كشف سامح فوزي عضو مجلس الشورى، الذي آلت اليه السلطة التشريعية المؤقتة منذ إقرار الدستور في ديسمبر (كانون الاول) الماضي بقرار من رئيس الجمهورية لحين اجراء انتخابات برلمانية جديدة، بأنَّه صوَّت بـ"لا" على الدستور إيمانا بأنَّه لم يصدر نتيجة توافق واسع، لكنه أكَّد أنَّ لجنة "الحوار الرئاسي" التي يرأسها نائب رئيس الجمهورية المستقيل المستشار محمود مكي فرصة لتعديل المواد الدستورية المختلف عليها للحفاظ على التماسك الوطني.
وقال فوزي عضو اللجنة الثلاثية التي شكلتها المؤسسة الرئاسية لإقناع قوى معارضة بقبول الحوار مع الرئاسة،وممثل الكنيسة بلجنة الحوار الوطني "إنَّ على الرئيس مرسي تحرير بناء الكنائس من القيود البيروقراطية، وأنْ يُعيِّن أقباطا في مواقع اتخاذ القرار وأنَّ المطلب الرئيس والمحوري للأقباط هو "المواطنة الكاملة".. وجهات النظر هذه وغيرها نقرأها في نص الحوار التالي:
رخصة مقيَّدة
* بصفتكم أحد الأعضاء المعينين بمجلس الشورى، ما هي أهم التشريعات العاجلة التي تستلزمها الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحرجة التي تمر بها البلاد؟
في تقديري أنَّ الدور التشريعي لمجلس الشورى ينبغي أنْ يكون في أضيق الحدود، بمعنى أنْ يكون مجلس تسيير أعمال تشريعي إنْ صحَّ القول، ويعود ذلك إلى أمرين أساسيين: الأول أنَّ الناخبين عندما ذهبوا إلى صناديق الأقتراع لانتخاب مجلس الشورى لم يضعوا في أذهانهم أنهم ينتخبون مجلسا له اختصاصات تشريعية، وهو ما انعكس في انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات إلى نحو 7%، والأمر الثاني أن التركيبة الراهنة لمجلس الشورى تعاني من خلل في التمثيل السياسي على نحو يجعل الأغلبية بما يزيد عن 80% في يد الإسلاميين بشكل عام. وبالتالي، إن كانت التطورات السياسية اقتضت أنْ يلعب مجلس الشورى دورا تشريعيا مؤقتا لرغبة رئيس الجمهورية في أنْ يعطي صلاحياته التشريعية المؤقتة – نتيجة حل مجلس الشعب- لمجلس مكون من مائتين وخمسين عضوا فإنَّ ذلك لا يعني –في رأيي- رخصة مفتوحة للتشريع، ولكن أنْ يكون التدخل التشريعي في أضيق الحدود سواء ما يخدم استحقاقات دستورية، أو الذي يواجه المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الملحة، تاركين التشريعات التي تحتمل التأجيل بضعة شهور لمجلس النواب المنتخب بصرف النظر عن خريطة القوى السياسية فيه، باعتبار أنَّ الناخب يعرف مسبقا أنه ينتخب مجلسا تشريعيا، وله الحرية في اختيار التوجه السياسي الذي يؤيده. وحتى الآن لم يٌقدم لمجلس الشورى سوى مسودة قانون الانتخاب، أما التشريعات الأخرى التي يجري الحديث عنها إعلاميا أو التي وردت في خطاب رئيس الجمهورية في افتتاح الدورة التشريعية الحالية لم تُقدم بشأنها أية مشروعات قوانين حتى يمكن إبداء الرأي بشأنها.
