* لكي يعود هذا البلد إلى مكانته ويستعيد عافيته الاقتصادية والمالية والاجتماعية يحتاج دون أي شك إلى سواعد الشباب وهممهم وأفكارهم الجديدة. لكنهم للأسف يهاجرون من بلد لم يفهمهم ولم يستوعبهم ولم يعطهم فرصة لكي يطرحوا أصلا تلك الأفكار
أربعة شهور مرت على انفجار مرفأ بيروت واستقالة رئيس الحكومة حسان دياب، والأمور في لبنان على حالها. التقرير الأخير الذي نشرته إحدى الوكالات عن هجرة الأدمغة من لبنان مخيف. في الواقع غادر حوالي 120 طبيبًا وأستاذًا جامعيًا في الجامعة الأميركية في بيروت، أي ما يقارب 12 في المائة من إجمالي 1220 عضوًا في هيئة التدريس.
وحسب نقابة الأطباء اللبنانيين هناك ما لا يقل عن 500 طبيب مسجل من أصل 15000 غادروا البلاد هذا العام إلى أوروبا والولايات المتحدة ودول الخليج العربي. و500 ممرضة وممرض من أصل 16000 مسجلين في النقابة هاجروا منذ اندلاع الحركات الاحتجاجية في لبنان في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي. خلال الشهرين الماضيين، تؤكد مصادر نقابة المهندسين أنها استلمت خمس طلبات تصديق شهادات من مهندسين بهدف تقديم طلبات عمل إلى الخارج.
هذا عن هجرة الأدمغة، أما المؤشرات الاقتصادية الداخلية وأرقامها فلا تبشر بأي خير قادم إن كان على صعيد النمو المتوقع وهو سلبي جدا، أما على صعيد تدهور قيمة العملة اللبنانية مقابل الدولار أو حتى على صعيد الارتفاع الحاد في معدلات الفقر والبطالة.
هذا كله يجري فيما الطبقة السياسية كما رئيسها في سبات عميق، كأن كل ما يجري في الداخل لا يعني تلك الطبقة السياسية. هي تتفاوض على شكل الحكومة ومن يسيطر على مراكز القوة داخلها وبالتالي بقراراتها، خاصة أنه أصبح هناك اقتناع لديها بأن عون هو آخر رئيس جمهورية لحقبة الطائف. تلك الطبقة السياسية التي من المفترض أن تدير البلاد المفلسة، تريد فرض سقوف عالية على إسرائيل في موضوع الحدود البحرية وتطالب بمناطق داخل الحدود الإسرائيلية بدأ فيها التنقيب أصلا.
والسؤال: ما هو سر تصرف تلك الطبقة السياسية بهذا الشكل الذي لا يتناسب أبدا مع وضع لبنان السيئ؟
الكل يجزم بأن غياب المحاسبة بكل أنواعها هو عامل أساسي في نمط المماطلة الذي ينتهجه أركان جمهورية الموز. ثم هناك عامل آخر تتحدث عنه كوكبة المحللين والمستشارين المتحلقين حول الزعماء: الخارج. هم يعتقدون بل يؤمنون بأن الدول الغربية لن تتر ك لبنان يغرق. البعض يؤكد أن عملا عسكريا يحضر في الخارج من أجل إعادة تنظيم الأمور داخليا، يتكلمون عن الأمم المتحدة وإلى ما هنالك من فرضيات غريبة تصب كلها في اتجاه «إنقاذ لبنان»كما يقولون. وعند السؤال: لماذا الاهتمام بلبنان لا تجد جوابا يقنع. طبعا فيما مضى كان اسم رفيق الحريري كفيلا بتجنيد العالم لمساعدة لبنان ماليا بالحد الأدنى. كان الرجل يستطيع تجنيد دول الخليج والغرب حول مؤتمرات لمساعدة البلد. وكان شخصه كفيلا بتأمين تلك المساعدات. لكن اليوم الأمور مختلفة جذريا؛ فالغرب يعاني من مشاكله الخاصة الاقتصادية والمالية جراء جائحة كورونا، مما يؤثر في مجالات دعمه الخارجي. ثم هو يشترط على الطبقة السياسية إجراء إصلاحات سيكون من الصعب عليها تطبيقها لأنها تحد من عملها وتقوض «زعامتها»على مللها.
ثم هناك عامل آخر مهم وهو انفتاح دول الخليج على إسرائيل، وهذا سيكون له تأثير كبير على دول الجوار. فنحن تماما في مسار معاكس لما جرى في 1948 حيث مرفأ بيروت على حساب مرفأ حيفا من جراء مقاطعة العرب للأخير. اليوم دول الخليج التي كان يعتمد عليها لبنان، إن كان في مجال الاستثمارات العقارية أو السياحية أو حتى المساعدات، ستذهب إلى غير مكان، مما يعني أنها ستحصل على جميع الخدمات التي كان يؤمنها لها لبنان من سياحية إلى طبية وبمستوى أفضل. ثم هناك حزب الله الذي يقود لبنان ويضعه في معسكر معادٍ للغرب ويصم البلد بوصمة الإرهاب. التراجع في الاهتمام بلبنان أصبح واقعا. فبعد أن قبل اللبنانيون سطوة حزب الله عليه ها هم أصدقاء لبنان يقولون حسنا خسرناه.
لكي يعود هذا البلد إلى مكانته ويستعيد عافيته الاقتصادية والمالية والاجتماعية يحتاج دون أي شك إلى سواعد الشباب وهممهم وأفكارهم الجديدة. لكنهم للأسف يهاجرون من بلد لم يفهمهم ولم يستوعبهم ولم يعطهم فرصة لكي يطرحوا أصلا تلك الأفكار. للأسف لن يبقى في لبنان إلا الذين يعشقون الفوضى والخراب والحروب.