* يجب أن تسعى إدارة بايدن، أثناء مضيها في ترتيب القمة، إلى تنظيم حدث أكبر من مجرد اجتماع رمزي يلقي فيه المسؤولون تصريحات عظيمة ولا يبدون إلا أقل قدر من العمل
* تزدهر الأنظمة الديمقراطية بفضل الجهود المشتركة بين أطراف معنية لا حصر لها، من بينها منظمات مدنية وهيئات تابعة للقطاع الخاص ومنظمات متعددة الجنسيات
في السادس من يناير (كانون الثاني) شاهد العالم في فزع مئات من اليمينيين المتطرفين وهم يقتحمون مبنى الكونغرس الأميركي، بتحريض من الرئيس دونالد ترمب. فشلت أحداث العنف في منع الكونغرس من إقرار فوز بايدن بالرئاسة، ولكنها تسببت في تعقيد التزام الرئيس بإعادة الولايات المتحدة إلى دورها كراع للديمقراطية في جميع أنحاء العالم. على وجه التحديد، أثار الحدث أسئلة صعبة حول خطة بايدن التي رُوج لها على نطاق واسع لاستضافة «قمة الديمقراطية» في خلال عامه الأول في الرئاسة.
في أعقاب محاولة التمرد التي وقعت، دفع الباحثان جيمس غولدغير وبروس جينتلسون في تقرير نشرته «فورين آفيرز» بأنه يجب على إدارة بايدن القادمة التخلي عن خطتها لعقد قمة دولية عن الديمقراطية وعليها التركيز بدلًا من ذلك على الإصلاح الديمقراطي في الداخل. ولكننا نختلف معهما بكل احترام. قد يضر إلغاء القمة بالكامل بمساعي بايدن الأكبر لإعادة دور أميركا من جديد كطرف دولي متفاعل وبنَّاء ومتعاون. علاوة على ذلك، وربما هو الأكثر أهمية، قد تصبح قمة تستضيفها الولايات المتحدة آلية حيوية لإصلاح الديمقراطية الأميركية في الداخل وتجديدها. وبدلًا من إلغاء القمة، يجب أن تستغلها واشنطن لتطوير مسودة جديدة للدور الأميركي الدولي المتعلق بالديمقراطية، ليصبح دورًا أكثر تواضعًا وصدقًا بشأن التحديات السياسية المؤلمة في الداخل، ولا يقل التزامًا بدعم القضية في الخارج.
قمة على مستوى مناسب
يجب أن تسعى إدارة بايدن، في أثناء مضيها في ترتيب القمة، إلى تنظيم حدث أكبر من مجرد اجتماع رمزي يلقي فيه المسؤولون تصريحات عظيمة ولا يبدون إلا أقل قدر من العمل. قد تعزز هذه «القمة المخففة» الشكوك القائمة في مدى التزام واشنطن بالأعراف الديمقراطية وتبدد الفرصة الضئيلة أمام الإدارة الجديدة لاستحداث أجندة ديمقراطية حقيقية.
ولكن يجب أن يتجنب فريق بايدن أيضًا محاولة تحقيق أكثر مما ينبغي في قمة واحدة- عن طريق إقامة تحالف أو اتحاد استراتيجي جديد بين دول ديمقراطية مثلًا. ينبغي على الولايات المتحدة أن تستمر في المشاركة في المجموعات الديمقراطية القائمة بحدود واضحة، مثل الرباعية التي تضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادي والهندي. كما يجب النظر في الفكرة البريطانية بتوسعة مجموعة الدول السبع إلى الدول العشر الديمقراطية والتي تضم أهم ثلاث ديمقراطيات في آسيا (أستراليا والهند وكوريا الجنوبية). ولكن محاولة إقامة «تحالف» ديمقراطي جديد مفتوح وواسع النطاق قد يفشل بالتأكيد نظرًا لعدم توافق المصالح الجغرافية السياسية والاقتصادية لمجموعة متباينة من الأنظمة الديمقراطية في العديد من القضايا.
وبدلًا من ذلك، يجب أن تخصص الإدارة الجديدة القمة للتجديد الديمقراطي في الداخل، فتقدم الدول المشاركة التزامات داعمة متبادلة وجماعية لتحسين أنظمتها الديمقراطية ودعم الديمقراطية أينما تعرضت لتهديد في دول أخرى. سوف يقدم هذا الإطار الجديد العادل للمباحثات حول الديمقراطية، بتنظيم من إدارة أميركية جديدة مستعدة للحديث بصدق وواقعية عن أوجه قصور أميركا في الديمقراطية، بيانًا قويًا بشأن التزام واشنطن تجاه التجديد الديمقراطي في عصر ما بعد ترامب.
