* الآن بدا أن موقف السودان أقرب إلى مصر مما وضع إثيوبيا في حالة عزلة... ومن المنتظر أن تشهد المرحلة المقبلة تحسنا إضافياً في العلاقات المصرية السودانية
* التحركات المصرية الأخيرة تساهم في تعزيز الوجود المصري في القارة الأفريقية
* هذه الزيارات ليست زيارات تمهيدية تنفيذا لأي ترتيبات بين مصر وأطراف أخرى في المنطقة لصالح المواجهة مع إثيوبيا
* كانت لمصر علاقات تاريخية بالصومال ولكنها انقطعت وهذا ما لم يحدث بالنسبة لجنوب السودان
* الموقف الإثيوبي أصبح يمثل خطراً على مصر والسودان، ولكن كيف سيكون حجم هذا التأثير وشكله وإلى أي مدى؟
القاهرة: التحركات المصرية المكثفة، والتي بدت سريعة وجوهرية خلال الأسابيع والأيام الماضية في الجوار الإثيوبي والتي تأتي متزامنة مع الأحداث المتلاحقة الخاصة بأزمة سد النهضة الإثيوبي خاصة بعد تعثر المفاوضات التي يرعاها الاتحاد الأفريقي برئاسة جنوب أفريقيا، حيث بدت التحركات المصرية لها دلالات خاصة، فقد قام رئيس المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل بزيارة دولة جنوب السودان برفقة وفد رفيع المستوى مصاحبا معه وزيرة الصحة المصرية والتي قدمت دعما صحيا إلى جوبا عبارة عن مستشفى ميداني يأتي من قبيل سلسلة المساعدات المصرية المقدمة للجنوب السوداني في إطار الدعم المصري المتواصل لجوبا، إضافة إلى زيارة رئيس مجلس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي للعاصمة السودانية الخرطوم على رأس وفد رفيع المستوى في زيارة هي الأولى من نوعها منذ تقلده رئاسة الوزراء في مصر، هذه التحركات سبقتها أخبار متداولة عن تقارب مصري مع إريتريا عبرت عنها زيارة الرئيس أسياسي أفورقي للقاهرة، إضافة إلى زيارة وفد مصري لحكومة أرض الصومال، والتي أشيع عن اعتزام مصر بناء قاعدة عسكرية بها، هذه التحركات المصرية في الجوار الإثيوبي المتزامنة مع تعثر مفاوضات سد النهضة، وقيام الجانب الإثيوبي بالملء الأول لخزان السد بما سعته 4.5 مليار متر مكعب من المياه بشكل أحادي ومنفرد دون التنسيق مع مصر والسودان، دفع«المجلة»لبحث التحركات المصرية في الجوار الإثيوبي، مع عدد من الخبراء والمتخصصين، لاستيضاح هذه التحركات، وهل تأتي من قبيل تطويق إثيوبيا، وإجبارها على الرضوخ للمطالب المصرية السودانية، وإنهاء مواقفها المتعنتة من أزمة سد النهضة؟، أم إن هذه التحركات تأتي في إطارها الطبيعي لتطوير العلاقات الثنائية بين مصر والسودان (شمالة، وجنوبه) على حد سواء.
