* لن تخطئ عين المراقب الدقيقة، أن هناك طفرة ونهضة صناعية وإنشائية واقتصادية مستجدة في المناطق الطرفية السعودية، وبخاصة شمال المملكة
* يتألف الشمال السعودي من 4 مناطق رئيسية، يندرج تحت كل منها مئات المدن والقرى. وتمتاز كل منطقة بخصائص وموارد طبيعية متنوعة
* الأمل التنموي الجديد المنبعث من الشمال السعودي، وبخاصة مع تواصل اكتمال مراحل التنفيذ في مختلف المشاريع العملاقة، هو حافز أيضاً لرواد الأعمال والمنشآت الصغيرة والمتوسطة
جدة: في إحدى جولات التسوق في مدينة جدة، كان أحد رفوف العرض لافتاً بمنتجات غذائية لتسلية الأطفال، تحمل أغلفة براقة وفاخرة مقارنة بالمنتجات الأوروبية أو الأميركية أو حتى السعودية بسعر تنافسي للغاية!
كان الظن، كما اعتادت عين المتسوق السعودي، أن مراكز تصنيع المنتج السعودي، تنحصر في جدة أو الرياض أو الدمام، لكن عند تفحص تلك الأغلفة وتجربة المنتج، كانت المفاجأة أن المنتج مصنوع في مدينة حائل الصناعية في الشمال السعودي.
أثار وجود ذلك المنتج، تساؤلات حول مدى تواجد منتجات الشمال السعودي على رفوف السوبرماركت. وبالفعل، كانت منتجات زيت الزيتون الجوفي (من منطقة الجوف) والمحاصيل الزراعية والحيوانية القادمة من تبوك، تغطي مساحات آخذة في الاتساع ضمن قائمة المنتج السعودي، منشأً وصناعة وإنتاجاً وتغليفاً.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فهناك مدينة وعد الشمال (تأسست عام 2012)، التي تولت تشييد مرحلتها الأولى الشركة العربية السعودية للتعدين (معادن)، وتوسعت بضخ استثمارات عملاقة عام 2018 بقيمة 86 مليار ريال (23 مليار دولار) لتشمل قطاعات صناعية وخدمية متخصصة.
ويجري العمل حالياً على قدم وساق في سبيل بناء منطقة نيوم، التي أطلقت في مثل هذه الأيام قبل 3 سنوات باستثمارات تبلغ قيمتها 500 مليار دولار، يضخها صندوق الاستثمارات السعودي على مراحل، تنتهي أولها عام 2025.
ولن تخطئ عين المراقب الدقيقة، أن هناك طفرة ونهضة صناعية وإنشائية واقتصادية مستجدة في المناطق الطرفية السعودية، وبخاصة شمال المملكة، التي توصف بأنها «أرض بكر»، ومن المتوقع لها أن تكون أحد محركات النمو الأساسية في المملكة؛ للتحول إلى عصر ما بعد النفط. فما هي تلك المزايا التي يتمتع بها الشمال السعودي؟ ولماذا يتوقع أن يكون دوره محورياً في مستقبل التنمية السعودية؟
ما هو الشمال السعودي؟
يتألف الشمال السعودي من 4 مناطق رئيسية، يندرج تحت كل منها مئات المدن والقرى. وتمتاز كل منطقة بخصائص وموارد طبيعية متنوعة، وبحدود جغرافية هامة مع كل من العراق والأردن أو ضمن المملكة نفسها، مما يمنحها قوة تجارية واقتصادية كامنة، وميزات نسبية استراتيجية، تميزها عن باقي مناطق المملكة. ويبلغ مجموع مساحات مناطق الشمال السعودي قرابة 481 ألف كيلومتر مربع، أي نحو19 في المائة من إجمالي مساحة المملكة.
- منطقة الحدود الشمالية، شمال شرقي المملكة، بمحاذاة الحدود الأردنية والعراقية. عاصمتها الإدارية مدينة عرعر، ومن أهم محافظاتها طريف وسكانها أقل بقليل من 400 ألف نسمة.
