* ظهر الشارع أواخر الخمسينات وكان لا ينام لو نامت بيروت فانتزع الوهج من وسط العاصمة
* استقطب أفخم دور السينما والمطاعم وبات مقصداً للسياح ورجال الأعمال والفنانين والشعراء وأهل الفكر
* شارع الحمرا بقي صامداً حتى اليوم، رغم غياب الأماكن التي كانت مقصداً للناس والسياح لأن وسط بيروت لم يستطع أن يجذب المؤسسات والمحال والفنادق بسبب المربعات الأمنية
بيروت:الحديث عن شارع الحمراء، أشبه بالحكايات الخرافية أو بقصص ألف ليلة وليلة، فهذا الشارع كان من ضمن منطقة بيروتية محاطة بأشجار «الصبار»حتىمنتصف الخمسينات من القرن الماضي وراجت شهرته في أواخرها وانتزع الوهج والشعاع من وسط العاصمة التجاري، وبات مقصداً للعائلات ولرجال الأعمال وللسياح والفنانين والشعراء وأهل السياسة والفكر وللمراهقين والباحثين عن المتعة واللهو حتى أطلق عليه البعض اسم «شانزليزيه لبنان»،وشبهه آخرون بشارع «أكسفورد اللندني»و«بارك أفينو»في نيويورك، بعدما اختصر هذا الشارع بيروت ببضعة كليومترات.
بلغت مركزية هذا الشارع حدودها القصوى بعدما استقطب أفخم دور السينما، وأجمل المطاعم وأكبر المحال التجارية ومقاهي الرصيف ودور اللهو والبارات والمؤسسات المالية والمستشفيات، حتى بات خلو المحل والمنزل في هذا الشارع يضاهي خلو أي محل أو منزل في شارع الشانزليزيه الباريسي.
حركة لا تهدأ
كان شارع الحمراء، حتى منتصف السبعينات لا ينام، لو نامت بيروت وأهلها، كانت المقاهي المنتشرة من مبنى الاتوال، حيث يقع اليوم المركز الرئيسي لـ«فرنس بنك»،وحتى آخر الشارع حيث تقاطع شارع السادات لا تغلق أبوابها، وكانتالبارات المنتشرة من شارع المقدسي مروراً بشارع السادات ووصولاً إلى فندق الكومودور تعج برواد الليل، وكانت مقاهي الرصيف «كافيه دوباري»،و«الهورس شو»،و«الويمبي»،و«المودكا»،و«الدورادو»،و«الستراند»تزدحم بالسياسيين والفنانين والشعراء والصحافيين.
الحمراء أيام زمان
تروي حكايات مختلفة عن منطقة الحمراء، ويذكر المؤرخون والكتاب، ومنهم المرحوم الدكتور الشيخ طه الولي، أن تاريخ المنطقة يرجع إلى أواخر العهد المملوكي في القرن السابع للهجرة، والثاني عشر للميلاد، وكانت تسمى منطقة «جرن الدب».
كانت المنطقة تتألف من مجموعة أزقة، منها زقاق الجبلاوي خلف فندق الكومودور زقاق ربيز، وزقاق عبد الحصري مكان مبنى الدورادو، وهذا الزقاق كان محلاً لتموين العلف للمواشي، وزقاق العليق مكان مبنى الستراند، وزقاق طنطاس قرب شارع جان دارك.
كان مجتمع سكان الحمراء زراعياً، ولم يترك أفراده منطقتهم إلا عند الضرورة القصوى، وكثير منهم ولد وعاش من دون أن يقصد منطقة أخرى، أي إنهم لم يعرفوا بيروت القديمة، أما الذين عرفوا المدينة فهم المزارعون الذين كانوا يبيعون محاصيلهم فيها، إذ إن معظم الأهالي كانوا يعيشون من ثمن الخضار التي يزرعونها في أراضيهم ويبيعونها في منطقة ساحة «السور»رياض الصلح حالياً.
كان السكان يهتمون بأشجار القساس، لأنهم يستخرجون من ثمارها مادة الصمغ ليصنعوا منه «الدبق»لالتقاط العصافير وبيعها، معتبرين أن هذه الهواية تجارة مربحة، والبعض منهم احترف صناعة الأدوات الفخارية مثل القدور والأباريق والأطباق والمغارف.