إعادة الحسابات السودانية من جديد
في البداية قال الأستاذ بكلية الدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة الدكتور أيمن شبانة: العلاقات القائمة بين مصر والسودان حاليا تشهد تحسنا مضطردا نظرا للدور المصري لدعم الأشقاء في السودان خلال الفترة الانتقالية، وأيضا دعم المشروعات المختلفة التي يتم تدشينها بين البلدين مثل مشروع الربط الكهربائي، ومشروع استكمال الطريقين البريين «قسطل- أشكيت»، و«توشكى- أرقين»، وأيضا القرارات الصادرة مؤخرا بضرورة استكمال جوانب النقص والقصور التي تعوق تدفق التجارة بين البلدين، وهذا من شأنه خلق علاقات اقتصادية متنامية بين البلدين لأن العلاقات في الوقت الراهن لا ترقى إلى الحجم المفترض المبني على التداخل السكاني والتجاور الجغرافي والاشتراك في العديد من العادات والتقاليد المشتركة بين الشعبين الشقيقين، والسودان في الفترة الأخيرة كان ينظر لمشروع سد النهضة الأثيوبي من معيار حساب التكلفة والعائد وبحسابات المصلحة، وحسابات المكسب والخسارة، فبدا موقفه الآن أقرب إلى مصر، ما وضع إثيوبيا في حالة عزلة، كما تأكدت السودان من سوء النوايا الإثيوبية عندما شرعت إثيوبيا في ملء خزان السد دون التنسيق مع السودان أو مصر، في مخالفة لإعلان المبادئ الموقع من الأطراف الثلاثة، ومن المنتظر أن تشهد المرحلة المقبلة تحسنا إضافيا في العلاقات المصرية السودانية والنمو في العلاقات الاقتصادية وإصلاح المفاهيم المشتركة المغلوطة بين الجانبين والتحسن في التنسيق فيما يتعلق بإدارة أزمة سد النهضة، وأعتقد أن هذا التقارب بين البلدين لا يأتي من قبيل الرفاهية السياسية، ولكنه أمر حتمي لأنه إذا ما قامت إثيوبيا بملء المرحلة الثانية لخزان السد ففي يوليو 2021 سوف تقوم بملء 13 مليار متر معكب إضافي من المياه بما له من آثار بالغة الضرر على مصر، والسودان، حيث إن الملء الأول لم يؤثر على مصر تأثيرا بالغا نظرا لوفرة الأمطار هذا العام، لكن السودان تأثر به كثيرا في صورة نقص الكهرباء في سد الروصيرص، وسد سنار، وانخفاض منسوب المياه في النيل الأزرق، بسبب تخزين إثيوبيا لحوالي 4.9 مليار متر مكعب من المياه فما بالنا بتأثيرات تخزين 13 مليار متر مكعب على السودان؟ سيكون حتما له تأثيرات كبيرة، وعلى مصر والسودان العمل سويا على منع إثيوبيا من استكمال عمليات الملء خاصة بعدما ظهر أن الاتحاد الأفريقي كان أداؤه مخيبا للآمال، حيث إنه لم يرد حتى على الخطاب الذي أرسلته مصر والسودان المتضرر من الملء الأول للسد دون الرجوع لهما، وكان من المفترض أن يقوم الاتحاد الأفريقي بفرض عقوبات على إثيوبيا، أو الرد على مصر والسودان على الأقل، وبالتالي فإن التنسيق بين مصر والسودان مطلوب ومهم خلال الفترة القادمة للعودة مجددا إلى مجلس الأمن الدولي لتحمل مسؤولياته في ظل تقاعس الاتحاد الأفريقي، وسوء النوايا الإثيوبية خاصة مع بدء إثيوبيا فتح ملفات تفاوضية جديدة لم يكن متفقا عليها من قبل وهي تتعلق بتقاسم مياه النيل الأزرق، وعدم التكلم في مسألة الملء الأول، وتشغيل السد، وذلك بهدف إرباك المفاوض المصري والسوداني مع أنها لم تقدم أي شيء خلال مراحل التفاوض المختلفة بدليل مرور 9 سنوات على بدء التفاوض، وهي تعتزم التحكم في سد النهضة بشكل سيادي منفرد، ومطلق، دون الرجوع إلى الشركاء وهذا يخالف طبيعة نهر النيل كأحد الأنهار الدولية، يفترض أن تحكمه من المنبع إلى المصب قاعدة الملكية المشتركة، وليس السيادة المطلقة كما ترغب إثيوبيا، وتشجعها على ذلك بعض الدول في ظل تخاذل دولي وبيئة مواتية للمفاوض الإثيوبي ما دفعها أن تفعل ما يحلو لها دون الاكتراث بموقف المفاوض المصري والسوداني، ولذلك بدأت مصر في الآونة الأخيرة الاهتمام أكثر بالتحرك في دول حوض نهر النيل والقرن الأفريقي، وإن شئنا القول في أفريقيا بشكل عام من خلال التعاون في القطاعات المدنية بحيث لا يقتصر التعاون على الجوانب العسكرية والأمنية فحسب، ولكن امتد التعاون إلى مجالات التعليم والصحة والطاقة، والصناعة والطرق والزراعة وخلافه، وفي هذا الإطار كانت زيارة رئيس مجلس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي إلى السودان بصحبة وفد من الوزراء الذين يعملون في القطاعات المدنية، وأيضا كانت زيارة رئيس المخابرات المصرية اللواء عباس كامل إلى جنوب السودان على رأس وفد ضم وزيرة الصحة، لدعم العملية الانتقالية، ولدعم السلام والاستقرار في الجنوب السوداني، والتعاون في القطاع الصحي والتعليمي، ولا شك أن كل هذه التحركات تساهم في تعزيز الوجود المصري في القارة الأفريقية وفي التأكيد على عناصر القوة المصرية الناعمة في أفريقيا، والتي من شأنها بناء أرضية قوية لمصر في القارة السمراء يمكن التعويل عليها في تنفيذ العديد من مجالات التعاون الثنائي خاصة في مجال الزراعة والري والطاقة واستخراج المعادن وخلافه، وأعتقد أن هذا التوجه هو توجه محمود يجب دعمه في ظل وجود قيادة سياسية تدرك أهمية القارة الأفريقية وأهمية المصالح المصرية التي ترقى إلى مرتبة المصلحة المصيرية بالنسبة للأمن المائي.