جدول أعمال للتجديد
سوف يجد منظمو القمة دافعًا قويًا لتحويل جدول الأعمال إلى قائمة طويلة تضم كل المخاوف التي تحيط بمجتمع الدفاع عن الديمقراطية. ولكن يجب عليهم مقاومة هذا الدافع.
وفي المقابل، ينبغي على القمة أن تركز، تحت مظلة التجديد الديمقراطي الشاملة، على عدة موضوعات مستقلة لكي تناقشها وتتخذ إجراء بشأنها.
في بداية حملته لانتخابات الرئاسة، عندما اقترح بايدن لأول مرة استضافة قمة تجمع بين الأنظمة الديمقراطية في العالم، حدد جدول أعمال يضم ثلاثة بنود ذات أولوية: مكافحة الفساد والتصدي للاستبداد والدفاع عن حقوق الإنسان.
وتعد سياسة مكافحة الفساد- وهي مفتاح حل مشكلة المساءلة التي تطارد العديد من الأنظمة الديمقراطية- خيارًا ممتازًا لجدول أعمال القمة. وهو مجال سياسي يحفل بإجراءات ممكنة قوية ومؤثرة في قطاعات عديدة من الضرائب والمالية إلى التعاقدات الحكومية إلى الشفافية والمجتمع المدني.
ويجب أن يكون التصدي للاستبداد محور تركيز القمة، ولكن لا بد من بعض الحذر هنا: ربما تُفهم الإشارة إلى الاستبداد على أنه «تحالف ضد الصين وروسيا»، وربما يمنع ويُبعد بعض الدول الديمقراطية الأخرى التي يمكن أن تشارك بفاعلية. وقد تطرأ مشكلة إذا تصورت دول استبدادية أن القمة محاولة من الولايات المتحدة لإقامة تحالف يهدف إلى تغيير الأنظمة في دول استبدادية. يمكن أن تحد إدارة بايدن من هذه الخطورة بوضع إطار عام لأهدافها: لمنع التدخل السياسي لأطراف استبدادية في الأنظمة الديمقراطية القائمة ودعم القيم الديمقراطية العالمية وطموحات الشعوب أينما كانوا.
ينبغي أن يقود هدف بايدن بالدفاع عن حقوق الإنسان إلى اتفاق واسع النطاق بين الشركاء المحتملين، وسوف يساعد ذلك الولايات المتحدة على إعادة تأكيد التزامها تجاه القيم العالمية بعد أربعة أعوام من الدفاع الانتقائي عن حقوق معنية. ولكن أجندة حقوق الإنسان كبيرة، وسيكون من المهم تركيز المباحثات، ربما عن طريق الاتفاق مسبقًا على التأكيد على بعض الحقوق الأساسية. وتبدو حريات التعبير والتجمهر السلمي خيارات من الطبيعي ضمها للمباحثات نظرًا للهجوم الذي تتعرض له في مناطق عديدة.
أحد بنود جدول الأعمال التي تعد ملائمة تمامًا في التوقيت وجديرة بحشد دعم واسع هي الشمول الديمقراطي. ولا تزال محاولات بناء مؤسسات أكثر تمثيلًا ووضع حد للتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي لشعوب معينة تمثل تحديًا أمام الأنظمة الديمقراطية القائمة والجديدة على حد سواء. وهذا مجال تستطيع أن تقوده الولايات المتحدة بكل تواضع نظرًا لتاريخها الطويل في الإقصاء.
يتقاطع مع جميع هذه القضايا التحول الذي ألحقته التكنولوجيا الرقمية. تتسم التكنولوجيا ذاتها بالحياد السياسي، إلا أنها مَكَّنت تهديدات خطيرة ضد الديمقراطية في العديد من الدول، وفي الوقت ذاته قدمت فرصًا هائلة لانخراط المواطنين وسرعة استجابة الحكومات ونزاهتها. ويجب أن تتناول القمة بصفة مباشرة كيفية تكيف النظام الديمقراطي مع العصر الرقمي.
قمة ذات مستويين
بالإضافة إلى جدول الأعمال، على إدارة بايدن أن تقرر قائمة المدعوين المناسبة (ذلك صداع دائم في رأس مضيف القمة). ويتحتم عليها أن تقرر ما إذا كانت ستدعو مجموعة صغيرة منتقاة من الأنظمة الديمقراطية الملتزمة بجدية بالتحسين ومواجهة التحديات الجوهرية، أم ستتخذ نهجًا أوسع يتضمن دولا تعلن أن لديها طموحات ديمقراطية ولكنها لم تنجح في تطبيق ذلك.
