* في حين أن الدولة أقفلت ملف انفجار المرفأ الذي قتل فيه 200 شخص في أغسطس (آب) الماضي، كان بعض «الثوار» يزيحون الستار عن لوحة تذكارية تحتفل بعام انطلاق الثورة... تعود اللبنانيون على العيش مع التناقضات لا بل ممارستها بشغف أحياناً.
لبنان بلد تتعايش فيه التناقضات على شتى أنواعها. منها الإيجابي نوعاً ما، وتستعمل لأغراض تسويقية للبلد وسياحته، من مثل استطاعة الشخص التزلج والسباحة في اليوم نفسه وبفارق نصف ساعة بين النشاطين، ومنها ما هو سلبي وهذا النوع أكثر انتشارا في لبنان، من مثل تعايش مبدأ الإعمار والازدهار الاقتصادي مع أعمال حزب الله الحربية وصواريخه، ما شبهه وليد جنبلاط بتعايش نموذج هانوي الذي يمثله حزب الله ونموذج هونغ كونغ الذي يمثله الرئيس الراحل رفيق الحريري. قمة تعايش هذا النموذج كان في 1996 مع عناقيد الغضب، ثم حرب تموز 2006.
من التناقضات اللبنانية أيضاً المثيرة للاهتمام هذا الخلط بين النظام الديمقراطي المتبع والذي في المبدأ يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، و«التوافقية» التي تعطي حقوقا لبعض المكونات الطائفية وتسلبها من البعض الآخر. وفي التناقض الأخير أمثلة كثيرة آخرها تجلى في حرمان الناجحين المسلمين في امتحانات مجلس الخدمة المدنية من الحصول على وظائف في الدولة لصالح راسبين مسيحيين تحت حجة الحفاظ على مناصفة وهمية أصلا في مؤسسات الدولة.
هناك بعض التناقضات التي لا يتحمس لها بعض اللبنانيين من دون أن يروا فيها عطباً أساسياً من مثل تحالف سياسي بين حزب يدعي العلمانية ويسعى إلى تطبيقها كما جاء في أديباته، وحزب آخر ديني يسعى لإقامة دولة إسلامية، متى أتيحت له الفرصة.
اعتاد اللبنانيون إذن على التعايش مع هذه التناقضات وهضمها في أكثر الأوقات وفلسفتها، مُرجعين إياها إلى نوع من خصوصية لبنانية فريدة في العالم... فلبنان بلد التعايش، والرسالة يقولونها لمن يزورهم من الأجانب، ويشيرون إلى تواجد الكنائس بجوار المساجد كبرهان على ما يقولون، ومع ذلك يسمحون لرئيس بلدية بلدة مسيحية بمنع سكانها من بيع ممتلكاتهم لمسلمين.
إذن اعتاد اللبنانيون على تقبل تلك التناقضات ونتائجها وبرعوا في تفسيرها بشكل ينافي أي منطق، فكيف يمكن لبلد مثلا يشهد عجز ميزانه التجاري ارتفاعاً مقلقاً على مدى السنوات الأخيرة، كيف لعملته أن تحافظ على قوتها أمام الدولار الأميركي؟
وكانت النتيجة أن وصل اللبنانيون إلى لحظة الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والمالي دفعة واحدة. الجميع كان يعلم أن الطبقة السياسية فاسدة بدليل أنه- على سبيل المثال- وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على توقف الحرب الأهلية ما زال اللبناني لا يتمتع بكهرباء 24 ساعة في اليوم، وما زال يعتمد على المولدات الخاصة لتعويض انقطاع التيار فيدفع المواطن فاتورتين من غير وجه حق. هذا الأمر ينطبق على البنى التحتية التي لم تلق الرعاية والاهتمام أو على ملف النفايات الذي سمم حياة اللبنانيين. كانوا يعلمون، ولكنهم لم يعترضوا بالشكل الذي يدفع المسؤول للتفكير في تغيير النهج. لماذا التغيير إذا كانت الأكثرية وما إن تدق ساعة الانتخابات النيابية تهرع لانتخابهم؟
نحن نعيش لحظة أخرى من التناقضات التي تميز تاريخ هذا البلد. ففيما هناك أناس يحتفلون بالعام الأول لانطلاق الثورة... واستطراداً طبعاً، هذه فرادة لبنانية أخرى كون الاحتفال عادة ما يكون بنجاح الثورة، كما في كوبا أو إيران أو الصين وغيرها من بلاد العالم. نجاح الثورة يعني قلب النظام. أما في لبنان فالنجاح يقتصر على حفلة تعارف. هكذا قال البعض. بمعنى أن ساكن الأشرفية تعرف عن كثب على ساكن باب التبانة، واكتشف أنه لا يختلف عنه من حيث الصفات البشرية. إذن فيما كان بعض الناس يحتفلون بمرور عام على الثورة، كانت الطبقة السياسية تجهد لتأليف الحكومة من دون أي اعتراض يذكر.
وفي حين أن الدولة أقفلت ملف انفجار المرفأ الذي قتل فيه 200 شخص في أغسطس (آب) الماضي، كان بعض «الثوار» يزيحون الستار عن لوحة تذكارية تحتفل بعام انطلاق الثورة. تعود اللبنانيون على العيش مع التناقضات لا بل ممارستها بشغف أحياناً.
هذا هو لبنان. بلد التناقضات. فمن ينتظر التغيير سينتظر طويلا.