* الهجرة لم تعد تقتصر على أشخاص عاديين وإنما على فئات تعتبر ناجحة في مجالاتها
* بلغ متوسط عدد المغادرين بعد انفجار بيروت 3978 مغادراً يومياً
* المرعبي: الإعلان عن الهجرة غير الشرعية نوع من الابتزاز الذي تمارسه رئاسة الجمهورية
* أبو زيد: الظروف الاقتصادية دفعتني لاتخاذ هذا القرار بالهجرة
* الخوري: هناك استنزاف للأطباء والعاملين في القطاع الصحي بسبب الهجرة
بيروت: في ظل اشتداد الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان، لم يعد خيار الهجرة مستبعداً إلا لقلة قليلة من الشباب اللبناني الذي يُعاني من قسوة الوضع الاقتصادي وغياب فرص العمل مترافقين مع غياب أنظمة الحماية الاجتماعية وعدم قدرتهم على الوصول إلى أموالهم في المصارف، وجاء انفجار مرفأ بيروت ليزيد من مأساة اللبنانيين الذين شعروا بفقدان الأمان وعدم القدرة على الاستمرار في هذه الأوضاع، هكذا بات حلم الكثير من اللبنانيين هو الهجرة إلى دولة تضمن لهم حياة أفضل ومستقبلاً مزدهراً.
لا تختلف أسباب الهجرة كثيراً بين الشباب الذين تواصلت معهم «المجلة»، فقال وسيم ناصر الدين إن «دافعه الأساسي للهجرة يعود إلى فقدانه كل ما يربطه بالوطن، من الأمان الاجتماعي والغذائي والصحي، كما فقدت حرية الرأي وتعرضت لتهديدات كثيرة، وهذا ما جاء لينسف أي فكرة بالبقاء في هذا الوطن». وأضاف ناصر الدين: «قررت الرحيل بحثاً عن وطن نظيف خالٍ من القتل والمحسوبية والبلطجة والسلاح المتفلت».
أما سارة التي تعمل كمعلمة في إحدى المدارس الخاصة لم تعد تتحمل الضغوطات المالية والاقتصادية التي تواجهها، فعلى الرغم من محافظتها على وظيفتها إلاّ أن راتبها لم يعد يكفي للعيش في ظل الغلاء المعيشي، كما أن زوجها أصبح عاطلاً عن العمل بعد أن فقد وظيفته كسائق باص للتلاميذ. وقالت سارة في حديث لـ«المجلة» إن «المجتمع اللبناني لم يعد يشبهني في شيء ولا يمثلني بطائفيته وشعاراته الواهية، لذا أريد الهرب منه، أريد مجتمعاً أعبر فيه عن رأيي في مختلف المواضيع بكل صراحة».
وفي السياق عينه، أشارت الصحافية فاديا جمعة إلى أن «العوامل التي تعزز فكرة الهجرة كثيرة ومتنوعة إلاّ أن أبرزها يكمن في ضمان مستقبل أفضل لأطفالي». وأضافت: «أي مستقبل ينتظرهم ونحن في حالة خوف دائمة من الحرب والقمع والتسلط والواسطة والمحسوبية».
الهجرة لم تعد هدفاً لفئة معينة
وخلافاً لموجات الهجرة التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة، فإن الموجة الحالية شملت أشخاصاً يعتبرون من الصف الأول في مجالاتهم، «فالوضع الاقتصادي أصاب كل الناس وليس مجرد فئة معينة أو طبقة اجتماعية»، بحسب ما قال رئيس نادي الصحافة الإعلامي بسام أبو زيد، الذي قرر الانتقال إلى قناة «الحدث» العربية في الإمارات، أواخر سبتمبر (أيلول) المقبل.
أبو زيد الذي بدأ مسيرته الإعلامية في المؤسسة اللبنانية للإرسال LBCI عام 1989 لا يعتبر أن قراره بمثابة هجرة فعلية نظراً للمسافة القريبة بين دبي وبيروت إلا أن «الظروف الاقتصادية المتدهورة والوضع الصعب الذي تعاني منه كل المؤسسات ومن ضمنها المؤسسات الإعلامية هو ما دفعني لاتخاذ هذا القرار الصعب». وأضاف: «قيمة الليرة اللبنانية تراجعت والمدخول انخفض، كما أن القدرة الشرائية أصبحت متدنية فلم تعد تستطيع الاستمرار، خصوصاً إذا كان لديك استحقاقات وواجبات عليك الإيفاء بها».
يؤكد أبو زيد أنها ليست المرة الأولى التي تُقدم له عروض للعمل، إلا أنه في السابق كان مردود عمله «جيداً»، بالإضافة إلى الأعمال الإضافية التي تؤمن له مدخولاً مالياً لا بأس به. والدافع الآخر الذي كان وراء قرار أبو زيد يتمثل في رغبته بخوض تجربة صحافية أوسع على مستوى العالم العربي والعالم ككل.