* ماهو موقفكم من قانون الانتخابات الجديد والذي يناقش حاليا داخل مجلس الشورى الذي يسيطر عليه التيار الاسلامي بنسبة 80 في المائة كما أشرتم؟
أرى من الأهمية بمكان أن تعبر مناقشات مجلس الشورى عن توافق بين القوى السياسية حتى يفسح المجال لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة تخضع لرقابة محلية ودولية، تكون في ذاتها خطوة مهمة لبناء المؤسسات السياسية على أسس ديمقراطية، من هنا فإنه ينبغي أن يُواجَه التهميش الذي تعرضت له فئات اجتماعية عديدة وأهمها المرأة والشباب والأقباط، ولا ينطوي على قيود أو ترتيبات تصبّ في النهاية لصالح الأحزاب الكبرى، وبالأخص الكتلة الإسلامية على حساب الأحزاب الأقل حضورا، فضلا عن أنَّه لابد من إدخال تعديلات جوهرية على قانون "مباشرة الحقوق السياسية" بما يقضي تمكين اللجنة العليا للانتخابات بإجراء الانتخابات على يومين، وتكون لها سلطة ايقاف الانتهاكات الانتخابية وليس فقط الاكتفاء بإبلاغ سلطات التحقيق، لأن ما حدث في الانتخابات السابقة هو أنَّ الكثير من الانتهاكات التي قامت اللجنة بجمعها وتوثيقها وإبلاغ جهات التحقيق بها لم يترتب عليها أية مساءلة قانونية.
[caption id="attachment_55241732" align="alignleft" width="297"] سامح فوزي: الرئيس مرسي بحاجة إلى بناء قاعدة شعبية
خارج جماعته[/caption]
بصراحة إذا لم نعالج أخطاء العامين الماضيين، وما سبقها من حقب استبدادية بالتأكيد، فإنَّ مجلس النواب القادم سيعاني من خلل في التمثيل السياسي، وقد نرى غيابا أو شبه غياب لفئات اجتماعية عديدة وقوى سياسية لم تتمكن من وضع ممثليها في المجلس التشريعي بسبب القيود التي ينطوي عليها القانون، مما يمدد حالة الاحتقان السياسي والاستقطاب السائدة في المجتمع منذ نحو عامين.
إرادة سياسية خاصَّة
* كُنتَ أحد الذين قالوا "لا" لمشروع مسودة الدستور قبل إقراره، فما هو موقفك من الدستور بعد تعيينك بمجلس الشورى؟
بالفعل صوَّتُّ بـــ "لا" على الدستور إيمانا بأنَّ الدستور لم يصدر نتيجة توافق واسع، وهناك مواد عليها إعتراض، وكثير منها لم تكن جزءاً من التداول العام مثل المواد المتعلقة بنظام الحكم، والعلاقة بين السلطات، لأنني أرى أنها لا تسمح بقيام نظام سياسي مستقر، أما اليوم فهناك في "الحوار الوطني" فرصة لتعديل المواد المختلف عليها للحفاظ على التماسك الوطني الذي يتعرض لخطر التمزق والإستقطاب، لكن الأمر في النهاية يتطلب وجود إرادة سياسية خاصة لدى القوى السياسية الفعالة وفي مقدمتها الإسلاميين، لأنَّ عدم موافقتهم على تعديل الدستور يعني باختصار إغلاق الباب أمام الحصول على أغلبية الثلثين في البرلمان بمجلسيه-النواب والشورى- اللازمة لتعديل الدستور.
وبرغم أنَّ هناك إلتزاما معلنا في "الحوار الوطني" بأنْ يُقدِّم رئيس الجمهورية طلبا بالمواد المراد تعديلها في الجلسة الأولى لانعقاد مجلس النواب، فإن ذلك يظل مقترحا يحتاج إلى موافقة أغلبية خاصة في البرلمان، ومن غير المتصور أنْ لا يشكل الإسلاميون بأطيافهم المتعددة عنصرا رئيسا في ثلثي أعضاء مجلسي النواب والشورى
* أثار مشروع التظاهر الجديد جدلا واسعا بين القوى السياسية الليبرالية في مصر والجمعيات الحقوقية، فما هو موقفك من المشروع؟ وهل يتعارض مع مبادئ حقوق الانسان والحرية من وجهة نظرك؟
لم تصل مجلس الشورى مسودة قانون لتنظيم التظاهر، وسألت منذ أيام أحد قيادات الإخوان المسلمين فيما إذا كان هناك قانون بهذا المعنى فأجاب بالنفي رغم أن جريدة حزب "الحرية والعدالة" نشرت مسودة قانون لتنظيم التظاهر، وبالتالي لا أستطيع التعليق إلى أنْ أقرأ مسودة للقانون، لكن الموقف الذي يحكم تفكيري في هذه المسألة واضح وهو ينبغي أنْ نكفل للناس حق التظاهر والتعبير السياسي دون قيود، وفي تقديري أنَّ الشعب المصري لن يلتزم بأية قيود قانونية أو أمنية تمنعه من التعبير عن رأيه، والضامن الوحيد لسير الحياة بشكل طبيعي هو ممارسة السياسة على قاعدة الشفافية، واحترام القانون، والتنافس النزيه في صندوق الانتخاب، والإبقاء على حياد أجهزة الدولة التي لا ينبغي أنْ يسيطر عليها تيار أو حزب بعينه، وبذلك ستفرز الانتخابات أغلبية طبيعية من حقها إدارة الشأن العام، ولكن إلى أنْ تتمكن الحكومة من التفاعل مع مطالب الجماهير، وتتوفر لها القدرات المالية والمؤسسية التي تسمح لها بذلك ستظل هناك مظاهرات واعتصامات واحتجاجات فئوية لسنوات.
