* بدأ الوضع يشهد توتراً عسكرياً أكثر حدة بين البلدين، في ديسمبر الماضي عندما أعلن الجيش السوداني، أنه «أرسل تعزيزات كبيرة للحدود مع إثيوبيا بعد مقتل عدد من جنوده»
* تعتبر منطقة الفشقة التي اندلعت فيها المواجهات جزءاً من الحدود السودانية، وفقاً لاتفاقية 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا
الخرطوم: بشكل درامي، تشهد الحدود السودانية الإثيوبية تصعيداً سياسياً وعسكرياً غير مسبوق، في علاقة ودية اتسمت بها السنوات الماضية رغم المشكلات الحدودية، ولكن منذ أن قتل 4 عسكريين سودانيين بينهم ضابط، في مواجهات مع ميليشيات مسلحة إثيوبية على الشريط الحدودي، تفاقم الوضع، وقام الجيش السوداني بإعادة انتشاره في مناطق تقع ضمن حدوده، بينما بدأ الجانب الإثيوبي استعدادات عسكرية غير معتادة، كما نشطت ميليشيات إثيوبية في مناوشات ضد القوات السودانية، واعتداءات ضد المدنيين السودانيين المقيمين على الجانب السوداني بالقرب من الحدود، وغير ذلك من التوترات التي أوحت بقرب مواجهة بين جيشي الدولتين.
وبدأ الوضع يشهد توترا عسكريا أكثر حدة بين البلدين، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عندما أعلن الجيش السوداني، أنه «أرسل تعزيزات كبيرة للحدود مع إثيوبيا بعد مقتل عدد من جنوده»، كما تقدم السودان بشكوى للاتحاد الأفريقي، ومنظمة «إيقاد» بشأن الاعتداءات الإثيوبية.
وكان لافتا أن يزور المنطقة ثلاث مرات خلال أشهر قليلة رئيس مجلس السيادة السوداني والقائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقال في أول زيارة له: «إن الجنود السودانيين على الحدود، تعرضوا للغدر، وإنهم لم يتوقعوا أي عنف مع الجارة إثيوبيا، لكن الإثيوبيين بدأوا، والبادئ أظلم». وفي الزيارة الثانية، وفي موازاة ذلك، قام وفد حكومي سوداني يرأسه عضو مجلس السيادة الفريق شمس الدين كباشي، يرافقه مدير جهاز المخابرات العامة ووزير الإعلام، بزيارة القاهرة ضمن جولة له في عدد من دول الجوار لشرح تطورات الوضع في الحدود مع إثيوبيا.
قابلية الاشتعال
وتعتبر منطقة الفشقة التي اندلعت فيها المواجهات جزءا من الحدود السودانية، وفقا لاتفاقية 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا، وتتمتع أراضي المنطقة بخصوبة ووفرة في المياه، وتضم أكثر من 600 ألف فدان صالحة للزراعة.
وحسب وصف المحلل السياسي والأكاديمي البارز الدكتور خالد المبارك للوضع في حديثه لـ«المجلة»، فإن الموقف «متوتر وقابل للاشتعال»، واعتبر أن وقوع أي صدام عسكري سيكون كارثة على البلدين، فالسودان في مرحلة انتقالية حرجة واقتصاده هش ويعاني من نزاع قبلي في دارفور، وإثيوبيا تواجة نزاع تيغراي المسلح، مبينا أن أنصار النظام السابق في السودان يرغبون في تصعيد عسكري يصب في صالح الجناح العسكري ويضعف الحليف المدني في الحكم.
وأوضح أن هناك تعبئة عسكرية وقوات متواجهة وعصابات إثيوبية مسلحة بينما الحدود معروفة وواضحة منذ 1902 بموافقة إثيوبيا، ولا جدال حول ذلك والخرائط موجودة عندنا وعندهم.
ورأى المبارك أن الذي حدث هو حسن نية وتهاون من ناحية وأطمأع توسعية من ناحية عدة حكومات سودانية غضت الطرف عن دخول المزارعين الإثيوبيين حتى تفاقم الوضع وقتل بعض المواطنين السودانيين. وأن التوتر المتصل بتعثر مفاوضات سد النهضة زاد الحساسيات حدة عند الطرفين.