كانت المنطقة تضم حوالي خمسين بيتاً من مختلف الطوائف يعيشون سوياً على خير الدنيا وشرها، وكانوا يتجمعون في المساء، الرجال تحت شجرة الرمان، والنساء تحت شجرة التين، وكان الشباب يوجهون نظرات الغزل إلى الفتيات في الخفاء، لذلك أطلق علىالشجرة اسم «رمانة الحب»كان الأهالي يصنعون القباقيب من جذوع أشجار التوت، وإذا ما رأوا توتة جيدة سارعوا إلى القول «خرج القباقيب»كما كانوا يقصدون منطقة شوران للاستحمام في البحر ولمشاهدة حفلات الفروسية، أما في الليل فمن النادر أن يخرج شخص من منزله من دون أن يحمل عصا غليظة أو قطعة سلاح لكي لا يتعرض لهجمات قطاّع الطرق أو الحيوانات الشرسة، حيث كانت الضباع والثعالب والثعابين تتواجد بين أشجار الصبار والتوت.
ويقول جرجس الخوري المقدسي صاحب مجلة «المورد الصافي»(اغسطس/آب 1937) إن مزرعة الحمراء، هي مزرعة مستقلة قائمة بنفسها، يدخل المرء إليها من جهات مختلفة بممرات قد لا يتجاوز عرض الواحد منها ذراعين أو مترين... وأني كلما شعرت بتعب أدخل أحد الأزقة في هذه المزرعة المحبوبة منفرداً أو مع صاحب لي يقدر قيمتها ويتغزل بها، وهذا المدخل كناية عن خندق ضيق كان يعرف باسم خندق «دبيبو»وهو اليوم فوق محلات (أبت) ويضيف المقدسي... كيفما سرت في هذه المزرعة تصادف معتمرين فوق السبعين والثمانين، تعلو وجوههم الصحة والعافية، بين هؤلاء شيخ تجاوز المائة هو الحاج حسن يوسف العيتاني روى لي حوادث عديدة عن تاريخ بيروت، منها أنه «في حداثته فلح مع والده محلة باب إدريس وسوق الطويلة لأنهما كانا حقولاً يحيط بها الصبير.
لماذا الحمراء
تختلف الروايات عن سبب تسمية المنطقة بـ«الحمرا»،فهناك من يشير إلى بعض الرجال الأشداء من آل تلحوق الوافدين من مدينة عالية الجبلية، سكنوا في المنطقة واهتموا بزراعة الصبار، ويقال إن القمح انقطع في أحد الأيام عن بيروت فتوجه شخص منهم إلى منطقة البقاع طالباً كمية من القمح تكفي عشيرته خلال فصل الشتاء، فحدثت مشاجرة بينه وبين أحد أفراد قبيلة الحمرا التي كانت تسكن في بلدة «عيتا»أدت إلى مقتل ابن القبيلة، وبعد عودته إلى منطقته شنت قبيلة الحمرا هجوماً على منزل القاتل وقتلته مع من كان من أهله، فيما لاذ الناجون بالفرار، ولم يكتفوا بذلك بل استوطنوا في المنطقة واستقدموا عائلاتهم لبسط سيطرتهم ونفوذهم عليها، وتشيررواية أخرى إلى أن اسم الحمراء أطلق على المنطقة نسبة إلى فئة من الناس، غزت المنطقة لقربها من الشاطئ، وكان هؤلاء لا يستولون على أملاك وأرزاق السكان إلا بعد سفك دمائهم الحمراء، ويقول البعض الآخر أن الحمراء، أخذت هذا الاسم من تراب التلال الحمراء التي كانت تحيط المنطقة.
أول محل تجاري
في مطلع القرن الماضي، وبالتحديد عام 1910، لم يكن في منطقة الحمراء سوى محل سمانة واحد، هو محل أبو طالب، الذي كان مقصداً لكبار رجالات بيروت، وعلى رأسهم الرئيس الراحل رياض الصلح، وكانت المنازل بسيطة ومتواضعة، تتألف من طبقة أو ثلاث طبقات تحيطها الأشجار والحقول المزروعة.
كانت المنطقة في الشتاء «جور»خنادق مليئة بالمياه والوحول، وكان الأهالي يستعملون «الطنبر»في تنقلاتهم، لأن الطرقات لم تكن معبدة، باستثناء تلك التي تصل إلى الجامعة الأميركية.