مشاركة لا مغالبة
* ماهو رأيكم في الدعوات المطالبة بثورة جديدة يوم 25 يناير(كانون الثاني) الجاري بمشاركة واسعة لإسقاط الدستور، لاسيما والبعض يسعى لإسقاط النظام المنتخب؟
لاشك أنَّ "الثورة" تداعب خيال قطاع من المصريين، والسبب يعود إلى إحساسهم بأنَّ ثورتهم لم تكتمل بعد، وفي تقديري أنَّ التفكير في إسقاط نظام منتخب أو العمل خارج المؤسسات السياسية يعرقل قوى المعارضة، ويجعلها غير قادرة على حسم اختياراتها، والموقف الآن واضح إذ لا بديل عن السير في طريق الديمقراطية، بيد أن المطلوب قواعد لعبة سياسية شفافة تنافسية نزيهة ليحصل كل فصيل على حجمه السياسي، وهذه هي الديمقراطية.
أرى أن المسئولية الأكبر تقع على عاتق التيار الإسلامي في وضع قواعد المنافسة الصحيحة، ومغالبة نوازع الاستحواذ، والتمسك بشعاره "المشاركة لا المغالبة"، فليس المطلوب من الإسلاميين التنازل عن مواقعهم لصالح الآخرين، ولكن المطلوب منهم أن لا يعيدوا تشكيل قواعد اللعبة السياسية بما يخدم بقاءهم وهيمنتهم، وهنا ينبغي التفرقة بين أمرين: مؤسسات دولة تكون محايدة، وسلطة سياسية تعبر عن الاختيار الشعبي، وأي رغبة في تلوين مؤسسات الدولة سياسيا سوف تعيد انتاج النظام السابق، وهو أمر لن يقبله المصريون، وسوف يُعمِّق الشروخ السياسية ويُمدِّد الاحتقان والاستقطاب وربما أكثر من ذلك.
معارضة الرئيس واجبة
*وما هو تقييمكم الشخصي لمسيرة الدكتور مرسي حتى الآن؟
موضوعيا لا تستطيع أن تقيّم مسيرة رئيس جمهورية تسلَّم السلطة منذ بضعة شهور، ولاسيما أنه يواجه أزمات متتالية، وقد سمعت منه في "الحوار الوطني" أنه يريد التوافق، وتوحيد صفوف المصريين جميعا، وبناء المؤسسات الديمقراطية، ولكني أعتقد أنه بإمكانه أن يتخذ من المواقف والسياسات، ويرسل رسائل واضحة بأنه رئيس لكلِّ المصريين أكثر مما يفعل، ويبني توافقا أوسع بين القوى السياسية باعتباره رمزا للمصريين دون اللجوء إلى قرارات استثنائية لا نعرف أسبابها إلى الآن سوى إشارات مبهمة عن وجود مؤمرات، وبعد أن ظهر يخطب في المصريين في "ميدان التحرير" عقب إعلان فوزه، بعد بضعة شهور خطب فقط وسط مؤيديه وأنصاره، بينما كان معارضوه يحتشدون ضده في "ميدان التحرير"، وهذا المشهد يحتاج إلى تصحيح، فالرئيس بحاجة إلى بناء قاعدة شعبية مؤيدة باقتناع وثقة خارج جماعته حتى يستطيع أن يجد تأييدا شعبيا لسياساته خارج المربع الإسلامي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا مجال لإسقاط رئيس منتخب، لكن معارضته واجبة ولا ينبغي أن يُلاحق المعارضون بتهم الخيانة أو ما شابه من قبل مؤيدي الرئيس وأنصاره.