- منطقة الجوف شمال غربي المملكة على الحدود مع الأردن، وهي تمثل نقطة التقاء البادية السورية ببادية الجزيرة العربية. عاصمتها الإدارية مدينة الجوف، وسكانها أكثر بقليل من نصف مليون نسمة.
- منطقة تبوك أقصى الشمال الغربي للمملكة، يحدها من الشمال الأردن، ومن الشرق منطقة الجوف ومنطقة حائل، ومن الجنوب منطقة المدينة المنورة، ومن الغرب خليج العقبة والبحر الأحمر. فيها آخر نقاط التقاء البادية السورية بالجزيرة العربية. عاصمتها الإدارية تبوك، وسكانها نحو مليون نسمة. وتستأثر منطقة تبوك بالتميز الاستراتيجي في الموقع.
- منطقة حائل في الشمال الغربي الأوسط وليس لها حدود خارجية، لكنها بوابة نجد إلى الشمال ولامس مناطق الشمال السعودي، وتتمتع بثقل تاريخي وحضاري رهيب. عاصمتها مدينة حائل، وسكانها نحو 800 ألف نسمة.
تشبع المراكز التقليدية
لطالما تركز النشاط الاقتصادي في السعودية على مدار سنوات طويلة على 3 مناطق:
- الوسطى التي تضم العاصمة الرياض، وهي مركز الثقل السياسي والاقتصادي والعسكري والحكومي، الذي يحتضن الأجهزة والهيئات والوزارات، إلى جانب الصناعة وبعض إنتاج النفط.
- الشرقية التي تضم مراكز إنتاج الطاقة والصناعة البتروكيماوية، وتحتضن الثقل النفطي والغازي السعودي
- الغربية التي تضم الأماكن المقدسة وأهم الموانئ والمراكز الصناعية والفعاليات التجارية.
وفيما وصل عدد سكان المملكة عام 2019 إلى 34.2 مليون نسمة (20 مليونا من المواطنين والمواطنات)، تحتضن المناطق الثلاث أعلاه الغالبية العظمى من سكان المملكة. المدن الكبرى في السعودية، تتوسع بشكل هائل، وهي مركز جذب للباحثين عن عمل وحياة أفضل وفرص أكبر. فقد تضاعف عدد سكان المدن الكبرى في السنوات العشرين بأسلوب، شكّل تحدّيا تنموياً وخدمياً وأمنياً واقتصادياً في سبيل الحفاظ على جودة الحياة بمستويات لائقة.
لقد أدّى النمو الاقتصادي الكبير وتدفق الأموال على البنى التحتية وتوسع الأحياء في المدن الكبرى إلى تباعد الأطراف وطول مدة المشاوير، وكذلك ارتفاع الأجور والإيجارات وتكاليف التشغيل والحياة أيضاً.
وفي المقابل، لا يتجاوز مجمل سكان جميع المناطق الشمالية، 2.7 مليون نسمة (بحسب بيانات هيئة الإحصاء السعودية)، يشكل الشباب السعودي، نسبة معتبرة منه، بمساحة هائلة، تتجاوز مساحة بلد عملاق مثل ألمانيا. لا تعاني تلك المدن تكدساً أو تسارعاً شديداً في النمو السكاني. كما أن معظم سكانها من السعوديين، وليست هناك هجرة إليها، مما يعني أن توسعها مدروس ويسير بوتيرة ثابتة. هذا الرقم من السكان مثلاً في مناطق الشمال الأربع، هو نصف عدد سكان الرياض البالغ عددهم أكثر بقليل من 5 ملايين نسمة.
شعاع التنمية الزراعية
تتمتع مناطق الشمال السعودي، بشكل عام، بوفرة في المياه، وتتساقط الثلوج في مواسم الشتاء، وبخاصة في السنوات الأخيرة، مما يدل على غزارة المياه الجوفية، ودور أكبر في تحقيق الأمن الغذائي السعودي، وهو ظهر جلياً خلال السنوات التي تلت مطلع الألفية، حيث توسعت الزراعة بشكل هائل وأقيمت استثمارات مؤسسية أو توسعت استثمارات مليارية قائمة مثل شركة أسترا الزراعية في تبوك، وشركة الجوف للتنمية الزراعية وغيرها الكثير.
