تحت عباءة «لُحمة العائلة»... تخبئ نساء من غزة قصص تعنيفhttps://www.majalla.com/node/109391/%D8%AA%D8%AD%D8%AA-%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%C2%AB%D9%84%D9%8F%D8%AD%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D9%84%D8%A9%C2%BB-%D8%AA%D8%AE%D8%A8%D8%A6-%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D9%86-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%82%D8%B5%D8%B5-%D8%AA%D8%B9%D9%86%D9%8A%D9%81
* الأطباء بالمجمل لا يدققون كثيراً في الحالات الطارئة التي ترد، وتكون حالتها الصحية غير خطرة * كل مستشفى توجد به نقطة لجهاز الشرطة الفلسطينية، وتتم الاستعانة بهم إن احتاج الأمر * تشير الإحصائيات الأخيرة الصادرة عن مركز الإحصاء الفلسطيني، إلى أنّ حوالي 51 في المائة من النساء اللواتي سبق لهن الزواج في قطاع غزة تعرضن لأحد أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي
غزة: كان الطبيب يقطع خيط تقطيب الجروح الذي انسدل من رأس الثلاثينية مروة عندما عم في المكان صمتٌ مريب. «كيف أصيب رأسك بهذا الشرخ العميق؟» كرر على مسامعها السؤال مرتين، قبل أن يقطع والدها ذلك السكوت برده البارد: «سقطت على رأسها مروحة السقف ليلاً يا دكتور».
نظر إليه الطبيب من تحت نظارته محاولاً تصديقه، ليكمل العجوز الحبكة بإيماءات شهوده: «حتى اسأل جوزها وأخوها هم قدامك». بدا المشهد مرعباً، عندما نظرت 6 عيون نحو المريضة بتوعّد، هزّت رأسها بالموافقة على قولهم، عندما حاول الطبيب أن يتأكد من صدق الرواية على لسانها. وانتهت الحكاية هنا، ولعلها في الحقيقة بدأت.
مروة هو اسم مستعار لزوجةٍ ريفية تبلغ من العمر (33 عاماً) ولها من الأبناء خمسة، وتعيش برفقة عائلة لا تفهم سوى وجوب تبعية المرأة للرجل في كل تفاصيل الحياة. وقضيتها هي واحدة من بين العديد من القضايا التي غالباً ما يقفلها المجتمع بعبارة «سيرة وانتهت بعد بوسة راس أو اعتذار بسيط»، طالما أنّها بقيت على قيد الحياة.
السيدة التي احتاج معدّ التقرير مساعدة إحدى الممرضات ليلتقيها داخل مستشفى «الإندونيسي»، شمالي قطاع غزة، في موعد مراجعة الطبيب وتغيير الجرح، ذكرت أنّ زوجها لم يعطها الموافقة على الخروج من المنزل إّلا بعد توسل، وأخبرها أنّ الجرح سيلتئم وحده في البيت. وأضاف: «مش ناقص يزل لسانك بكلمة، فندخل بسين وجيم، ونحن مش فاضيين الآن».
عاد فلم يجدها
ما هي القصة وراء ذلك كله؟ تعود مروة بذاكرتها إلى ما قبل أسبوع، عندما عاد زوجها من الأرض الزراعية التي يعمل بها برفقة إخوانه، فلم يجدها في البيت، فقد نادتها إحدى الجارات قبل أقل من ساعةٍ وطلبت منها مساعدتها في صنع فطائر السبانخ، ولبت هي.
حينذاك استشاط الزوج غضباً، وبدأ يبحث عنها حسبما علمت لاحقاً، ووقتما عادت إلى المنزل رأته يقف بجوار باب المطبخ، فألقت التحية عليه، فلم يردّ عليها إلاً بخشبة فارد العجين (الشوبك) الذي ارتطم برأسها على الفور، وأحدث شرخاً كبيراً فيه.