ضعف الثقة!
[caption id="attachment_55241740" align="alignright" width="300"] جبهة الانقاذ الوطني[/caption]
بصفتك عضو اللجنة الثلاثية المكلفة بمتابعة الحوار الرئاسي مع القوى السياسية المعارضة،أبرزها جبهة الإنقاذ الوطني التي يتزعمها محمد البرادعي وعمرو موسى وحمدين صباحي..هل نجحت اللجنة – التي تضم ايضا كل من محمد أنور السادات رئيس حزب الإصلاح والتنمية وابراهيم المعلم نائب رئيس اتحاد الناشرين الدولي- في تقريب وجهات النظر؟ وهل تتوقع موافقة الجبهة الدخول تحت مظلة الحوار أم أنَّ أزمة الثقة بين القوى السياسية والرئاسة سوف تستمر؟
العنوان الرئيس الذي يمكن أن يُلخِّص المشهد برمته هو "ضعف الثقة"، نعم هناك شكوك من جانب "جبهة الإنقاذ" في جدوى الحوار، وفاعليته، ومدى الالتزام بنتائجه. وهناك شعور من جانب المشاركين في الحوار والراعين له بأنَّ دعوتهم المستمرة للقوى الرافضة ترتطم برفض غير مبرر، من هنا يحتاج الوضع إلى تفعيل الحوار من أجل استعادة الثقة، وإصلاح المرض قبل العرض.
لا يجب أن تستمر أزمة الثقة بين الرئاسة والقوى السياسية المعارضة، ولكن الأمر يحتاج إلى مبادرات وجهد من الجانبين، وتحقيق ذلك- في رأيي- يحتاج إلى توافق القوى السياسية جميعا على ثلاثة ملفات أساسية لعبور هذه المرحلة القلقة:
أولا: التعامل الجدي مع المواد المختلف عليها في الدستور بهدف تعديلها، ثانيا: إجراء انتخابات حرة ونزيهة، ثالثا: الاتفاق على أجندة تشريعية واضحة خلال الشهور المقبلة حتى يتسلم مجلس النواب مهامه التشريعية بما يزيل هواجس قوى المعارضة من إحتمال استغلال الأشهر التي خُول فيها مجلس الشورى صلاحيات تشريعية لانتاج قوانين لم تحظ بحوار مجتمعي وتخدم تمكين التيار الإسلامي من مفاصل الدولة.
* كيف تنظر إلى تهم العمالة والخيانة الموجّهة من قبل بعض الأطراف الإسلامية والنشطاء إلى جبهة الانقاذ الوطني على خلفية اتصالاتها بأطراف خارجية ومقابلتها السيناتور الأمريكي جون ماكين؟
مسألة إلتقاء جبهة الانقاذ بالسيناتور الأمريكي جون ماكين أو غيره أمر لا ينبغي أن يتحول في ذاته إلى استقطاب وتراشق بين الإسلاميين ومعارضيهم لأنه في عصر الفضاءات المفتوحة لم تعد هناك أسرار، والإسلاميون أنفسهم يلتقون بأطراف غربية، فهل نعتبر توافد مسؤولين أمريكيين أو غربيين على مقرات أحزاب إسلامية أمراً طبيعيا وننظر إلى إلتقاء المعارضة مع مسؤولين غربيين بوصفه خيانة وعمالة؟ أشتم من هذا الحديث عودة لطريقة تعامل نظام مبارك مع المعارضة.
