* عون يصر على التدقيق الجنائي في مصرف لبنان المركزي.. ويتجاهل المشاكل الاقتصادية وتشكيل الحكومة الجديدة
* خليل يطلب التدقيق في كل الوزارات والإدارات.. والفرزلي يرفض المس بقانون السرية المصرفية
* عجاقة: انسحاب شركة التدقيق مؤشر سلبي تجاه المجتمع الدولي فيما يخص الإصلاح
بيروت: تجاهلت الطبقة السياسية اللبنانية المهترئة كل هموم البلد الاقتصادية والمالية والاجتماعية والصحية، نسيت حالات الإفلاس في كل القطاعات الإنتاجية والخدماتية والتجارية، ونسيت نسب البطالة الخطيرة وعدد الفقراء والمشردين من منازلهم بعدما دمرت بفعل الانفجار الذي دمر مرفأ بيروت الحيوي ومعه ثلث العاصمة، ونسي رئيس الجمهورية ميشال عون هو وصهره جبران باسيل يعطلان تشكيل حكومة جديدة تخرج البلد من أسوأ أزمة اقتصادية يمر بها منذ الاستقلال بسبب إصرارهما على أن تكون الحكومة وفقاً لمقاييسهما الشخصية، ونسي الرئيس أيضاً التشكيلات القضائية المجمدة في إدراج قصر بعبدا منذ أشهر رغم معرفته بأن استقلالية القضاء هي الأساس للبدء في مكافحة الفساد والفاسدين، ولم يعد همه سوى التدقيق الجنائي في مصرف لبنان المركزي في محاولة كيدية للنيل من حاكم البنك رياض سلامة كونه يشكل خطراً على طموحات جبران باسيل الرئاسية التي انعدمت بعد العقوبات التي أعلنتها الخزانة الأميركية عليه بتهمة الفساد.
لقد استغرب الخبراء هذه التصرفات، خصوصاً بعدما حسمت شركة «ألفاريز آند مارسال» خيارها بالانسحاب من مهمتها في لبنان وإعلان رئيس الجمهورية تمسكه بالتدقيق الجنائي وتجاهله لكل المصائب التي يعيشها البلد بسبب الأداء الكارثي لحكومة حسان دياب التي شكلت بإيعاز من الثنائي الشيعي بالتكافل والتضامن مع التيار الوطني الحر.
وقد تسبب انسحاب شركة الاستشارات العالمية «ألفاريز آند مارسال» لإعادة الهيكلة، من مهمة التدقيق في حسابات مصرف لبنان المركزي، بموجة من التساؤلات في الأوساط السياسية والاقتصادية والشعبية في لبنان، إذ حمّلت أوساط سياسية ونيابية ووزارية تابعة لـ«التيار الوطني الحر»، الذي يرأسه جبران باسيل، صهر الرئيس اللبناني ميشال عون، جهات سياسية مسؤولية عرقلة مهمة الشركة، ومنعها من تنفيذ مهمتها، فيما سادت الشارع اللبناني تساؤلات عما إذا كانت الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الانسحاب، تتعلق بضغوط سياسية خارجية، أو بسبب قانوني السرية المصرفية والنقد والتسليف.
المسؤولون العونيون وجهوا أصابع الاتهام فيما جرى إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، والرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة.
وشدد «التيار الوطني الحر» على ضرورة إتمام هذا التدقيق على الرغم من كل المعوقات. وهو ما أكدته وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم، (من وزراء «التيار الحر»)، وكذلك رئيس الجمهورية ميشال عون، في كلمة متلفزة وجهها إلى اللبنانيين، في ذكرى عيد استقلال لبنان.
وهذ ما دفع كتلة «التنمية والتحرير» التي يرأسها نبيه بري، للقول «إن السبب الأول الذي دفع ألفاريز إلى الاعتذار، هو عدم تلمسها وحدة الموقف في لبنان، حيال مهمة التدقيق».
وأشارت إلى أنه «بعد اعتذار الشركة، عمد فريق التيار الوطني الحر إلى القول إنه يؤيد حصول التدقيق في البنك المركزي، وكل المؤسسات في البلاد، إلا أن التيار المذكور، يعلم جيداً أن الهدر الأكبر كان في الكهرباء ووزارة الطاقة، التي يشرف عليها منذ أعوام».
وتساءل مصدر نيابي في كتلة «التنمية والتحرير»: «هل كان التيار الوطني الحر سيقبل بفتح دفاتر كل حسابات البواخر (المستأجرة لإنتاج الكهرباء) قبل اعتذار الشركة، وما أنفق عليها؟ ولماذا لم يقبل بعرض شركة سيمنز الألمانية، في ما يخص الكهرباء؟»، قبل أن يجيب: «إنهم بالفعل يمارسون سياسة الهرطقة، لا أكثر ولا أقل».
