي استنزف بيئته وعناصره في الحرب السورية، وإذا اتخذ الأسد قرار التطبيع مع إسرائيل، كيف سيبرر الحزب لجمهوره أنّ «طريق القدس» الذي مات أبناؤهم وهم يدافعون عنه سيصبح مقرا لسفارة إسرائيلية؟
وفي هذا السياق، يؤكد بركات أنّ «حزب الله في مأزق حقيقي، على الرغم من امتلاكه سلاحين آخرين غير سلاحه التقليدي، السلاح الأول هو نصر الله نفسه الذي يملك كاريزما قوية تجعله قادرا على إقناع جمهوره بأي تحول أو متغيرات يمكن أن تحدث، أيضا سلاحه الثاني وهو بيئته الشيعية، في الانتخابات الأخيرة صوّت 50 في المائة من البيئة الشيعية مع حزب الله، مقابل 10 في المائة لخصومه و40 في المائة هم أكثرية صامتة. ولكن على الرغم من هذين السلاحين فإن خطاب حزب الله في أزمة حقيقية، جعلته يهدّد أي ناشط سياسي أو صحافي شيعي يعارض سياسته، فالحرب السورية استنزفت عناصر حزب الله، حيث وصل عدد القتلى والجرحى المعوقين إلى أكثر من 10 آلاف عنصر، إضافة إلى آلاف الشباب الذين أصيبوا في الحرب السورية، هؤلاء الشباب وعائلاتهم يعانون اليوم لأنهم آمنوا أنّ ذهابهم إلى سوريا هو للدفاع عن طريق إمداد السلاح وطريق القدس، ولكن مع الحديث عن التطبيع، سيجدون أنفسهم قد ضحوا في سبيل المدافعة عن نظام مجرم قتل الآلاف من شعبه وشرّدهم، ولن يتوانى عن القتل مجددا لأن عقيدته هي السلطة والقوّة والاستمرار، وهذا ما سيضع حزب الله في أزمة مصداقية أمام جمهوره الذي آمن بخياراته حتى الموت»، ختم بركات.
وفي الختام، إن صحّت المعلومات عن لقاء حميميم أو لم تصح، فإن قطار التطبيع سيقف يوماً ما في سوريا، خصوصاً أن الأسد الأب والابن لم يرفضا يوما الجلوس مع إسرائيل، على الرغم من ادعائهم العداء لها. فما قدمه بوتين للأسد في الحرب التي خاضها ضد شعبه، سيجعله يخضع في النهاية للإرادة الروسية التي تلتزم بالحفاظ على أمن إسرائيل.