وعلى مدار التاريخ، كانت القمم الديمقراطية متعددة الجهات تختار النطاق الأوسع على حساب المصداقية والاتساق.
ونظرًا لتلك المفاضلة، ينبغي على منظمي القمة في إدارة بايدن دراسة إقامة نموذج متعدد المستويات. ويمكن أن يشكلوا لجنة تسيير مصغرة يصبح أعضاؤها شركاء بالكامل في وضع جدول الأعمال وجمع التعهدات من آخرين. قد تتواصل لجنة تسيير الأعمال علنًا بشأن القمة حتى لا تبدو محاولة محدودة تقودها الولايات المتحدة. كما يمكن أن يشاركوا في توجيه المباحثات حول القضايا الرئيسية ويدفعوا عجلة التقدم للوفاء بتعهدات القمة عبر فرق عمل متخصصة تستمر في الانعقاد بعد انتهاء القمة. ربما يستضيف أعضاء اللجنة أيضًا فعاليات متابعة أو قمم مستقبلية. وقد تضم لجنة التسيير مجموعة من الدول التي تبدي حماسة وقدرة على أداء هذا الدور وتقديم تنوع جغرافي دون ملاحقة هدف التمثيل الإقليمي المثالي بعيد المنال.
يمكن أن يتخذ فريق بايدن توجهًا موسعًا باعتدال مع المشاركين في القمة العامة، بحيث يتوفر لديهم حد أدنى من «الاستعداد» الواضح يرشحهم للدعوة. قد تحتاج جميع الدول المشاركة إلى التعهد بالتزامات جوهرية من أجل الحضور وحبذا لو اتخذت إجراءات فعلية قبل انعقاد القمة. يجب على منظمي القمة كذلك الاستعانة بمعايير واضحة وخارجية لتحديد من سيشارك ومن لا، بناء على مؤشرات مستقلة ذات سمعة جيدة على التزام الدول بالقيم والممارسات الديمقراطية- علمًا بالطبع بأن مكانة أميركا في هذه التصنيفات قد تراجعت على نحو ملحوظ في الأعوام الأخيرة.
أحد الأسئلة الصعبة التي سيتحتم على الإدارة تناولها هي دعوة هيئات غير حكومية، وإن فعلت فما هي تلك الهيئات؟
تزدهر الأنظمة الديمقراطية بفضل الجهود المشتركة بين أطراف معنية لا حصر لها، من بينها منظمات مدنية وهيئات تابعة للقطاع الخاص ومنظمات متعددة الجنسيات. يجب أن تعكس القمة هذه الحقيقة، من دون فتح الأبواب على مصراعيها أمام أعداد مشاركة غير عملية. من أجل تقليل أعداد المدعوين المحتملين، يجب أن يربط المنظمون قائمة المشاركين غير الحكوميين مباشرة بالموضوعات المحددة في القمة. حينها يمكن أن يشارك الحضور من المنظمات غير الحكومية إلى جانب الحكومات في فرق عمل تقام على أساس موضوعات القمة. وقد يتطلب هذا النهج اختيارات صعبة- ويستدعي أن يبحث المنظمون عن طرق لضمان التنوع- ولكنه سيدعم خروج نتائج أكثر تركيزًا من قائمة المدعوين المبالغ بها، ويعكس واقع الديمقراطية كما يمارسها العالم الحديث.
من الشعر إلى النثر
أشار حاكم نيويورك الأسبق، ماريو كومو، في تصريح شهير، إلى أن السياسيين يخوضون حملاتهم الانتخابية بالشعر ويحكمون بالنثر. أسعد تعهد حملة بايدن باستضافة قمة ديمقراطية الكثير من قادة العالم ومواطنيه ممن أحبطهم هجوم ترامب المتواصل على الديمقراطية في الداخل والخارج. ولكن عقد قمة فعالة سوف يتطلب ترجمة شعر الحملة النبيل إلى نثر عملي في الإدارة. ولن تكون تلك مهمة يسيرة؛ فيجب على الولايات المتحدة أن تسير على حبل مشدود يفصل بين استعادة زعامتها الدولية والاعتراف بأخطائها ومعالجتها بتواضع. ولكن حشد مجتمع من الدول ذات القيم المتشابهة لدفع عملية تجديد ديمقراطي داخلي هو السبيل المؤكد لاستعادة القيادة الأميركية للعالم الديمقراطي.
* نشر هذا المقال في الأصل في «فورين آفيرز».