إنشاء خط أحمر مصري سوداني
ومن جهته، قال أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور جهاد عودة: التحركات المصرية في الأونة الأخيرة بالجوار الإثيوبي تقوم مصر من خلالها بعمل ما يطلق عليه «الخط الأحمر»، والخط الأحمر الذي نسعى له هو خط أحمر مصري سوداني، قائم على الاتفاق الملزم، فكرة الاتفاق الملزم بين السودان ومصر، وإذا كانت إثيوبيا لا ترغب في اتفاق ملزم معنا في العلاقة بيننا، فلا بد على مصر الاهتمام أكثر بالسودان وعمل اتفاق ملزم معها، ونحن نحاول في الفترة الأخيرة تطويق الجانب الإثيوبي ومعرفة مواقفه بدقة وأسباب اتخاذه هذه المواقف المتعنتة، والعمل على إفساد هذه المواقف بأشكال مختلفة بحيث يكون لدينا قدرة أكثر على المناورة في قضايا نهر النيل المختلفة، وإجبار الجانب الإثيوبي على الالتزام باتفاقات ملزمة لا تضر بالمصالح المائية المصرية، وهذا يتحقق بالإجراءات والتحركات المصرية في الجوار الإثيوبي، إضافة إلى وضع خطوط حمراء تحفظ الأمن القومي المائي لمصر.
ترتيبات سياسية وتنسيق دبلوماسي
وقال الدكتور مصطفى الفقي:هناك علاقات مصرية قوية مع حكومتي السودان وجنوب السودان، ومن الطبيعي أن يكون هناك دعم ومساعدة لهما في جميع الظروف، وأنا لا أعتقد أن هناك علاقة مباشرة بين زيارة رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي للخرطوم، وزيارة رئيس المخابرات المصرية ووزيرة الصحة إلى جوبا، وبين سد النهضة، وهذه الزيارات ليست أبدا زيارات تمهيدية تنفيذا لأي ترتيبات بين مصر وأطراف أخرى في المنطقة لصالح المواجهة مع إثيوبيا، ولكنها قد تأتي في إطار الترتيبات السياسية، والتنسيق الدبلوماسي بين مصر وإحدى دول حوض النيل، وهي السودان، والتي عاشت معنا عبر التاريخ وعلاقتنا بهم طيبة إلى حد كبير جدا، ليس الشمال فقط، ولكن الجنوب السوداني أيضا، ونحاول دعمه باستمرار، ونسعى للمصالحة بينها وبين الفصائل المسلحة حتى يبقى جنوب السودان مستقرا قويا.
من جانبه، قال المتخصص في الشأن الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الدكتور هاني رسلان:زيارة رئيس المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل لجوبا عاصمة الجنوب السوداني، وزيارة رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي للسودان على رأس وفد رفيع المستوى هو تعبير عن علاقة قديمة منذ ستينات القرن الماضي حينما كانت مصر تخصص منحا لأبناء الجنوب للمساعدة في التنمية، واستمرت هذه العلاقة، والآن هناك نسبة كبيرة من النخب الجنوبية من الذين درسوا وتعلموا في مصر في وقت سابق، وتواصلت هذه العلاقة، وتقدم مصر دعما تنمويا، وصحيا، ودعما في قضايا المياه كإقامة بعض السدود الصغيرة والمساعدة في بعض المشروعات الزراعية، وإنشاء محطات كهربائية لإنارة بعض المناطق، وإقامة مركز صحي مصري في العاصمة جوبا تم دعمه وهو يعمل منذ فترة طويلة فعلاقة مصر بالسودان خاصة الجنوب هي علاقة مستمرة وهي علاقة استراتيجية بين البلدين.