وعلى سبيل المثال، تنتج السعودية 16 في المائة فقط من حاجتها من زيت الزيتون، الأمر الذي يعني وجود فرصة لزيادة تلك النسبة، وبخاصة في منطقة الجوف. وليس بالضرورة أن ينافس إنتاج زيت الزيتون السعودي في الأنواع العادية مثل التي تنتجها سوريا أو تونس أو إسبانيا، فالتكاليف التشغيلية في تلك الدول أرخص من السعودية وسعر المنتج أقل، لكن أمام منطقة الجوف السعودية مثلاً فرصة ريادة زيت الزيتون العضوي (عديم السماد والمبيدات الكيماوية) فهي سوق يمكن أن تكون منافساً جديراً، وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي والتصدير بمعدلات أعلى.
نهضة تعليمية وابتعاث حسب التخصص
يحتضن الشمال السعودي بمختلف مناطقه ومدنه الكبرى مجموعة من الجامعات التي توفر جميع التخصصات، النظرية والعلمية، البسيطة منها والمعقدة.
وقد شهد العقد الأول من الألفية تأسيس جامعات حكومية، تشمل جامعة الجوف (2005) وجامعة حائل (2005) وجامعة تبوك (2006) وجامعة الحدود الشمالية (2007)، وكانت قبل كل ذلك تأسست جامعة أهلية، هي جامعة فهد بن سلطان في تبوك عام 2003.
لم تكتف الحكومة بتقديم خدماتها في التعليم العالي لسكان المناطق الشمالية، ولا حتى الجامعات الأهلية، بل إن الشركات العملاقة التي تطور مناطق صناعية (مدينة وعد الشمال الصناعية في مدينة طريف بالحدود الشمالية) أو مدناً إدراكية هي الأذكى على مستوى العالم (نيوم في أقصى الشمال الغربي)، صارت تبتعث طلاباً وطالبات من المجتمع المحلي (سكان المنطقة من المواطنين والمواطنات) إلى جامعات العالم الكبرى باختصاصات صناعية وتقنية نادرة مثل الذكاء الصناعي والحكومة الإلكترونية وهندسة الطيران والهندسة الصناعية.
إن دخول شركات القطاع الخاصة والاستثمارات الحكومية في تنمية مواهب المجتمع المحلي وتمكين الأفراد من الوصول إلى أرقى المؤسسات التعليمية وإيجاد المزيد من فرص العمل المصممة لحاجات الشركات بدقة، مما يتيح إيجاد وظائف نوعية لأفراد المجتمع المحلي بعد عودتهم من رحلة الابتعاث.
استثمارات عملاقة وثروات هائلة
يخصص صندوق الاستثمارات العامة السعودي مبلغ 500 مليار دولار لإنشاء مشروع نيوم، وقد بدأ العمل منذ إطلاق المشروع العملاق وانتقل مقر العمل إلى نيوم نفسها أوائل العام الجاري. هذا المخصص الضخم سيكون ذا منافع كبيرة، وسيجعل منطقة تبوك التي تحتضن مشروع نيوم، نقطة جذب لأصحاب الأعمال والكفاءات لملء الشواغر وتلبية احتياجات المشروع من المقاولين والموردين ومزودي الخدمات.
وهناك شركة «معادن»، التي تمتلك وتشغل وتستثمر الأموال في شركات متنوعة لإنتاج الفوسفات باستثمارات تصل إلى 55.35مليار ريال (نحو 15 مليار دولار)بحسب موقع شركة «معادن». ويقدر احتياطي الفوسفات في الشمال السعودي حالياً بنحو 2.7 مليار طن أي حوالي 7 في المائة من المخزون العالمي. كما تضم منطقة الحدود الشمالية مدينة وعد الشمال الصناعية، فيما دشن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز استثمارات بقيمة 86 مليار ريال (23 مليار دولار) عام 2018.