وتابع أبو زيد أن «الهجرة سابقاً كانت لها أسباب أخرى كالحرب الأهلية، ولكن الوضع الاقتصادي في ذلك الوقت كان أفضل مما هو اليوم». وختم أبو زيد: «الهجرة اليوم ليست خوفاً من شيء وإنما للبحث عن مكان يمكنه إعطاؤك مدخولاً أفضل وتأمين الحاجيات الأساسية لأفراد الأسرة من التعليم والحاجات المعيشية».
معدلات الهجرة
وبحسب أرقام «الدولية للمعلومات»، فإن لبنان شهد ارتفاعاً في أعداد المغادرين عبر المطار، مقارنةً بالفترة السابقة لانفجار الرابع من أغسطس (آب). فقد انخفض متوسط عدد القادمين بنسبة 12.3 في المائة، بينما ارتفع متوسط عدد المغادرين بنسبة 36 في المائة.
وقبل الرابع من أغسطس بلغ متوسط عدد القادمين 2750 شخصاً يومياً ومتوسط عدد المغادرين 2925 يومياً، فيما بلغ متوسط عدد القادمين بعد انفجار بيروت 2410 يومياً ومتوسط عدد المغادرين 3978 مغادراً يومياً في الفترة ذاتها.
الهجرة غير الشرعية والرسالة السياسية
وفي الوقت الذي تزداد فيه أرقام المغادرين عبر مطار رفيق الحريري الدولي، كثر الحديث عن موجة هجرة غير شرعية عبر البحر من شمال لبنان نحو قبرص، فقد عثرت قوة من اليونيفيل في المياه الدولية قبالة الشواطئ اللبنانية على قارب لأشخاص أرادوا الهجرة بطريقة غير شرعية إلى قبرص، وكان على متنه 36 شخصاً وآخر متوفٍ، بالإضافة إلى وفاة طفلين صغيرين جراء العطش والجوع، مما دفع الركاب إلى رميهما في البحر.
وليس هناك عدد دقيق لأعداد المهاجرين الذين كانوا على متن الرحلة التي انطلقت في السابع من سبتمبر الماضي، إلا أن ناجين تحدثوا عن حوالي 50 شخصاً.
والهجرة عبر «قوارب الموت» تتم في لبنان من خلال طريقتين، الأولى تتمثل بشبكات منظمة، إلا أن حجمها ما زال محدوداً، أما الثانية فتكون من خلال مبادرة المهاجرين لشراء قوارب صغيرة من أجل الهروب على متنها.
وفي هذا السياق، قال النائب السابق معين المرعبي في حديث لـ«المجلة» إن «منطقة الشمال هي الأكثر فقراً في لبنان، ومع اشتداد الأزمات وصل الوضع الاقتصادي والاجتماعي إلى درجة عدم القدرة على تأمين أبسط الحاجات». ولفت المرعبي إلى أن «ظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر البحر ليست جديدة حيث تعود إلى 10 سنوات، والدولة عاجزة عن ضبط الحدود البرية، لذا فإن الحديث عن ضبط الحدود البحرية غير واقعي».
وتابع المرعبي: «الوضع الاقتصادي وغياب القدرة على ضبط الحدود سيسهمان في ارتفاع أعداد المهاجرين غير الشرعيين دون أدنى شك». ويرى المرعبي أن «الإعلان عن هذه الظاهرة عبر وسائل الإعلام قد يكون بتوجيه من قبل رئاسة الجمهورية كنوع من ابتزاز للدول الأوروبية بأن عدم مساعدة السلطة في لبنان سيؤدي إلى هجرة باتجاه الغرب».
الانعكاس الاقتصادي للهجرة
لا شك أن الهجرة على اختلاف أنواعها تحمل انعكاسات اقتصادية على لبنان سواء من الناحية الإيجابية أم السلبية. وفي هذا السياق، قال الكاتب في الاقتصاد السياسي دكتور بيار الخوري في حديث لـ«المجلة» إن «الهجرة في لبنان ترتبط تاريخياً بالتناقض بين النمو السكاني وقدرة الاقتصاد اللبناني على توزيع عادل للفرص الاقتصادية المتاحة من ناحية، كما بالتناقض بين الحاجة للاستقرار الاجتماعي وحقيقة وجود لبنان في موقع جيوسياسي دائم التوتر».
وأضاف: «منذ بداية التراجع الاقتصادي عام 2011 انتهت ظاهرة الهجرة المعاكسة إلى لبنان والتي بدأت بعد اتفاق الطائف وبدأ اللبنانيون وخاصة الشباب منهم يتوسلون فرص عمل أقل جاذبية في الخارج بعد تراجع فرص العمل في الخليج العربي. ولكن منذ أواخر العام الماضي بدأت الهجرة بسبب الانهيار الاقتصادي وضياع الثروات المودعة في المصارف وزيادة معدلات الصرف من الخدمة».