[caption id="attachment_55241745" align="alignright" width="255"] جون ماكين[/caption]
المؤسف بالنسبة لي أنْ نصل إلى حالة يلتقي فيها الفرقاء المصريون مع مسؤولين "أجانب" ولا يجلسون مع بعضهم بعضا على الطاولة نفسها للتفكير في مستقبل بلدهم، هل نحتاج إلى حكم أجنبي لمباراة الكرة الممتدة؟ هذا ما يقلق ويبعث على الحزن، مرة أخرى هذه مسئولية كل الأطراف للخروج من هذا المأزق بناءاً على أجندة عمل واضحة، وإرادة سياسية، ونيات صافية.
* كيف تنظر إلى المعركة الحامية بين الإعلام الليبرالي والاسلامي؟ ومتى يخرج ميثاق شرف إعلامي في مصر يحترم الرأي الآخر والحريات والمشاهدين والمستمعين والقراء؟ وما هو مقترحك الخاص لإصلاح الإعلام الرسمي والخاص المستقل؟
هناك إعلام يواجه "الإسلاميين" وهناك إعلام يساند "الإسلاميين"، هذه هي المسألة باختصار، وكل القضايا والإشكالات يجري النظر إليها من هذا المنظور، وكلا النوعين من الإعلام يقع في أخطاء مهنية بدرجات متفاوتة، فالإعلام ما هو إلا أحد المرايا التي تعكس الصراع على إعادة تشكيل مصر بين مشروعين سياسيين متناقضين، وبالتالي فإنَّ تخصيص المشكلة بالإعلام الذي يحتاج إلى ضبط ورقابة هو أشبه بمن يعالج الأعراض دون الغوص في أسباب المرض، والاستقطاب الإعلامي هو انعكاس للاستقطاب السياسي وليس العكس، ولا يخفى أنَّه وفي ظل هذه البيئة السياسية التي يسودها الاستقطاب يصعب وضع قواعد تحكم الإعلام، أخلاقيا ومهنيا، لأن السؤال البديهي سيظل قائماً: من يضع هذه القواعد؟ ما مصلحته؟ الأمر الطبيعي أن يجري تنظيم الإعلام في ظل مناخ عقلاني يسمح بذلك انطلاقا من رؤية أوسع للمسؤولية الإعلامية وليس الخصومة السياسية.
حكومة مستقرة أولاً
* هل تقدمت بمبادرة لمجلس الشورى أو الرئاسة لإصلاح ما أفسده النظام السابق خلال الـ 30 سنة الماضية، بخاصة وأنك مُنحتَ درجة الماجستير في موضوع الحكم الرشيد، والدكتوراه في موضوع بناء رأس المال الإجتماعي؟
المبادرات في ذلك كثيرة، لكنَّ المهم حضور الإرادة السياسية، والتصور التنموي، والرغبة في إعادة بناء المجتمع، فالإشكالية الحقيقية أن هناك غموضا في ممارسة الحكم، بمعنى عدم وجود خطة موضوعة يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها، فلا أحد يعرف ماذا تفعل حكومة هشام قنديل؟ والإسلاميون أنفسهم ينتقدون أداءها، ويتبرأون منها؟ إذن مع من نتحدث؟ ولمن نقدم الاقتراحات؟ كان من المفترض أن يتفاعل مساعدو الرئيس ومستشاروه مع مختلف جوانب العمل في المجتمع، ولكن هذا لم يحدث، وبعضهم ترك العمل مما أثَّر سلبا على قوة الدفع التي رافقت تشكيل الفريق الرئاسي في البداية. ويحضرني هنا أن مسؤولا بالرئاسة طلب مني اقتراحات لتشجيع المشاركة المجتمعية في برامج التنمية، وقدمت له اقتراحات بناءً على دراسة وخبرة عملية، واستحسنها، وذكر لي أنه سيبدأ فورا بتنفيذ أحدها، كان ذلك منذ أكثر من أربعة شهور، ولم يحدث شيء .. في رأيي أنَّ الأمر يتطلب حكومة مستقرة تستند إلى أغلبية برلمانية، وإرادة وبرنامج حتى يمكن المشاركة بالرأي، وطرح مبادرات، والتفاعل مع التصور العام المطروح.
