* تحول حزب الله ببطء ولكن بثبات من «حركة مقاومة»إلى قوة أجنبية تحارب في المنطقة بالنيابة عن إيران
* وقف حزب الله في صف السلطات ضد الاحتجاجات، ببساطة لأن حزب الله عندما فاز في الانتخابات البرلمانية في عام 2018- لأول مرة- وشكل حكومته الخاصة، أصبح هو السلطة.
عندما أعلن حزب الله عن نفسه كحركة مقاومة في عام 1982، لم يبتكر مفهومًا أصليًا. كانت جبهة المقاومة الوطنية- المكونة من الأحزاب العلمانية واليسارية اللبنانية- موجودة بالفعل، ولكنها لم تكن متماسكة ومنظمة مثل مقاومة حزب الله الإسلامية المرتقبة. بيد أنها كانت لبنانية، ولها هدف محدد للغاية: تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي. ولكن أراد حزب الله شيئًا ما أكثر من تحرير الأرض... أراد الهيمنة، وكانت المقاومة أداة جيدة للحصول على التأييد الشعبي وبالتالي فرض السيطرة.
اليوم يمتلك حزب الله السيطرة ولكنه خسر خطاب المقاومة، وبالتالي خسر التأييد الشعبي الذي يأتي معها. وفي ظل تدهور الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان، ومع تزايد التوترات مع إسرائيل بسبب صواريخ حزب الله الموجهة بدقة وعملياته الإقليمية، كان على الحزب الاختيار بين: الاحتفاظ بالمقاومة (العسكرية والاجتماعية)، أو خسارة التأييد الشعبي. ويبدو أن حزب الله اختار الأخير، وفضَّل السيطرة والهيمنة على قاعدة تأييده. وذلك بدوره سيطارد حزب الله في المستقبل القريب.
البدايات
قبل أن يصدر حزب الله بيانه السياسي الأول في عام 1985، كان الحزب يبني وجوده داخل المجتمع الشيعي ويعزز قاعدة تأييده. بعد حرب لبنان الأولى، وإثر تزايد مشاعر العداء تجاه إسرائيل بين الشيعة، انفصلت مجموعة من قادة حركة أمل وشكلوا حركة جديدة- أكثر تسلحًا- أُطلق عليها حينئذ «أمل الإسلامية». كانت تلك هي البنية التحتية الأساسية التي استخدمها ودعمها الحرس الثوري الجمهوري الإيراني، الذي كان موجودًا بالفعل في لبنان، لتشكيل حزب الله كما نعرفه اليوم.
في عام 1985، نشرت«حركة أمل الإسلامية»بيانًا سياسيًا تحت اسمها الجديد «حزب الله». في البيان، أعلن حزب الله عن عدة أهداف رئيسية: تدمير إسرائيل، وطرد النفوذ الغربي من لبنان والشرق الأوسط، ومحاربة الأعداء داخل لبنان، وتحديدًا حزب الكتائب اللبنانية. وأكد حزب الله على أن الدولة الإسلامية هي الخيار الوحيد الشرعي للحكومة اللبنانية. كما أنكر البيان السياسي حق إسرائيل في الوجود.
كان ذلك هو الانطلاق الرسمي لحزب الله بصفته ميليشيا معادية لإسرائيل وأميركا والغرب. وفي أثناء تلك الفترة، سعى حزب الله إلى تحقيق هدفه بمحاربة إسرائيل والغرب عبر وسائل مسلحة. وشهدت شبكة خدماته الاجتماعية تناميًا مُطردًا، وزادت عملياته العسكرية ضد إسرائيل. وكان الهدف هو التوسع في بنية حزب الله العسكرية والمحافظة عليها، وحمايتها عن طريق حشد تأييد المجتمع الشيعي وراء علة وجودها وإطارها الآيديولوجي.
كان الهدف هو الانقضاض على المتبقي من نفوذ حركة أمل، وفرض هيمنة كاملة على الشؤون الداخلية الشيعية. ولم يحدث حتى عام 1992 أن قرر حزب الله الخوض في السياسة الداخلية اللبنانية والمشاركة في الانتخابات البرلمانية، تحديدًا بعد أن أدرك أن الدخول إلى مؤسسات الدولة يمكنه أن يقوي كلًا من تأييده الشعبي وقدرته على اتخاذ القرار.
ربما تكون هذه السلطة والثقة هما ما دفعا حزب الله إلى تركيز جهوده على إسرائيل، وتصعيد عملياته العسكرية في الجنوب. ونجح الإعلام العسكري للحزب واستراتيجية التواصل جيدة الإدارة في كسب تأييد المجتمع الشيعي وما وراءه. ووصل ذلك التأييد إلى ذروته بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان عام 2000، واعتبر حزب الله حينها بطلًا عربيًا، حتى في نظر العرب السنة.
طريق الهبوط
ومع ذلك، بعدها مباشرة، واجه حزب الله معارضين يشككون في حاجة التنظيم إلى الاحتفاظ بسلاحه بعد الانسحاب الإسرائيلي. وتنامي التأييد الشعبي داخل المجتمع الشيعي، ولكن أصبحت ديناميكيات السياسة الداخلية أكثر تعقيدًا. وخرجت التوترات الفعلية إلى النور في عام 2004، بعد تبني قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1559 في سبتمبر (أيلول)، ثم اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في فبراير (شباط) 2005، مما أدى إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان.