وتابع: «كان لبنان يستوعب 35 ألف موظف وعامل جديد سنوياً ويغذي سوق الهجرة بـ15 ألفاً معظمهم من الخريجين. بعد عام 2019 أقفل سوق التوظيف الداخلي وتم تسريح فئات واسعة من العاملين في القطاع الخاص وأفلست الكثير من المؤسسات الصغيرة، فاجتمعت هذه العوامل الثلاثة لتخلق ضغطاً كارثياً على الطلب على العمل في الخارج».
ولفت إلى أن «التطور الأكثر خطورة جاء مع نكبة بيروت في الرابع من أغسطس، حيث بدأت الفئات التي لم يتهدد عملها بعد بالتخطيط للهجرة الدائمة هذه المرة، وذلك لأن قرار البقاء في لبنان قد أصبح مخاطرة غير محسوبة». كما نبّه إلى أن «هذا الاتجاه خطير جدا لأنه سيفرغ لبنان من النخب، حيث أصبح هناك استنزاف للأطباء والعاملين في القطاع الصحي بسبب الهجرة، ونحن نشهد هجرة متنامية لرجال الأعمال والعقول الشابة، البلد شبه مفلس وغير آمن والهجرة خيار منطقي لمن استطاع إليها سبيلا».
وهذا ما حذر منه نقيب الأطباء في لبنان عن تقدم مئات الأطباء من النقابة لطلب ملفاتهم وإفاداتهم استعداداً لمغادرة البلاد، منبهاً لكارثة حقيقية في حال استمر النزيف الحاصل في القطاع الطبي.
وفي السياق عينه، يلفت المحلل الاقتصادي محمود جباعي، في حديث لـ«المجلة» أن «الهجرة تؤثر سلباً على الإنتاج المحلي وإنتاجية العمل وتضعف ثقة المجتمع اللبناني الضعيف أساساً باقتصاده الوطني. وكل ذلك يدفع الاقتصاد اللبناني إلى مرحلة الكساد الذي يصعب العودة منه».
وأضاف جباعي أن «الهجرة التي نشهدها حالياً تؤدي إلى خلل في الهرم السكاني لأنها تستهدف بالدرجة الأولى الفئة الشابة في المجتمع».
عقبات أمام الهجرة
لا شك أن هناك العديد من العقوبات التي تحول دون قدرة اللبنانيين على الهجرة، فعلى الرغم من وجود رغبة لدى أكثرية اللبنانيين بالسفر والهجرة نظراً للظروف الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تمر بها البلاد، ولا سيما بعد حادثة المرفأ التي أدت إلى حالة من اليأس والإحباط لدى المجتمع، هناك أسباب أخرى تتمثّل في «فقدان الخدمات الأساسية من الرعاية الصحية والتعليم، فضلاً عن الأزمات التي تلوح بالأفق كأزمة النفايات» وفق ما قال الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين لـ«المجلة».
ويرى شمس الدين أننا «أمام اتجاه لزيادة أعداد المهاجرين والمسافرين ولكن من المبكر الحديث عن موجات هجرة كبيرة قبل نهاية العام الحالي».
ولفت شمس الدين إلى «وجود عقبات أمام المهاجرين تتمثل في إمكانية عدم تسهيل الهجرة من قبل السفارات والدول الخارجية، كما أن عدم قدرة اللبنانيين على الوصول إلى أموالهم المودعة في المصارف قد تحول دون القدرة على تأمين الحدّ الأدنى من الأموال التي يحتاجها من اتخذ قرار الهجرة».
وتابع شمس الدين: «هناك عائق إضافي يظهر من خلال تقلص فرص العمل في الخارج بعد جائحة كورونا». لذا فإن الحديث عن الهجرة قد يستمر في إطار الرغبات دون إيجاد القدرة على تنفيذها إلا للأشخاص الذين يملكون جوازات سفر أجنبية.
وفي أعقاب انفجار مرفأ بيروت الذي شكل نقطة فاصلة لكثير من اللبنانيين، أصبحت البلاد تواجه نوعاً جديداً من الهجرة لم يسبق أن شهدتها، فهي لم تعد تقتصر على الحالمين بمستقبل أفضل، وإنما على أشخاص يملكون مهارات وإمكانات مميزة ومتنوعة. فالأزمات المتتالية أفقدت اللبنانيين الأمل وزرعت في نفوسهم الخوف والقلق في بلاد تُعاني يومياً من سلسلة انهيارات في مختلف القطاعات والمجالات. ويبدو أن تعامل الدولة مع هذه الظاهرة لن يختلف عن سابقاتها في اللامبالاة وعدم تحمل المسؤولية.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.