* 75 مليون ناخب أميركي لصالح ترامب في الانتخابات الأخيرة، ليس بالرقم السهل الذي يمكن لصناع القرار تجاهله... 75 مليون نسمة هم حجم المشكلة في الولايات المتحدة الأميركية. وإذا كان ترامب هو التعبير عنها، فأوباما أو بايدن ليسا- من دون أي شك- المؤهلين لحلها
لم تعد مشكلة الإعلام ووسائله في أنه موجّه، محصورة في منطقتنا فقط، إنما هي مشكلة أصبحت معممة على الإعلام في العالم أجمع. فإذا كانت مهمة الوسيلة الإعلامية هي حث الصحافي على التفتيش عن الحقيقة وشرح الأمور للجمهور على ضوئها، أو إبداؤه رأيه بكامل الحرية التي تفرضها المهنية الصحافية، نلمس اليوم في الغرب (أميركا تحديداً) التي نتطلع إليها كنموذج يحتذى به في مسائل تتعلق بحقوق التعبير المقدسة، مع أن دخول العالم عصر النت حول تلك المهنة (تلك السلطة الرابعة)، إلى مجرد وسيلة لنشر الدعايات والتضليلات.
الأمثلة كثيرة في هذا الصدد، ولعل أول إشارة واضحة عن بدء مرحلة استعمال الإعلام من أجل نشر الدعايات والتضليلات ما اعترف به أحد المسؤولين في الإدارة الأميركية وأكثرهم التصاقا بالرئيس أوباما، بن رودز، في حديث صحافي لـ«نيويورك تايمز»أجراه ديفيد صامويل، قبيل انتخاب ترامب، بشأن اعتماده على المراسلين الذين وصفهم بعديمي الخبرة، لإنشاء «غرف صدى»ساهمت بشكل فعال في تقبل الرأي العام المناهض بأكثريته لنظام الملالي، وإبرام بلاده اتفاقا نوويا مع إيران، كما ساعدت في إسكات المعترضين عليه بل وترهيبهم في بعض الأحيان.
فهم بن رودز ومن معه أن دور الصحافة تراجع مقابل بروز دور عملاق لمواقع التواصل الاجتماعي، وأن تسجيلها خسارات كبيرة في دفاتر محاسباتها دفعها إلى إعادة الهيكلة، وطبعا كان ضمنها إقفال أكثر من مكتب لها في الخارج. يقول رودز: «في الماضي كان لكل هذه الصحف مكاتب أجنبية. أما اليوم فقد باتوا يعتمدون علينا لنشرح لهم هم ما يحدث في موسكو والقاهرة مثلا. لذا أصبحت معظم المنابر الإعلامية تقدم تقاريرها عن الأحداث العالمية من واشنطن. كما ساهم في نجاح تلك الخطة عدم خبرة المراسلين الذين يبلغ متوسط أعمارهم 27 عاما والذين اقتصر نشاطهم على تغطية حملات سياسية محلية. إنهم لا يعرفون شيئًا. هذا تغيير جذري لمفهوم الصحافة».
منذ تلك اللحظة فهم السياسي كيف يمكنه استغلال الصحافة ومنبرها من أجل الدفع قدما بأجندته السياسية. فجأة أصبحت الصحافة مجرد صدى للمسؤولين، بعد أن كانت طوال سنين سلطة قائمة بحد ذاتها يخشاها العامل في الشأن العام. فلو لم تكن هناك من صحافة جدية لربما لم يعرف الأميركي بفضيحة «ووترغيت»مثلا التي أودت بنيكسون الرئيس أو حتى بفضيحة «إيران غيت»تلك الصفقة المثلثة الأضلاع بين إسرائيل وأميركا وإيران الملالي.
في الواقع، العكس حدث مع أوباما ودخول الناس عصر النت، حيث إن بن رودز ساعد في الترويج لـ«رواية»مفادها أن الإدارة بدأت مفاوضات مع إيران بعد انتخاب حسن روحاني المعتدل رئيساً في عام 2013. أما في الحقيقة فالمفاوضات بدأت في وقت سابق مع المتشددين أصحاب القرار، وتم وضع إطار الاتفاق قبل انتخاب روحاني. غياب الدور الصحافي منع فضح تلك المناورة.
للأسف، دخلنا جميعا مع الثورة الرقمية عالم التضليلات والأكاذيب. في مقابل تراجع الصحافة، وبروز الدور الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي. المشكلة في كبريات الوسائل تكمن في هوية أصحابها وميولهم السياسية التي تتلاقى مع الحزب الديمقراطي بشكل كبير وتمارس نوعا من الرقابة على المحتوى الذي لا تتوافق معه.
فطوال سنوات أربع لاحق عهد الرئيس ترامب اتهام بفوزه بالانتخابات الرئاسية بفضل تدخل روسيا والرئيس بوتين.وحتى بعد التأكد من عدم صحة تلك المزاعم ظلت تلك الإشاعة تلاحقه. المشكلة هنا تكمن في تأثيرات هذه الوسائل على الناس وخياراتها من خلال تحكمها بما ينشر على صفحتهم. فمثلا قصة تقاضي ابن المرشح جو بايدن رشاوى من شركات صينية طمست بشكل كبير عن الناخب الأميركي والتي لم يتسن له الاطلاع على تفاصيلها جراء الرقابة التي فرضتها شركات النت.
ومن مساوئ هذا النهج الساعي إلى ترديد وجهة نظر واحدة اقتناع الحاكم بصحة خياراته مهما كانت ومنعه من سماع الصوت الآخر والرأي الآخر. من هنا شعور شريحة كبيرة في بلاد العم سام بأن وجهة نظرها باتت مهمشة ليس حصرا في السياسات الخارجية إنما في مسائل أخرى كشرعية اقتناء السلاح أو رأيها في الإجهاض إلى ما هنالك من مسائل حساسة.
من هنا، فإن هذا الخلل في الصحافة لا ينحصر بها، بل يتعداها إلى أكثر من مجال، كالاقتصادي والاجتماعي أيضا. وهذا الخلل يفرض انعدام توازن داخل المجتمع. هذه المشكلة الأساسية اليوم في الولايات المتحدة الأميركية. وهذا أحد التفسيرات لاقتراع 75 مليون ناخب أميركي لصالح ترامب في الانتخابات الأخيرة. هذا ليس بالرقم السهل ولا بالرقم الذي يمكن لصناع القرار في بلاد العم سام وإنتليجنسيتها تجاهله. تلك الشريحة الكبيرة ليست كما يردد بعض السطحيين إرهابية لديها شعور عنصري بالتفوق على ما عداها من أجناس، بل هم أناس يشعرون بأنهم مهمشون. 75 مليون نسمة هم حجم المشكلة في الولايات المتحدة الأميركية. وإذا كان ترامب هو التعبير عنها فأوباما أو بايدن ليسا من دون أي شك المؤهلين لحلها.