وفي غمرة الاتهامات التي أطلقها «التيار الوطني الحر»، ورد كتلة «التحرير والتنمية»، كان لافتاً استغراب وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني ما وصفه بـ«القرار المفاجئ» لشركة «ألفاريز آند مارسال» بإنهاء الاتفاقية، خصوصاً أن الشركة أعطت مهلة 3 أشهر للحكومة لتأمين المعلومات والمستندات المطلوبة، للمباشرة بتنفيذ مهمتها.
وأشار وزني إلى أن «هناك أطرافاً سياسية، كانت تعمل على تحضير مشاريع قوانين في مجلس النواب لرفع السرية المصرفية، التي تسمح للشركة بالحصول على المعلومات المطلوبة، كما أن الحكومة كانت بصدد تحضير قانون بهذا الشأن».
تأويلات وتفسيرات
موقف وزير المالية غازي وزني، فتح مجالاً لموجة من التأويلات والتفسيرات، كان من بينها أن تكون الشركة خضعت لضغوط سياسية خارجية، بهدف تطويع القرار السياسي في لبنان، إلا أن خبيراً مالياً عمل ضمن الفريق اللبناني الذي فاوض بعثة صندوق النقد الدولي، قبيل استقالة حكومة دياب، قال إن «الشركة اعتذرت عن استكمال مهمتها، حفاظاً على سمعتها في العالم، ولئلا تتهم بأنها تنفذ أعمالا مخالفة لقواعد المحاسبة والتدقيق الجنائي».
وتابع: «لا شك أنها اصطدمت بجملة من العوائق التي منعتها من متابعة عملها»، مؤكداً أن «لا صحة للمعلومات التي تشير إلى أن الشركة تعرضت لضغوط من جهات خارجية، طلبت منها التوقف عن متابعة الاتفاق الذي أبرمته مع الحكومة اللبنانية».
الجدل النيابي
هذه الوقائع أثارت جدلاً بين الكتل النيابية بعد اتهامها بعرقلة عملية التدقيق بسبب تورطها مع القطاع المصرفي بتهريب الرساميل إلى خارج لبنان بعد اندلاع ثورة تشرين الشعبية، كما اتهمت بأنها لم تعمل جدياً لطرح الآلية التشريعية لحل مشكلة السرية المصرفية وقانون النقد والتسليف لتسهيل عمل شركة «ألفاريز» في التدقيق بحسابات مصرف لبنان، إذ يعتبر البعض أنّ بوسع وزارة المال رفع السرية المصرفية عن حساباتها حتى يكون مصرف لبنان ملزماً بتسليم كلّ ما تطلبه شركة التدقيق فيما يعتبر البعض الآخر أنّ حلّ هذه المسألة يتطلّب تعديلاً بسيطاً. أما وجهة النظر الثالثة فتقول إن حلّ هذا السجال يحتاج إلى تشريع جديد، وثمة من يقول إنه يكفي أن يطلب القضاء بيانات مصرف لبنان حتى تُحلّ كلّ هذه الجدلية.
وفي هذا الإطار كان لافتا السجال بين وزيرة العدل ماري كلود نجم ورئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان الذي نعت الوزيرة نجم بوزيرة اللاعدل فردت النعتة بأحسن ووصفته برئيس لجنة انهيار المال؟ فالخلاف هنا بين اهل البيت الواحد. وانتهى الأمر بصلح بينهما في بعبدا. وقبل ذلك شهد القصر الجمهوري اجتماعا قيل خلاله لوزير المال غازي وزني أن يطلب من مصرف لبنان رفع السرية المصرفية عن حسابات الوزارة فينتهي الأمر، ولكنه رفض.
ثم انتقل النقاش إلى المجلس النيابي، فسارع نائب رئيسه إيلي الفرزلي إلى رفض أي مس بقانون السرية المصرفية بعد أن قدمت القوات اللبنانية اقتراح قانون يجمد مؤقتا بعض أحكام قانون السرية المصرفية، علما أن التيار الوطني الحر كان قد أعلن نيته بتقديم اقتراح مماثل وتلاه النائب علي حسن خليل الذي أكد إصرار حركة أمل والتزامها السير بالتدقيق الجنائي في المصرف المركزي والوزارات والإدارات والمؤسسات التي مثلت موازنتها العبء الأكبر على الخزينة، وكلام خليل حول الوزارات والإدارات فسره البعض بأن وزارة الطاقة والمياه هي المستهدفة الأولى كونها كبدت الخزينة نحو 47 مليار دولار منذ أن تسلم التيار الوطني الحر هذه الوزارة في العام 2009. لذلك يستبعد الخبراء أن «يصل ملف التدقيق الجنائي إلى خواتيمه السعيدة لأن هناك قطبة مخفية في طريقة اختيار الشركة التي تولت موضوع التدقيق الجنائي. فقد عمد وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال منذ البداية إلى اختيار شركة «كرول» العالمية وهي الأكفأ ليكتشف بعدها أن لهذه الشركة علاقات مع إسرائيل، وهذا الأمر كان حجة لاستبعادها والإتيان بشركة «ألفاريز آند مارسال» غير المؤهلة أساساً، خصوصاً وأن صيت هذه الشركة سيئ بعد الفضيحة التي لحقتها أثناء قيامها بتحقيق جنائي في قبرص وتبين أنها تواطأت مع حاكم المصرف المركزي القبرصي لمصالح خاصة».