العلاقة بين الرئاسة والكنيسة
* قلتَ في تصريح سابق أنَّ الرئيس مبارك كان يكره قداسة الأنبا شنودة الراحل، فهل لمستم شعوراً مختلفاً من الرئيس مرسي (الإخواني) نحو قداسة الأنبا تواضروس؟ وما هو الفارق بين البابا السابق والحالي من حيث التعاطي مع السياسة وشعب الكنيسة؟
ترك نظام مبارك الأقباط يعانون من مشكلات حادة، ولم يتدخل لحل أي منها، وما كان أحد يمنعه إذا سعى لحل مشكلة بناء الكنائس وترميمها، أو رفع مستوى تمثيل الأقباط في المجالس المنتخبة، أو نشر ثقافة التسامح والمواطنة في التعليم والإعلام، لكنه كان ممالئا للتطرف الديني لضمان تأييد الغرب لبقائه، ونتذكر أن السياسي القبطي المرموق "منير فخري عبد النور" واجه في الانتخابات البرلمانية عام 1995م دعاية طائفية شرسة في دائرة الوايلي وسط القاهرة على يد مرشح الحزب الوطني الحاكم وقتئذ.
وللذاكرة: ألم تحدث جرائم ديروط وأبو قرقاص والكشح والعمرنية وأخيرا كنيسة القديسين بالإسكندرية في عهد مبارك؟ ولكن هذا لا يعني أنَّ العهد الحالي أفضل بالنسبة للأقباط، لم تظهر ملامحه بعد، وما ظهر من مشكلات وأزمات مقلقة. لا تزال مشاكل الأقباط التقليدية الموروثة قائمة، يضاف إليها الثقافة الدينية المحافظة التي بدأت تجتاح المجتمع وتؤثر على الأقباط، ووجود قطاع من السلفيين يريدون فرض هيمنتهم على المجتمع، فالرئيس محمد مرسي يظهر ودا ومحبة للأقباط في الحوارات واللقاءات تستشعر الصدق فيها، لكن الأمر يحتاج إلى إجراءات على أرض الواقع، إذا أراد حل مشاكل الأقباط فعليه أنْ يحرر بناء الكنائس من القيود البيروقراطية والشعبية المفروضة عليها، ويعين أقباطا في مواقع اتخاذ القرار، ويعزز ثقافة التسامح في المجتمع.
[caption id="attachment_55241748" align="alignleft" width="279"] الانبا الراحل شنودة الثالث[/caption]
والملفت بالنسبة لي أنَّ الآليات المستخدمة في السابق في التعامل مع قضايا الأقباط لازالت كما هي لم تتغير وهي الاتصالات الشخصية، فلم يُسمح بعودة "لجنة العدالة الوطنية" التي قامت على دراسة أسباب الاحتقان الطائفي والتصدي لها -لأسباب غير مفهومة- التي تشكلت في ظل حكومة عصام شرف وتوقفت في ظل حكومة الجنزوري، ولم تُنشأ أداة مؤسسية بديلة عنها، وكل ما هو متوفر قنوات الاتصال الشخصية، وقد اختبرت أن بعض المشكلات- التي أعرفها- وجدت اهتماما وجدية عندما وصلت إلى مؤسسة الرئاسة، لكن يظل الأمر يحتاج إلى قوانين وقرارات وأدوات مؤسسية حتى تتعمق المواطنة بعيدا عن الاتصالات الشخصية التي لا تصلح أساسا مستمرا لإدارة الشأن العام.
في كل الأحيان فإن الكنيسة لها رسالة إنسانية وضميرية في المجتمع، لا تستطيع الصمت عنها. كل عصر يختلف عن الآخر. لم تكن هناك مشكلات طائفية صارخة في عهد البابا كيرلس السادس، فقد كانت رئاسته للكنيسة في أوج الدولة الناصرية التي كانت تنهض على مشروع وطني بصرف النظر عن رأي البعض فيه. إلتزمت الكنيسة وقتئذ برسالتها الروحية، وكانت الدولة بشكل عام تتعامل مع المشكلات ذات الطبيعة الدينية. أما في عهد الرئيس السادات حدث "تديين للسياسة"، وسط مشروع سياسي واقتصادي مختلف تماما عما ساد في الستينيات، لم يكن ممكنا أن تصمت الكنيسة عن رسالتها في مواجهة التمييز والاستهداف الذي واجهه الأقباط، وتغيير المزاج العام في حقبة السبعينيات وما تلاها، فقد فرض على الكنيسة أن تحتضن الأقباط في وقت حدثت فيه شروخ طائفية عميقة في الجسد المصري، وشعر الأقباط أن ثقافة محافظة متشددة تحاصرهم، وظهرت اجتهادات دينية – لم تعرفها الخبرة التاريخية المصرية- تشكك في مواطنة الأقباط، وتطعن في عقيدتهم الدينية.