وحسب رئيس مفوضية ترسيم الحدود الدكتور معاذ أحمد تنقو، فإن الحكومة السودانية وجدت نفسها أمام هذه المشاكل في هذه المنطقة ولم تسع إليها، موضحا أن المشاكل الداخلية في إثيوبيا جعلت الجيش السوداني مضطراً لبسط سلطانه على المناطق الحدودية خوفاً من دخول المجموعات المسلحة.
وفي مقابلة مع صحيفة «السوداني»، قال رئيس مفوضية الحدود السودانية إن إثيوبيا نكصت عن الالتزام بالترسيم الذي وضعه الميجر جوين في العام 1902م ومنع أي تغول جديد بعد توقيع مذكرة 1972م ولكنها لم تفعل، كما التزمت إثيوبيا باحترام خط التمييز ما بين المزارعين السودانيين والإثيوبيين، بيد أن إثيوبيا لم تلتزم وسمحت بالتعدي على المزارعين السودانيين، وفي العام 2004م اتفقنا على السماح لجميع المزارعين بالزراعة لحين توافق البلدين على الحدود النهائية والانتهاء من عملية تكثيف علامات الحدود وبناء علامات جديدة التي اتفق عليها الطرفان لاحقاً في 2010م.
لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح- حسب الدكتور تنقو- إذ تقوم إثيوبيا في كل عام بإبعاد مجموعة من المزارعين السودانيين ولكن على طاولة التفاوض يُصرون على أن من يفعل ذلك هم ميليشيات الشفتة التي لا تتبع للدولة الإثيوبية.
وانتقد رئيس مفوضية ترسيم الحدود إصرار الجانب الإثيوبي على ترسيم الحدود، موضحا أن هذا الإصرار جديد ولم يحدث من قبل، ولم نسمع به إلا في عام 2020م، حيث ظل طوال السنوات الماضية يسعى للحل مع الإثيوبيين وتحديداً منذ العام 1972م التي وافق فيها السودان على مذكرة وزير الخارجية الإثيوبية التي عرض والتزم فيها بعدد من الأشياء، ولكنهم نكصوا بعد ذلك.
احتمالية الحرب
يقول المتخصص في الشؤون السياسية والأمنية الدكتور طارق محمد عمر، إن الحرب ليست في صالح الدولتين المنهكتين اقتصاديا، ويرى في حديث لـ«المجلة» أن السودان مقبل على استثمارات أميركية ضخمة ومتنوعة تتطلب قدرا كبيرا من حالة السلم والأمان لذا يتوقع أن تعمل واشنطن على مصالحة الطرفين وحل المشكل الحدودي وفقا لاتفاقية 1902 التي حسمت قضية الحدود بين البلدين.
ويفسر هذا التصعيد الأخير أن الحكومة الإثيوبية تعمل على كسب تعاطف شعبها خاصة إثنية الأمهرة، بينما الجيش السوداني يسعى لخلق قاعدة شعبية.
بينما يقول الصحافي السوداني الناشط في تغطية القضايا الأفريقية محمد الطيب لـ«المجلة» إن ما يجري في الأشهر الفائتة يؤشر إلى أن الأوضاع تتسارع إلى خيار الحرب.
ويرى أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وجماعات من قومية الأمهرة الصاعدة تفاجأوا بانتشار الجيش السوداني في المناطق التي كانت تحتلها إثيوبيا في منطقة الفشقة، وهو أمر كان خارج حساباتهم إطلاقا.
وأشار إلى أن رد الفعل الإثيوبي المصدوم جاء على خلفية طلب إثيوبي من السودان بإغلاق الحدود مع مناطق التيغراي وعدم دعم جبهة تحرير التيغراي التي يقاتلها الجيش الإثيوبي الفيدرالي، ولكن لم يكن هنالك مقابل واضح.
ورأى الطيب أن استعادة السودان لأراضيه لم تجد من جماعات الأمهرة المستفيدة من تلك الأراضي سوى التهديد بالحرب مع السودان، ولأن إثيوبيا ظلت تحتل منطقة الفشقة منذ 24 عاماً إلا أنها اضطرت بسبب حربها الأخيرة في إقليم التيغراي إلى انسحاب قوات الأمهرة لاحتياجها لإمدادات عسكرية في إقليم التيغراي، فكانت الخطوة السودانية المفاجئة والتي من الواضح أنها كانت خطوة مدروسة وذكية.