أول بناء
أول بناء شيّد في المنطقة هو مبنى «دومتكس»الموجود حالياً عند مفترق الحمرا– عبد العزيز، وقد شيدته شركة «التابلاين»ليكون مقراً لها، وأول مسكن عصري على الطراز الحديث هو البيت الذي شيّده البروفسور سيلي عام 1923 ليكون مسكناً له، وكان موضعه حيث مقهى «الهورس شو».
شوارع الحمرا لم تعرف التخطيط والتعبيد والإسفلت إلا عام 1933 عندما قامت بلدية بيروت بهذا العمل وأطلقت على شوارع المنطقة أسماء بعض العائلات المجاورة لها كالعيتاني ربيز منيمنة شهاب مزبودي ودياب.
بداية الانتعاش
في مطلع الخمسينات اشترى آل عريضة أرضا من آل المر قريبة من شركة «التابلاين»وملاصقة لمنزل البروفسور سيلي، من أجل تشييد عمارة شاهقة عليها، وصودف أن عرف إميل ديفي الذي كان يعمل في الحقل السينمائي بالأمر، فعرض على مانويل عريضة فكرة إنشاء صالة سينمائية في ملجأ المبنى، في بادئ الأمر استغرب عريضة الفكرة، وسأله لمن تريد بناء هذه الصالة والمنطقة لا تزال مقفرة ومليئة بالأشجار، فأجابه الدبغي، وأنت لمن تريد بناء المبنى، وهكذا أقنعه وتم الاتفاق بينهما.
الدبغي حين فكر بالمشروع كان عنده شعور بأن المنطقة تتجه نحو التطور والازدهار، خصوصا أن السينما لا تبعد سوى مئات الأمتار عن فندق البريستول الذي افتتح سنة 1951 واستضاف ضيوفاً مشهورين مثل ألبرت الثاني أمير موناكو، ومحمد رضا بهلوي شاه إيران الراحل وثريا اسفندياري بختياري أميرة إيران الراحلة،، وملك الأردن الراحل الملك حسين والأميرة دينا بنت عبد الحميد، وأيضاً استقطاب طلاب الجامعة الأميركية الكائنة في شارع بلس الذي يبعد عن شارع الحمرا حوالي 200 متر.
الافتتاح
في مطلع عام 1958 أنجز البناء، وتم افتتاح سينما الحمراء بفيلم اسمه «كاديلاك من ذهب خالص»، ويومها استقدم الدبغي سيارة كاديلاك مطلية بلون الذهب استقلتها بعض الفتيات الجميلات وراحت السيارة تجوب في الشوارع لترغيب الناس في حضور الفيلم، لكن الافتتاح لم يدم سوى شهرين؛ إذ انطلقت أحداث الثورة الشعبية ضد عهد الرئيس كميل شمعون عام 1958 والتي استمرت أكثر من ستة أشهر، حيث شلّت الحياة تماماً طوال تلك الفترة، وبعدما انتهت الأحداث عادت الحمراء إلى استقبال الرواد، وهذا ما دفع بأصحاب صالات السينما في ساحة البرج للتوجه إلى منطقة الحمراء،فاستثمرت شركة خالد وهشام عيتاني ومحمود ماميش صالة سينما «السارولا»سنة 1961 وهذا الاسم أطلق تيمناً باسم زوجة المنتج المنتدب لشركة فوكس، الذي زار بيروت سنة 1960 برفقة زوجته السيدة سارولا، ثم استثمرت شركة عيتاني وماميش قصر «البيكادللي»الذي افتتح في يناير (كانون الثاني) عام 1967 مسرحية الرحابنة «هالة والملك»برعاية رئيس الجمهورية آنذاك شارل الحلو. وهذا القصر استضاف عروضاً قدمتها «أوبرا فيينواز»،و«باليه البولشوي»(الروسي)، و«الكوميدي فرانسيز»، و«رويال باليه»،وداليدا وعادل إمام وشيريهان والعروض الأولى لأشهر أفلام هوليوود ومصر.