ماذا بعد؟
اليوم تتجه الأنظار إلى الخطوات المقبلة للدولة اللبنانية بعد انسحاب شركة «ألفاريز»، خصوصاً أن حكومة تصريف الأعمال تتمتع بصلاحيات محددة، وبالتالي فإن التعاقد مع شركة جديدة سيتطلب انتظار الحكومة الجديدة، لا سيما وأنه منذ اليوم الأول الذي وقّعت فيه حكومة دياب «الكارثية» عقد التدقيق الجنائي مع شركة «ألفاريز»، كان اللبنانيون على يقين من أنّ تحقيقهم هذا لن يصل إلى نتيجة، ليس لأنّهم فقدوا الثقة بحكّامهم فحسب، بل نتيجة جملة مؤشرات، بدأت باستبعاد شركة «كرول» (kroll) المتخصّصة في التدقيق الجنائي بحجّةٍ «مُمَانِعة» غير ذكية، مفادها أنّ الشركة تتعامل مع إسرائيل، ثم أوكلوا المهمة لشركة أخرى غير متخصصة بالتدقيق الجنائي، متعاملة مع إسرائيل بطبيعة الحال، شأنها شأن كلّ الشركات العالمية. بعدها راحوا يتساجلون حيال تعارض التدقيق مع القوانين اللبنانية من عدمه.
مؤشرات سلبية
الخبير الاقتصادي البروفسورجاسم عجاقة اعتبر أن «انسحاب شركة ألفاريز آند مارسال هو مؤشر سلبي باتجاه المجتمع الدولي فيما يخص عملية الإصلاح التي هي، لبنانيًا، عملية سياسية استنسابية بامتياز وعرضة للصراع السياسي في كل لحظة. أسباب الانسحاب الرسمية هي عدم قدرة الشركة على الحصول على المعلومات من مصرف لبنان، إلا أن التحليل يُظهر عدّة احتمالات أخرى: أولًا مخاوف الشركة من ملاحقات قانونية قد تطالها من قبل متضرّرين من هذا التدقيق وبالتالي فضّلت الانسحاب، ثانيًا ضغوطات خارجية قد تكون أثنت الشركة عن الاستمرار في مهمة التدقيق والانسحاب من العقد، ثالثًا خوف الشركة على سمعتها وبالتالي فإن مخاطر السمعة لا تساوي مداخيلها من عقد التدقيق هذا».
وبفرضية أن أحد هذه الأسباب مطروح، من المتوقّع أن يكون من الصعب على الدولة اللبنانية التعاقد مع شركة تدقيق عالمية أخرى. مما يعني أن لبنان سينتظر بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي قد يطرح أسم شركة تدقيق ويكون الضامن في هذه العملية من خلال إلزام الدولة اللبنانية التعاقد مع الشركة.
التدقيق الجنائي هو ضرورة لعملية الإصلاح المطلوب من المجتمع الدولي، ولكن أيضًا من قبل الرأي العام اللبناني، وبالتالي هناك إلزامية التعامل مع هذا الملف على الصعيد الداخلي من خلال وضع القضاء اللبناني يده على هذا الملف وإجراء التدقيق في كل وزارات ومؤسسات الدولة اللبنانية خصوصًا أن ديوان المحاسبة أظهر في تقريره عن قطوعات الحسابات عن الأعوام المُنصرمة أن هناك سبعة وعشرين مليار دولار مجهولة المصير.
اقتصادياً، يُمكن القول إن هناك استحالة لاستعادة الثقة من قبل المودعين والمُستثمرين في لبنان وفي اقتصاده وقطاعه المصرفي من دون إجراء تدقيق ومحاسبة لكل الانتهاكات التي طالت المال العام وأموال المودعين. وبالتالي وبغضّ النظر عن الاعتبارات السياسية، هناك إلزامية على القضاء اللبناني وضع يده على ملف التدقيق بكل جوانبه لأن مُستقبل لبنان على المحكّ.
على الصعيد الدولي، هناك ربط دولي بين مساعدة لبنان ماليًا وإجراء التدقيق الجنائي في الدولة اللبنانية ومؤسساتها. وهذا الأمر يُضعف موقف لبنان دوليًا على الصعيد السياسي حيث نرى عزل لبنان يوميًا إن من خلال العقوبات أو من خلال حظر دخول الدولارات أو انسحاب البعثات الدبلوماسية ليتطابق هذا الواقع مع السيناريو المطروح في تقرير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى والذي ينصّ على عزل لبنان على الطريقة الفنزويلية ليُصبح لبنان فنزويلا الشرق الأوسط وهو ما قد يفرض تنازلات سياسية كبيرة.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.