هذه هي حقبة البابا شنودة، التي استطاع أن يكون خلالها من بناة الجسور، ويحمي النسيج الاجتماعي من التفسخ من خلال رعايته الكنسية المتشعبة للأقباط. لا نلوم الكنيسة بل اللوم في المقام الأول يوجه إلى الدولة التي لم تنتصر لقيمة المواطنة، والمساواة بين المواطنين، وعمقت بمواقفها وسياساتها الشروخ في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين بل بذر نظام مبارك بذور الشك فيما بينهم. البابا تاوضروس الثاني الذي تسلم رعايته للكنيسة في زمن التحولات الجذرية هادئ، عميق الفكر، مؤمن بالعمل المؤسسي، يتواصل بمودة مع الجميع، يجمع بين شخصيتي البابا كيرلس والبابا شنودة، ويعبر بشجاعة عن رأيه إزاء الأوضاع السياسية أو القانونية أو الاجتماعية التي قد تنال من الأقباط، ضميره لن يقبل الصمت وقت الحديث، وهو في ذلك يتعرض إلى ضغوط تيارات شبابية، ونخب قبطية صاعدة تؤمن بالمواطنة الكاملة، وتطالب بالمساواة والعدالة الاجتماعية والحرية في مصر بعد ثورة 25 يناير.
حق المواطنة الكاملة
* على ضوء ما قلت ترى ما هي أهم مطالب الأقباط من النظام الجديد؟ وهل تتخوفون من التيار السلفي بعد تصريحات نائب رئيس الدعوة السلفية الدكتور ياسر برهامي الأخيرة المسيئة للأقباط واعتبارهم أقلية عليهم دفع الجزية؟
الأقباط ليسوا جماعة عرقية أو كتلة بشرية صماء، وليسوا أقلية بالمعنى المتداول في العلوم الاجتماعية، هم جزء أصيل من هذا الشعب، أقل عددا، لكنه مندمج اقتصاديا واجتماعيا، يحتاج إلى إزالة العقبات من طريقه حتى يندمج سياسيا، ويعترف المجتمع بحقوقه كاملة.
[blockquote]المطلب الرئيس والمحوري للأقباط هو "المواطنة الكاملة"، يعني ذلك حقهم في تولي الوظائف العامة من أعلاها إلى أدناها دون تمييز، والتمثيل المناسب في الهيئات المنتخبة مثل البرلمان، وبناء وترميم الكنائس دون عوائق قانونية وبيروقراطية.[/blockquote]
وإذا كنا نتحدث عن هذه المشكلات قبل ثورة 25 يناير، فإن هناك مشكلات أخرى ظهرت في الفترة الأخيرة نتيجة المناخ الاجتماعي المحافظ الذي صاحب صعود التيارات الإسلامية، وسعي البعض منهم إلى التضييق على حريات المجتمع، ومن بينهم الأقباط إلى حد رفض بناء كنيسة، أو منع حفل يشارك فيه مسيحيون ومسلمون بالأناشيد والترانيم مثلما حدث في إلمنيا، الخ.