تتابع حديثها: «علم أهلي الذي يسكنون على مقربةٍ مني، فجاءوا مسرعين، ونُقلت إلى المستشفى، وطوال الطريق كانت أمي تلقنني ما يجب أن أقوله، إذا ما سألني أحدٌ عن سبب الجرح»، قالت لي: «هذا زوجك أبو أولادك بدك تحبسيه وتبهدليه، والله لو صار هذا الشي بيطردك من البيت وبيطلقك».
وتضيف: «فعلت ما أرادت مرغمة، وكنت على يقين أن الطبيب لم يصدق الرواية، لكن لأنني أنا الضحية قانوناً، لم يعلُ كلام فوق ما قلت»، لافتةً إلى أنّ زوجها لم يطله أي عقاب، وانتهى الأمر كله بإذن خروج باهت من المستشفى، وسبب إصابة كاذب وهو سقوط مروحة.
حكاية مروة، ما هي إلا واحدة من عشرات الحكايات التي تعرضت صاحبتها لعنف أسري ذكوري، على خلفياتٍ واهية، لها علاقة بطبيعة المجتمع الفلسطيني التي ولدت فكرة السلطة لدى الرجال، وتخوفن من تقديم شكوى في المعتدين، «حفاظاً على لُحمة العائلة وصورتها أمام الناس الذين ينظرون للفتاة التي تطالب بحقها بعين الاحتقار، وينعتونها بقلة الأصل والجحود»، ستقرأون عبر السطور القادمة المزيد.
اختناقٌ بالكلام
في مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس، جنوب القطاع أغلقت الأعراف المجتمعية قضية الشابّة سمر (22 عاماً) التي كان مصيرها المكوث على أحد الأسرّة مدّة تزيد على عشرة أيام، تابع فيها الأطباء حالة يدها الصحية التي تعرضت لكسٍر وجرح، كُتب في السجلات أنّهما نتجا عن سقوطٍ داخل «الحمام» أدى لارتطام يدها في بابه المعدني. ورغم حضور الشرطة في هذه المّرة، للبحث في أسباب الأمر والتحقيق، إلّا أنّ عائلتها أصرّت على روايتها الأولى، وأجبرت الفتاة على تأّكيدها، وأقفل المحضر بناءً على ذلك.
الممرضة «أ.م» التي تعمل بنفس المستشفى، كانت تقف على مقربة من الشابّة تسمع الحديث، فلم يرق لها ولا بأيّ شكلٍ كان. كيف لا وهي جارة العائلة، وكانت على الدوام تسمع أصوات سمر، وهي تطلب الرأفة من إخوانها الذين يتمادون في تعنيفها كلما تأخرت عودتها من الجامعة للبيت حتّى ساعات المساء الأولى.
تقول الممرضة: «بعدما مضى الجميع، بقيت الشابّة ترافقها أمها، وفي ساعات الليل ذهبت نحوها، وحاولت كثيراً سؤالها عن سبب تلك الإصابة، فلم يكن على لسانها سوى أنّها سقطت بينما كانت تمسح أرضية الحمام والبكاء»، مضيفةً: «أخبرتها أن ذلك ليس صحيحاً والشرطة في الأصل لم تقتنع به، لكنّها أصّرت على قولها».
دفاعٌ عن الشرف
كانت الأم تجلس على طرف السرير تتأمل، والدموع تغالب عينيها، وفور ترك الممرضة للمكان، لحقت بها، وأخبرتها أنّ لديها حديثا ستختنق لو لم «تفضفض به لأحد»، وبدأت تحكي القصة قائلةً: «كعادتها وصلت سمر البيت عند الساعة الرابعة مساءً، وكان ينتظرها أخوها الأكبر، الذي بدا الشر يظهر في عيونه وقتما تعدّت الساعة حد الثانية ظهراً، وأخذ يهدد سمر ويتوعدها».
بمجرد دخول الابنة للبيت ذهبت لغرفتها الخاصة، وبدّلت ملابسها، وخرجت لتناول الطعام، وبعد وقتٍ قليل وصل الأب، فذهب الابن ناحيته وأخبره أنّ سمر للتو وصلت للمنزل، وهمس في أذنه بأنّ صديقه أكد له اليوم ما نقله سلفاً.
