* سيتفرج الناس كيف ستستفيد الطبقة الحاكمة من الأزمة الاقتصادية التي أدت بطبيعة الحال إلى تراجع الاستيراد إلى حدوده الدنيا ليقلصوا عجز الميزان التجاري بالشكل الذي يسمح لهم التحكم بالأزمة والاتكال على بعض المساعدات مثل الاعتماد على خام العراق من أجل تأمين الطاقة للبنانيين.
السؤال الأساسي الذي كان يطرح قبل سنتين عندما كان يجتمع اثنان أو أكثر، تحديدا عندما بدأت الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية تلقي بظلالها على المواطن اللبناني، هو عن مدى قدرة تحمل اللبنانيين صعوبة الظرف قبل أن يثوروا، حتى أطل الوزير شقير في نهايات 2019 ببدعة زيادة تعريفة غير قانونية على مستخدم موقع التواصل «واتساب»المجاني. طبعا قرار شقير كان القشة التي قصمت جزءا من ظهر البعير على ما هو واضح اليوم. غضب الناس كانت له حدود مناطقية وطائفية ومذهبية حالت بطبيعة الحال دون كسر ظهر البعير بالكامل وبالتالي إشعال ثورة تجرف النظام على أساس فشله في إدارة البلد على كل الأصعدة منذ عشرات السنين.
فهمت الطبقة الحاكمة يومها أن الحركة الاعتراضية لن تشكل خطرا وجوديا عليها بالرغم من تدهور العملة اللبنانية أمام الدولار، وازدياد نسبة الفقر والبطالة، وارتفاع جنوني بأسعار السلع، وبالرغم من انفجار المرفأ الذي أودى بحياة أكثر من 200 مواطن ودمر أحياء وأبنية بكاملها. حتى عجزت الطبقة الحاكمة عن تأليف حكومة إنقاذ حولت الناس إلى مراقبين لحفلة الكباش القائمة بين الموارنة والسنة. موارنة عجزة ومتوهمون يظنون أن انتخاب عون أعاد وضعيتهم في النظام إلى ما قبل اتفاق الطائف حيث كانت السلطات التنفيذية بيد الرئيس.
كان هم الطبقة الحاكمة وبعد صمودها بوجه العاصفة الاعتراضية التي واجهتها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي ان تروض الناس وتدجنها على واقع جديد ومأساوي. مثل ترويضهم على فكرة أنهم خسروا أموالهم المودعة بالمصارف من دون ان يدعو إفشالهم التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان إلى مظاهرة احتجاجية واحدة.
لم يعد أمام الناس إلا أن يقتنعوا بأن كل الذي عاشوه في الحقبة السابقة لن يعود أبدا وأن مستقبلهم قاتم. لم يعد أمام الناس سوى الاقتناع بأن اقتناء سيارة لكل فرد من العائلة أصبح صعب المنال، كما عليهم أن لا يغضبوا- وهم لن يغضبوا- لفشل الحكومات المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الأهلية عن تأمين نقل عام للمواطنين، وكذلك الأمر ينطبق على قطاع الكهرباء والصحة والتعليم. سيتفرج الناس مثلا على السلطة تضيع فرصة التفاوض على الحدود البحرية وتضيع فرصة الاستفادة من ترسيم الحدود مع إسرائيل تمهيدا للبدء بعملية استخراج الغاز التي ستعود بمدخول على خزينة الدولة اللبنانية وهي بأمس الحاجة لها. سيستمعون إلى القادة الذين لم تطلهم الأزمة المالية ولن تطالهم بالأحرى يتكلمون عن تقدم الكرامة والعنفوان على الرغيف وسد جوع الفقراء الذين أصبحت أعدادهم في ازدياد مضطرد.
سيتفرج الناس على هجرة الأدمغة، من أطباء وأساتذة وتلاميذ ورجال أعمال وصحافيين، ليبقى في لبنان جمهور أركان الطبقة الحاكمة الذين هم إما مستفيدون من ولاءاتهم وإما معميون بالكامل.
سيتفرج الناس كيف ستستفيد الطبقة الحاكمة من الأزمة الاقتصادية التي أدت بطبيعة الحال إلى تراجع الاستيراد إلى حدوده الدنيا ليقلصوا عجز الميزان التجاري بالشكل الذي يسمح لهم التحكم بالأزمة والاتكال على بعض المساعدات مثل الاعتماد على خام العراق من أجل تأمين الطاقة للبنانيين.
كذا كان لبنان في أواخر القرن التاسع عشر: انهيار اقتصادي مع انهيار تجارة الحرير، اضطرابات داخلية وإقليمية مع اقتراب الحرب العالمية الأولى، مجاعات، وهجرات وفقر وبطالة. لبنان لم ينتعش الا مع بترول الخليج ومصرف انترا للفلسطيني الفذ يوسف بيدس ومقاطعة بور حيفا من قبل العرب. اليوم إسرائيل لم تعد العدو بالنسبة للدول العربية الفاعلة، ولا الدولة التي يتوجب مقاطعتها. بل العكس. ثم بترول الخليج بات يصرف في الخليج، أما الدولة التي رفضت إنقاذ بيدس وبالتالي إنقاذ القطاع المصرفي اللبناني بكامله فقد عادت بفسادها وأفلست كل مصارف لبنان.
اللافت في كل هذا هو غياب أي رؤية للبلد واقتصاده وماليته واجتماعه من قبل سياسييه. نائب لبناني وهو قس لم تعجبه انتقادات الناس للتيار الذي ينتمي إليه سياسيا لفشله بملف الكهرباء الذي استلمه على مدى عشر سنين. فقال بالحرف: «لا تكلموني عن الكهرباء، فأجدادنا عاشوا من دونها». كم أصاب هذا النائب بتشبيه واقعنا وحاضرنا بالواقع الذي عاشه أجدادنا فلبنان بالتأكيد سيعود إلى الوراء حيث لا كهرباء ولا رعاية صحية ولا أعمال... هنيئا.