[caption id="attachment_55241742" align="alignleft" width="300"] المرشد العام وبابا الاقباط[/caption]
هناك إشكاليات في علاقة التيار الإسلامي بالأقباط، بعضها نتيجة مواقف وفتاوى وآراء هذا التيار، وبعضها الآخر نتيجة عدم وجود حوار بينه وبين الأقباط في ظل نظام مبارك الذي ربط كل الأطراف بالنظام الأمني الذي كان سائدا، وقطع أواصر التواصل بينها، نظريا يختلف الإخوان المسلمون عن السلفيين. هم وسطيون يعلنون أن المسلمين والأقباط شركاء ومواطنون بينما التيار السلفي لديه آراء فقهية مغايرة تنال من مواطنة غير المسلمين، وبرغم ذلك لم يلحظ الأقباط والمجتمع بأسره اختلافات فيما بينهم في الحركة على مستوى المجال السياسي، أعتقد أنَّ الإخوان المسلمين بحاجة إلى مراجعة أنفسهم في ذلك، عليهم أن يميزوا أنفسهم فكريا وسياسيا عن سواهم من التيارات الإسلامية حتى يستطيعوا أن يتواصلوا مع بقية أطراف المجتمع.
أما التيار السلفي فلا يوجد ما ينبئ بإمكان وجود تواصل حقيقي بينه وبين الأقباط، فهم يكفرون الأقباط علنا، ويرفضون تهنئتهم بأعيادهم، وقنواتهم التليفزيونية تنتقدهم بشدة، ويضعون العوائق في وجه التفاعل الاجتماعي الإيجابي بين المصريين جميعا مسلمين ومسيحيين، هل يعقل أن يخرج علينا اليوم من يعلِّم المصريين المسلمين الإسلام، ويدعوهم إلى عدم تهنئة المسيحيين بالعيد؟ هذه الآراء والفتاوى تجافي الفقه الرحب الذي نجده في كتابات الإمام محمد عبده، والدكتور عبد المتعال الصعيدي، والشيخ شلتوت، والشيخ محمد الغزالي، وغيرهم، وسوف يظل الأزهر هو حامي الوسطية، والخبرة الوطنية في التعايش بين المختلفين دينيا.
عودة العقول المهاجرة
* يُدخل المصريون في الخارج سنويا لمصر ضعف ايرادات قناة السويس من العملة الصعبة، وما يعادل مدخول المنتج السياحي قبل الثورة .. وفي الخارج نخب مصرية وعلماء في المجالات كافة، فهل يسعى المجلس حاليا للاستفادة من تلكم النخب والطاقات المصرية وكيف؟
روى لي دبلوماسي مصري رفيع في إحدى عواصم أوروبا أن المصريين بالخارج كانوا مفعمين بالأمل عقب ثورة 25 يناير للمساهمة في إعادة بناء مصر الحديثة، لكن ما لبث أن فتر الأهتمام، وزحف القلق إلى نفوسهم عندما اضطربت الأوضاع السياسية، وفقد المجتمع السياسي تماسكه خلال العامين الماضيين، ولم يكن هناك تصور واضح للتفاعل بين مصر وأبنائها المهاجرين يختلف عما كان سائدا في عهد مبارك. والمصريون الذين أتيحت لهم فرصة زيارة مصر في الفترة الماضية لم يعودوا إلى مجتمعاتهم الجديدة بمشاعر إيجابية أو متفائلة.
[blockquote]لا ينبغي أن تظل النظرة مقصورة على "فلوس" المصريين في الخارج دون مساهماتهم الجادة في بناء مجتمعهم، وهو ما يسمى في أدبيات التنمية الحديثة "كسب العقول" في مواجهة "هجرة العقول". [/blockquote]
البداية تكون باتاحة الفرصة للمشاركة السياسية الأوسع للمصريين في الخارج، هل يعقل أن لا يكون في قانون الانتخاب ممثلون عن المصريين في الخارج – ويقدر عددهم بعشرة ملايين- في البرلمان أسوة بما يحدث في دول أخرى؟ هل يعقل أن يكون هناك علماء مصريون في مختلف التخصصات في كل أنحاء العالم ولا يجدون برامج مخططة وممنهجة وواضحة لإفادة وطنهم الأصلي؟
هناك مقترحات كثيرة يمكن عرضها، على سبيل المثال مشروع "صندوق الاستثمار للمغتربين المصريين"، وبرامج "العودة المؤقتة"، بما يعني عودة المصريين المغتربين خاصة أصحاب الخبرات العلمية والفنية الرفيعة للمساهمة في تنمية المجتمع المصري.