ما هي القصة، لاحقاً علمت الأم أن أحد أصحاب ولدها أبلغه بمشاهدته لأخته تتجول بمحيط جامعتها برفقة ثلاث فتيات وشابين، وفي الحقيقة كان الخمسة زملاء في ذات التخصص وكانوا عائدين من دورةٍ تدريبية تلقوها بمؤسسة مجتمع مدني.
تتابع: «دون أيّ تقصٍ حمل الأب عصاةً كبيرة ونادى على ابنيه الاثنين، واعتدوا جميعاً على سمر بلا شفقة ولا رحمة، وأكثروا من ضربها على أطرافها»، مشيرةً إلى أنّ «أحد الإخوة كان يحمل قطعة حديد حادة، وتعّمد ضربها بشكلٍ مباشر، مما سبب لها الجراح».
لم يكتفوا بذلك، بل أخذوا بضربها على مكان الجرح، وهي تستمر بالصراخ وأنا وأخواتها الصغار معها، وبعد دقائق طويلة مضت، استطاعت الأم الأربعينية إبعاد الثلاثة عنها، واتصلت بالإسعاف وفي الفترة التي بقوا فيها منتظرين وصولها. هدّدها الأب قائلاً: «إذا تمّ الحديث عما جرى أمام أي شخص، سنقتلها. هي شرفنا ونحن أحرار بها».
وتزيد «رضخت لطلبه مرغمةً، وفعلت ما أراد وضاع حق الفتاة، التي ما زالت حتى هذه اللحظة تعاني من حالةٍ نفسية صعبة».
لماذا لم تبُح الممرضة بالسر للطاقم الطبي أو للشرطة حينذاك؟ تجيب عن هذا التساؤل هي بالقول: «سأًلقى الويلات منهم. عائلتها من النوع المشكلجي الصعب، يمكن أن يؤذوا أبنائي».
السبب... مكالمة مع زميلها
على أعتاب يوليو (تمّوز) 2019، كانت تفاصيل حكاية الشابّة أسمهان (21 عاماً) التي تقطن في حي التفاح شرقي مدينة غزة، حيث عاشت أكثر من خمسة أيام على سريرها داخل البيت، تعاني من آلام شديدة في مختلف أنحاء جسدها نتجت عن ضربٍ تعرضت له من والدها بعدما استمع لها من بعيد تحاكي شاباً عبر الهاتف المحمول، تطلب منه إحضار بعض الحاجيات في صباح اليوم التالي للمؤسسة التي تجمعهما فيها «زمالة التدريب».
توسلت الشابة كثيراً لكل من في البيت، طالبةً منهم نقلها للمستشفى، لأنّها كانت على يقين بأنّها تعاني من كسور تحتاج لمعاينة الأطباء والتجبير، فلم يستطع أحدٌ تلبيتها بأمر الأب.
تروى إحدى صديقات أسمهان وهي طالبة صحافة في ذات الجامعة التي تدرس بها، ونقلت الأحداث لمعدّ التقرير. بعد عناء شديد وأوقات طويلة حاولت الأم التي «لا حيلة بيدها» إقناع الأب بضرورة نقل الفتاة للعلاج، «لأنّها لو بقيت كذلك فستعاني من تشوهات وإعاقة طوال حياتها».
لم يرضَ الزوج بذلك، فاسترقت الأم وقتاً، بينما كان هو خارج المنزل يؤدي بعض الأعمال، واتصلت بإحدى أخواتها وجاءتها على عجلٍ، فأخبرتها بما جرى، فأصرّت عليها بضرورة إبلاغ الشرطة عن الحادثة أو بالحد الأدنى كبار العائلة، ليضعوا للأمر حداً، فأجابتها: «ما يهم الآن هو علاج أسمهان، ويجب أن لّا تسردي لأحدٍ ما حدث، لأنّ زوجي توعدني بالضرب والطلاق، إذا حصل ذلك»، واتفقتا على تأليف رواية تقنع المستشفى بعيداً عن الحقيقة.