أما منطقة الجوف، فقد أصبحت موطنًا لمجموعة من الزراعات النوعية، بشقيها العضوي والتقليدي. كما أن الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية (مدن) وهي هيئة حكومية، أقامت واحة مدن بالجوف، وهي منطقة صناعية معنية بالصناعات الخفيفة. كما أن هناك مبادرة «مدن»للتجمعات الغذائية والصناعات المستهدفة في القطاع الصناعي والزراعي. وتفيد تلك المبادرة إلى توطين سلاسل الإمداد المرتبطة بالإنتاج الغذائي والزراعي والصناعي.
أما عروس الشمال، حائل، فتتمتع بمنطقة صناعية عملاقة، أنشئت عام 2003، وتمتد على مساحة 2.5 مليون متر مربع، وبها مجموعة من الصناعات الغذائية والمعدنية والدوائية، ويميّزها احتضانها لآثار حضارات متعاقبة منذ أقدم العصور.
كما ترتبط معظم مناطق الشمال السعودي بما يسمى «قطار الشمال»، الذي يربط مختلف مدن الشمال بالداخل السعودي في الرياض والقصيم، وصولاً إلى ميناء رأس الخير الصناعي في المنطقة الشرقية، الذي يربطه القطار بمناطق إنتاج الفوسفات في قرية حزم الجلاميد.
الشمال نحو المستقبل
يحرص العهد السعودي الحالي على تثبيت فكرة الابتعاد عن النفط كمصدر أساسي للميزانية، وتدبير أمور معيشة السعوديين كالرواتب والخدمات العامة وغيرها.
تتمتع مناطق الشمال السعودي، بثقل تاريخي هائل مثل مدائن صالح بمدينة العلا ودومة الجندل الغنية بالتاريخ الآشوري والنبطي، وقلعة تبوك ومغائر شعيب في مدينة البدع التي احتضنت في غابر الأزمان قوم مدين، إلى جانب مدينة فيد التاريخية وقلعة عيرف وحرة رهط والقصور العتيقة في منطقة حائل. وتذكر المصادر التاريخية المعروفة أن رمز الكرم والجود الأبرز في تاريخ العرب القديم، حاتم الطائي، يتحدّر من منطقة حائل. إن هذه المناطق والكنوز الأثرية هي مفتاح نهضة سياحية كامنة، يمكنها أن تثبت موقع السعودية كوجهة للسياحة الآثارية العالمية، وليس فقط السياحة الدينية للأماكن المقدسة.
إن زيادة ثمار المشاريع العملاقة والمدن الصناعية، يحتاج إلى انخراط أكبر للمجتمع المحلي، وبخاصة فئة الشباب، في الاستفادة من الحركة الديناميكية وتدفق الاستثمارات وفرص التعليم والعمل وزيادة التأهيل والتدريب؛ لأنهم المحرك الأساسي لتلك المشاريع التي وضعت لأجلهم، وليس لملايين العمال والمهنيين والمحترفين من خارج المملكة.
وبحكم الموقع الحدودي مع العراق والأردن، فإن المناطق الصناعية والبنية التحتية المليارية، يمكنها أن تكون جسراً لتدفق الصناعات السعودية إلى البلدين المذكور، إلى جانب إمكانية إقامة مناطق صناعية مشتركة وفتح المعابر الحدودية لتسريع التبادل التجاري مع السوق العراقية. أما بالنسبة للأردن، فقد أعلن السفير السعودي لدى عمّان قبل بضعة أيام عن أضخم مشروع استثماري سعودي في الأردن في سكك الحديد والمنشآت الطبية والبنية التحتية.
إن الأمل التنموي الجديد المنبعث من الشمال السعودي، وبخاصة مع تواصل اكتمال مراحل التنفيذ في مختلف المشاريع العملاقة، هو حافز أيضاً لرواد الأعمال والمنشآت الصغيرة والمتوسطة في تلك المناطق للانتعاش، وبخاصة مع تدفق الأموال في أرض بكر، تحتاج إلى الكثير من العمل والإنجاز لتنميتها وزيادة مساهمتها في الناتج الإجمالي المحلي الوطني.