وشيد آل حداد سينما الدورادو،والكوليزيه،وأديسون،مقابل الجامعة الأميركية، وقام عيتاني وماميش، بافتتاح سينما ستراند، ثم ظهرت سينما اتوال في سنتر صباغ، وسينما بافييون، وسينما أورلي، ثم سينما استرال وفرساي وواكب هذه الهجمة انتقال العديد من المحال التجارية من وسط بيروت إلى شارع الحمراء، وشيّد يوسف بيدس مبنى للإدارة العامة لبنك إنترا في شارع عبد العزيز، وهذا ما دفع بالمصارف والمؤسسات المالية إلى اللحاق به وافتتاح فروع لها في المنطقة ورفعت هذه الهجرة على الشارع أسعار الأراضي وبدل الخلوات، وامتد العمران في محيط الشارع الرئيسي بعدما انتشرت المحال التجارية الفخمة التي كانت تعرض الأزياء التي كانت تعرضها أكبر المحال في باريس وإيطاليا ونيويورك، كما انتشرت المؤسسات وعيادات الأطباء ومكاتب المؤسسات المالية في شوارع عبد العزيز والمقدسي وجان دارك والسادات وبلس والمكحول والوردية والكومودور امتداداً إلى محيط فندق البريستول الذي يعتبر من أقدم وأفخم الفنادق آنذاك، والذي كان مقصداً للشباب والشابات الراغبين في ممارسة رياضة التزلج على الجليد في القاعة التي خصصها الفندق لهذا النوع من الرياضة، ونمت المنطقة أكثر حين شيّد مقر مصرف لبنان المركزي الذي دشنه الرئيس الراحل الحاج حسين العويني يوم 31 مارس (آذار) 1964 في عهد الرئيس الراحل اللواء فؤاد شهاب الذي تفقد أرجاء البنك قبل يومين من تدشينه، ومن ثم تم تشييد مبنى وزارتي الإعلام والسياحة حيث انتشر العمران في جميع الشوارع المحيطة بمنطقة الحمرا التي شهدت كثافة سكانية، وأصبحت معابرها الضيقة تتسع وتمتد لتحمل أسماء تميزها عن بعضها البعض.
بعد الحرب
اندلاع الحرب الأهلية في ربيع عام 1975، والفوضى التي عمت العاصمة وشوارعها، والانتهاكات التي ارتكبتها الأحزاب والميليشيات والتنظيمات الفلسطنية المسلحة عن طريق احتلالها المنازل والمكاتب والمستودعات، واستمرت الاعتداءات على الشارع في عهد الوصاية السورية مما دفع العديد من أصحاب المحال والمؤسسات للإقفال والانتقال إلى أماكن أخرى فخرج الشارع بعد الحرب مثقلاً بالجراح، وفاقداً بريقه ووهجه وهويته وأهله وتجاره ورواده ومؤسساته ومقاهيه؛ إذ تغيرت معالم الشارع، بعدما تحولت صالات السينما إلى متاجر للملابس الشعبية أو مستودعات، وأقفلت معظم مقاهي الرصيف، بعدما باتت الأرصفة ملكاً لأصحاب البسطات وعربات بيع الكاستات المزورة، وتجار الشنطة، ومرتعاً للمتسولين وللشحاذين.
وغاب مطعم أمين أو مطعم الدراويش كما كانوا يطلقون عليه في طلعة الكبوشية الذي كان يستقطب كل الطبقات ومنهم الإعلاميون العاملون في جريدتي «النهار»و«السفير»وبعض الفنانين أمثال: زياد رحباني وجان شمعون والمخرج مارون بغدادي وكان هذا المطعم يقدم وجبة الغداء التي تتضمن نصف صحن حمص ونصف صحن سودة دجاج ونصف صحن بابا غنوج ونصف صحن تبولة أو سلطة مع الطبق اليومي بثلاث ليرات فقط، لذلك كانت الحركة لا تهدأ فيه منذ الصباح وحتى العشاء.
ولم تعد المقاهي مقصداً للسياسيين والأدباء والشعراء والفنانين والصحافيين بعد وفاة العديد منهم والبعض الآخر غادر البلاد.
لكن شارع الحمرا بقي صامداً حتى اليوم، رغم غياب الأماكن التي كانت مقصداً للناس والسياح لأن وسط بيروت لم يستطع أن يجذب المؤسسات والمحال والفنادق بسبب المربعات الأمنية المفروضة من قبل حرس مجلس النواب اللبناني على المنطقة والتي أدت إلى إقفال عشرات المطاعم والمقاهي في شارع المعرض الذي أصبح اليوم هدفا للثوارالناقمين على الحكم والطبقة السياسية.