نقلت الخالة الشابّة إلى المستشفى وهناك أصرّ الأطباء على معرفة الدافع وراء تأخيرها في الوصول لتلقي العالج، وسألوا عن والديها كذلك «لما لم يصحباها إلى هنا؟»، تساءل الجميع. بعد إلحاحٍ شديد وتهديد بطلب الشرطة، لفتح تحقيق ينجم عنه معرفة تفاصيل الواقعة، اضطرتا الاثنتين للبوح بما حصل لأحد الأطباء الذي طمأنهما أنّهما لو أخبراه الحقيقة، فهي ستظل سراً بينهم، وهذا ما صار. تلقت أسمهان العلاج وعادت للبيت وكأن شيئاً لم يحدث وبقي السر مخفياً إلى اليوم.
قوانين ولوائح قاصرة
تعليقاً على تلك الحالات، يقول مصدر بوزارة الصحة في غزة: «إن المستشفيات بشكلٍ عام تصل إليها الكثير من تلك الحالات، على نفس الشاكلة، ويتم التعامل معها في أقسام الاستقبال بحسب ما تروي العائلة القصة، وغالباً ما يتم التأكد من المصابة»، لافتاً إلى أن الأطباء بالمجمل لا يدققون كثيراً في الحالات المستعجلة التي ترد، وتكون حالتها الصحية غير خطرة.
ويشير المصدر الذي فضّل عدم كشف اسمه، إلى أنّ كلّ مستشفى توجد به نقطة لجهاز الشرطة الفلسطينية، وتتم الاستعانة بهم إن احتاج الأمر، لكّنه في ذات الوقت يؤكّد أن حدود تعامل الجميع مع الحالة، منوط بالاعترافات التي تُدلي بها، متابعاً: «على المستوى الشخصي أنا متيقن تماماً أن كثيراً من الحالات تتلفظ بغير الحقيقة، وتكون مجبرة على ذلك من أفراد عائلتها، وكنت شاهداً على عدد من الحالات المشابهة، لكن للأسف القانون لا يسمح لنا بتجاوز أقوال المريض».
وخلال عملية بحث موسعة أجراها معدّ التقرير في القوانين الصحية واللوائح المتعلقة بآلية العمل في المستشفيات والمنشورة على الموقع الإلكتروني لوزارة الصحية الفلسطينية، لم ترد أي مادة أو نص يشير بشكلٍ مباشر إلى تحمل المستشفى أي مسؤولية تجبرها على الإصرار على المريض لمعرفة سبب مرضه أو إصابته، فجلّ ما ورد هو تفصيل لآلية التعامل الطبي وطريقة تقديم الخدمة الصحية ليس إلّا.
الجدير ذكره أنّ المرأة المعنفة في منزل أبيها تعاني من عدم توفر الأدلة الكافية، أو شهود يمكنونها من إدانة المعتدي، وفي بعض الحالات الأم تكون على علم بأن زوجها يعتدي على ابنته منذ فترات زمنية طويلة، لكنها ترفض الذهاب إلى المحكمة للشهادة ضد زوجها، لتحمي أسرتها على حساب ابنتها، كي لا تخسر الأب، أو المورد الاقتصادي، وذلك وفقاً لما ورد في التقرير الإحصائي السنوي الصادر عن وزارة التنمية الاجتماعية عام 2017.
وفي السياق ذاته، تشير الإحصائيات الأخيرة الصادرة عن مركز الإحصاء الفلسطيني، إلى أنّ حوالي 51 في المائة من النساء اللواتي سبق لهن الزواج في قطاع غزة تعرضن لأحد أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي، ولجأ ما يقرب من 30 في المائة منهن إلى بيت الوالد أو أحد الإخوة والأخوات، فيما فضل 3.65 في المائة منهن السكوت تجاه العنف الذي تعرضن له من قبل أزواجهن، في حين لم تزد نسبة النساء اللواتي تعرضن للعنف وتوجهن إلى مؤسسة أو مركز نسوي لطلب استشارة عن 0.7 في المائة.