وأضاف رسلان: كانت لمصر علاقات تاريخية بالصومال، ولكنها انقطعت، وهذا ما لم يحدث بالنسبة لجنوب السودان فهو تواجد قائم ومستمر، وهو ليس انعكاسا لأزمة سد النهضة الإثيوبي، أما بالنسبة للسودان نفسة فعلاقة مصر به لها خصوصية عبر التاريخ وبمفردات متعددة، ولكنها بطبيعتها تتعرض لفترات مد وجزر، وكانت قد تعرضت خلال فترة حكم الإخوان المسلمين ولثلاثة عقود إبان فترة حكم الرئيس عمر البشير لتغيرات سلبية باعتبار أن الإخوان كانوا ينظرون للدولة المصرية كعدو، وهذا أثر سلبا على العلاقة، حيث عمل نظام البشير على تشويه صورة مصر في أعين الشعب السوداني، وبشكل منظم، مما انعكس على بعض التصرفات عقب الثورة التي أطاحت بالبشير، وبعد أن هدأت الأوضاع قليلا بدأت مصر إعادة تأسيس العلاقة من جديد ووضح ذلك من خلال الوفد الكبير الذي رافق رئيس الوزراء المصري خلال زيارته للخرطوم، وطبيعة الملفات التي نوقشت والتفاهمات التي تم التوصل إليها، وكان هناك أيضا بند عن سد النهضة الذي يعتبر حديث الساعة في هذه المرحلة، في السابق وحتى شهور قليلة كان السودان متحالفا وبشكل كامل مع إثيوبيا، لأن النظام والنخب السياسية الممسكين بالملف التفاوضى في أزمة سد النهضة كان هناك انسجام كامل بينهم وبين إثيوبيا، على اعتقاد أن السد لن يتسبب في أضرار للسودان، وأن الضرر يقع على مصر وحدها، وهذه المسألة لم تكن تعنيهم، ناهيك عن أنها كانت محبذة في بعض الأحيان، لكن في الأسابيع الأخيرة اكتشف السودانيون خطأ ما كانوا يعتقدون، وأن إثيوبيا كانت تخادعهم لفترة طويلة من الزمن بمعسول الكلام وغير ذلك، وبدأت إثيوبيا ملء الخزان بشكل أحادي ومنفرد وهو ما عرض السودان لمخاطر على السدود السودانية والسكان المقيمين حول النيل الأزرق، ولذلك تغير الموقف السوداني، وأصبح أكثر اقترابا من الموقف المصري لأسباب تخص السودان، وبالتالي، أصبحت مصر ترحب بأي تقارب مع موقفها، ولو كان هناك تنسيق أكبر بين البلدين لتقوية موقفهما المشترك سيكون ذلك أفضل، حيث أصبحت هناك أسس أو أرضية لتنسيق المواقف وهو ما سوف ينعكس على أزمة السد لأنه كان في السابق المعادلة 2+1، أي إن السودان وإثيوبيا كانت ضد مصر، أما الآن فقد أصبحت المعادلة مختلفة 2+1 أي إن السودان ومصر ضد إثيوبيا، لأن الموقف الإثيوبي أصبح يمثل خطرا على البلدين، ولكن كيف سيكون حجم هذا التأثير وشكله وإلى أي مدى؟ هذا ليس واضحا الآن؛ لأن البلدين أعلنا أن التفاوض هو الخيار الوحيد وإثيوبيا تماطل وتسعى الآن كما فرضت الملء الأول كفرض أمر واقع، أن تقوم بالملء الثاني في يوليو (تموز) القادم كأمر واقع؛ حينئذ ستكون المفاوضات عديمة الجدوى، وندور في دائرة مفرغة، أما ما أشيع عن سعي مصر لبناء قاعدة عسكرية في جنوب السودان فهذا ليس واردا، وما أشيع من أخبار عن ذلك مجرد أخبار مفبركة بواسطة بعض القوى السياسية المعارضة لحكم سيلفاكير، لتعكير الأجواء بينه وبين إثيوبيا، والرئيس عبد الفتاح السيسي أعلن مرارا أن الحل العسكري في أزمة السد ليس واردا، وكل ما يشاع في هذه الفرضية ليس له أساس كي يناقش كاحتمال أو كمؤشر لعمل عسكري ضد إثيوبيا.