جاء التحدي الحقيقي عندما استخدم حزب الله القوة ضد اللبنانيين لأول مرة في السابع من مايو (أيار) عام 2008، لتصبح نقطة البداية لانحسار شعبيته. كان ذلك مفترق طرق أمام التأييد الشعبي لحزب الله، وكانت بداية مشاعر السخط، ولكنه شهد أيضًا سيطرة حزب الله الفعلية على الدولة ومؤسساتها.
تمتع حزب الله بسيطرته التدريجية على مؤسسات الدولة اللبنانية ومواردها، مع تقديم كل من الخدمات والتمكين لدائرة مؤيديه من الشيعة، حتى طلبت سوريا تدخلهم في عام 2011. كان على حزب الله حينئذ أن يغير ترتيب أولوياته واستراتيجياته وخطابه. وأصبح أغلب ميزانيته مخصصًا للعمليات العسكرية في سوريا، على الرغم من أن تمويل الخدمات الاجتماعية استمر في أثناء تلك الفترة، وخُصصت أغلب الخدمات والميزانية للأسر والمؤسسات المرتبطة بالبنية التحتية العسكرية للتنظيم.
أصبح حزب الله، الذي كان يُعد في السابق قوة تحقق انتصارات سريعة وحاسمة، قوة تشحن جثامين «شهدائها»الذين قتلوا في أثناء خوضهم حربًا خارجية. وتحول حزب الله ببطء ولكن بثبات من «حركة مقاومة»إلى قوة أجنبية تحارب في المنطقة بالنيابة عن إيران. وعندما اشتركت إسرائيل في حرب سوريا، عن طريق ضرب منشآت عسكرية تابعة لإيران وحزب الله، اتضح تدريجيًا أن مهمة حزب الله في سوريا لم تكن «المقاومة»، حيث رفض اتخاذ رد انتقامي على الضربات الإسرائيلية، وفضَّل إعطاء الأولوية لفرض الهيمنة.
ثم فُرضت العقوبات الأميركية على إيران وحزب الله، مما أدى إلى نشوب أزمة مالية خطيرة داخل التنظيم. بيد أن الحزب استمر في تمويل عملياته العسكرية بدلًا من الخدمات، وبدأت قاعدته الشعبية في إثارة مخاوف جدية والتساؤل حول مهمة الحزب الحقيقية.
وفاة «المقاومة»
جاءت أسوأ ضربة ضد حزب الله من داخل المجتمع في 19 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019، عندما خرج الشعب اللبناني، بما فيه الكثير من الشيعة، إلى الشوارع للتظاهر ضد الحكومة. ونزع المتظاهرون الشرعية عن اثنين من أكبر حلفاء حزب الله داخل الحكومة وهما رئيس البرلمان نبيه بري، ووزير الخارجية جبران باسيل. كان رد فعل حزب الله على المتظاهرين عنيفًا، ولكنه اتسم بعداء استثنائي مع متظاهري الشيعة، وفي البلدات والمدن الشيعية.
ووقف حزب الله في صف السلطات ضد الاحتجاجات، ببساطة لأن حزب الله عندما فاز في الانتخابات البرلمانية في عام 2018- لأول مرة- وشكل حكومته الخاصة، أصبح هو السلطة.
بينما تتدهور الأزمات الاقتصادية في لبنان، أصبحت بدائل حزب الله أقل قبولاً- بالنسبة للبنانيين ككل وكذلك للشيعة. وفي ظل استمرار هوس حزب الله بالسلطة والقوة العسكرية، أدرك الشيعة اللبنانيون أن حزب الله أخفق في تحويل خطاب مقاومته وانتصاراته المزعومة إلى رؤية اجتماعية واقتصادية من أجل لبنان وشعبه.
واليوم يسيطر حزب الله على مؤسسات الدولة في لبنان، ويحاول حماية حلفائه، وجلب مرشحه المفضل سعد الحريري لكي يشكل حكومة لا يزال في إمكان الحزب السيطرة عليها. ولكنه استبدل بحب واحترام الشعب اللبناني، بما فيه كثير من الشيعة، مشاعر الخوف والكراهية. لن تستطيع حكومة الحريري المقبلة تنفيذ إصلاحات حقيقية، ولن تتمكن من الوفاء بشروط ومتطلبات المجتمع الدولي. وبالتالي من المستبعد للغاية أن يخرج لبنان من أزمته المالية، وأن يتحسن الموقف الاقتصادي.
الطريق الوحيد المتبقي لكي يحدث تغيير حقيقي، ولكي يدرك حزب الله فشله، هو الانتخابات البرلمانية المقبلة في 2021. عن طريق قانون انتخابي صحيح، ومعارضة منظمة، ودعم من المجتمع الدولي، ربما لا يضيع الأمل من لبنان تمامًا. في الوقت ذاته، انتهى خطاب المقاومة بالنسبة لحزب الله. ولن تكون له رجعة.
* حنين غدار: زميلة في زمالة فريدمان ببرنامج غيدولد للسياسة العربية في معهد واشنطن، حيث تركز على سياسة الشيعة في جميع أنحاء المشرق