ويشدد الطيب على أن هذه المعطيات توكد أن احتمال الحرب وارد، خصوصا وأن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد يرغب في التغطية على حربه مع التيغراي، واستعادة شعبيته التي بدأ يفقدها بخسارته لجزء كبير من إثنيته (الأرومو) وحلفائه السابقين في جبهة التيغراي، وأيضا إرضاء لحلفائه الجدد من قومية الأمهرة التي تطمع في التوسع في أراضي السودان.
من ناحية أخرى، يشير الصحافي النشط في تغطية قضايا المنطقة، إلى أن هنالك توازنا استراتيجيا عسكريا بين السودان وإثيوبيا بالنظر إلى تحالفاتهما الإقليمية والدولية، إلا أن السودان لا يرغب في أي توترات أو عمليات تصعيد عسكري في أي جبهة حدودية بسبب الظروف الاقتصادية وارتباك المشهد السياسي الداخلي ووجود حالة انتقادات داخلية للمكون العسكري في الحكومة السودانية والتي يحاول آبي أحمد وإعلامه الاستفادة والإيحاء بإملاءات مصرية لاستخدامها في تقوية مواقفه واستمالة الرأي العام الداخلي في السودان أيضا.
بيد أن الطيب يلحظ موقفا إريتريا غامضا في هذه الأزمة، ويقول إن تأثيره غير معروف حتى الآن في هذا المشهد، مما يثير مخاوف من احتمال إقدام إثيوبيا على مغامرة في الدخول في حرب مع السودان بإسناد عسكري إريتري، وهي إحدى أوراق آبي أحمد الأخيرة التي استخدمها في الحرب على جبهة التيغراي.
تكاليف المواجهة
أما الباحث في العلوم السياسة كباشي البكري، فهو ينظر إلى احتمالية أنها خيار صعب وبالغ التعقيد للسودان وإثيوبيا كحل لأزمتهم الحالية، ويقول لـ«المجلة» إن الأوضاع داخل الدولتين بل في الإقليم برمته لا تحتمل مآلات المواجهة المباشرة.
ويشير إلى أن البلدان يفهمان فاتورة الحرب وآثارها الاجتماعية المرهقة والاقتصادية المكلفة والسياسة المروعة في ظل هذه التعقيدات التي تشهدها دول الإقليم والتقاطعات السياسية الكبيرة التي تشكل في مجملها تهديداً أمنياً كبيرا لدول المنطقة بأعماقها الاستراتيجية وأمنها القومي.
ورأى أن على الجانب الإثيوبي المبادر بالتعديات، المتعنت في سجال المفاوضات الرضوخ للقانون الدولي والأعراف الدولية في مسألة التعديات على الأراضي السودانية، فمصالح الدولتين القومية وأمنهما القومي مرتبط في نهاية الأمر بعضه ببعض في ظل العديد من التحديات والتهديدات الإقليمية والدولية، وأن لا مخرج لهم في هذا التوقيت إلا بالاحتكام لصوت العقل والدبلوماسية، فما تحسمه البندقية والآلية العسكرية يكون الكاسب فيه خاسرا.
ويشير البكري إلى أن تجاهل الجانب الإثيوبي في حربه على جبهة التيغراي للعديد من المبادرات الأفريقية الجماعية والمنفردة من رؤساء أفارقة ومنظمات أفريقية التي كان لدولة إثيوبيا نفسها دور في تكوينها وتأسيسها وتكوينها الأول واحتضان مقارها يبقى «نقطة سوداء» ومواقف سالبة لكل جهود السلم والأمن الأفريقي.
ويعتقد البكري أن الضربات والمواجهات الداخلية لإثيوبيا حتمت على الجيش السوداني الانتشار على حدوده التاريخية في مواقف متعارف عليها في مثل نشوب هكذا منازعات بين دولتين تربطهما حدود جغرافية ممتدة ومفتوحة وقد دعت الخارجية السودانية إلى تخطيط الحدود مع إثيوبيا معتبرة أن ذلك يمثل حلا ناجعا لكافة المشاكل وتجنيب الدولتين مآلات الحروب والخروج من هذه الأزمة عبر الاحتكام إلى الجهود الدبلوماسية وتفعيل وقبول أدوار المنظمات الأفريقية كمنظمة الوحدة الأفريقية والاتحاد الأفريقي والجهود الدبلوماسية لرؤساء الدول الأفريقية.