احترار العالم يهدد بكوارث بيئية واقتصادية وسياسية

تغير المناخ يحاصر الطبيعة وسيؤدي إلى مفاجآت غير سارة

احترار العالم يهدد بكوارث بيئية واقتصادية وسياسية



تكساس: جوشوا بوسبي*




* يتجاوز اليوم تركيز ثاني أكسيد الكربون – وهو غاز الدفيئة الرئيسي في الغلاف الجوي – 410 أجزاء في المليون، وهو أعلى مستوى له منذ 800 ألف سنة.
* وصل متوسط درجات الحرارة السطحية العالمية 2.1 درجة مئوية، أي أعلى مما كانت عليه قبل الثورة الصناعية.
* بعد أن دمر الجفاف نحو خمس حصاد القمح في روسيا عام 2010، حظرت موسكو صادرات الحبوب. وأدى ذاك إلى ارتفاع أسعار الحبوب العالمية.
* بحلول منتصف القرن، قد تكون المحيطات قد ارتفعت بما يكفي لتدمر المياه المالحة الأراضي الزراعية وتلوث مياه الشرب في الكثير من الدول الجزرية المنخفضة.
* الكثير من الأراضي المحيطة بالمخيمات قد جردت من الغابات، مما يجعل الخيام والأكواخ عرضة للتحطم عند أول فيضان.
* يزيد انسحاب إدارة ترمب في العمل المناخي الضغط على الصين لمعالجة انبعاثاتها في الداخل والنظر في التأثيرات البيئية لأفعالها في الخارج.





يبدو أن العالم في حالة أزمة دائمة. فالنظام الليبرالي الدولي محاصر من الداخل ومن الخارج. الديمقراطية في تراجعٍ مستمر. وفشل الانتعاش الاقتصادي غير النشط كذلك في تحقيق زيادة كبيرة في المدخول لمعظم الناس في الغرب. وتهدد الصين الصاعدة هيمنة الولايات المتحدة وتزيد التوترات الدولية المتصاعدة من خطر اندلاع حرب كارثية.
ومع ذلك، هناك تهديد واحد على الأرجح بأهمية هذه العوامل ويحدد طبيعة هذا القرن؛ وهو تغير المناخ. فالاختلال في مناخ الأرض سيتطلب في نهاية المطاف اهتمامًا وموارد أكبر ويكون له تأثيرٌ أكبر على الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية بالمقارنة مع القوى الأخرى المرئية في العالم اليوم. وسيتوقف تغير المناخ عن كونه تهديدًا بعيدًا ويصبح تهديدًا يتطلب اتخاذ إجراءٍ فوري.
يتجاوز اليوم تركيز ثاني أكسيد الكربون – وهو غاز الدفيئة الرئيسي في الغلاف الجوي – 410 أجزاء في المليون، وهو أعلى مستوى له منذ 800 ألف سنة. ووصل متوسط درجات الحرارة السطحية العالمية 2.1 درجة مئوية، أي أعلى مما كانت عليه قبل الثورة الصناعية. والجدير بالذكر أن التقدير العلمي المتفق عليه هو أن أقصى زيادة في درجة الحرارة والتي ستتجنب تغير المناخ الخطير هي درجتان مئويتان. وبذلك، لا يزال لدى البشرية ما يقرب من 20 سنة قبل أن يصبح الوصول إلى هذا الحد أمرًا مستحيلاً في الأساس، ولكن معظم التوقعات المنطقية تظهر أن العالم سيتجاوز هذه النسبة.
ولا يزال الوصول إلى درجتين مئويتين من الاحترار في المستوى التعسفي فلا يوجد ضمان للآثار الدقيقة لأي تغير في درجة الحرارة. ولكن هناك فرقا كبيرا بين درجتين من الاحترار ودرجتين ونصف أو ثلاث أو أربع درجات.

[caption id="attachment_55267442" align="aligncenter" width="814"](من اليمين لليسار) الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي والرئيس التركي رجب طيب إردوغان ورئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بداية أول جلسة عمل لاجتماع مجموعة العشرين في هامبورغ شمال ألمانيا في 7 يوليو (غيتي) (من اليمين لليسار) الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي والرئيس التركي رجب طيب إردوغان ورئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بداية أول جلسة عمل لاجتماع مجموعة العشرين في هامبورغ شمال ألمانيا في 7 يوليو (غيتي)[/caption]

وسيؤدي الفشل في كبح جماح الانبعاثات العالمية إلى مفاجآت غير سارة. فمع ارتفاع درجات الحرارة سيتغير توزيع الظواهر المناخية. أي أن الفيضانات التي كانت تحدث مرة واحدة كل 100 عام ستحدث كل 50 أو كل 20 عامًا. وستصبح المخاطر أكثر تطرفًا، مما يجعل الأحداث مثل هطول 50 بوصة من الأمطار في 24 ساعة في هاواي في وقتٍ سابق من هذا العام أكثر شيوعًا.
وما يجعل من تغير المناخ أكثر إثارة للرعب هو تأثيره على الجغرافيا السياسية. إذ ستؤدي أنماط الطقس الجديدة إلى حدوث اضطرابات اجتماعية واقتصادية. وسيؤدي ارتفاع مستوى البحار وموت الأراضي الزراعية والعواصف والفيضانات الأكثر قوة على الإطلاق إلى جعل بعض البلدان غير صالحة للسكن وستختبر هذه التغييرات النظام الدولي بطرق جديدة وغير متوقعة.
وتتطلب التهديدات العالمية التاريخية مستويات تعاون عالمية تاريخية أيضًا. وإذا واجهت الإنسانية هذه المشكلة بنجاح، فسيكون ذلك لأن القادة قد غرسوا النظام العالمي بإحساس بالهدف المشترك والتغييرات العميقة المعترف بها في توزيع السلطة. وسيتعين على الصين والولايات المتحدة العمل بشكلٍ وثيق، وسيكون على جميع الأطراف الأخرى، مثل الحكومات الأقلية والشركات الخاصة والمنظمات غير الحكومية القيام بدورها.

مسألة درجة مئوية




لقد بدأت تأثيرات تغير المناخ في الظهور بوضوح. فمن أصل 17 سنة من أحر الأعوام المسجلة في التاريخ اختبرت البشرية 16 عامًا وذلك منذ سنة 2001 إلى اليوم. وفي فصل الشتاء الماضي، قفزت درجات الحرارة في أجزاء من القطب الشمالي إلى 25 درجة مئوية فوق المعدل الطبيعي. ولدى تغير المناخ معانٍ أكثر بكثير من حالة احترار الكوكب. ويدخل العالم في فترة سمتها عالمة المناخ كاثرين هايهو «بالتطرف العالمي». وتتزايد أنماط الطقس الغريبة في كل مكان. وربط العلماء بعض هذه الأنماط بتغير المناخ. ولم يتضح بعد للبعض الآخر ما إذا كان هناك رابط بين تغير المناخ وهذه الأنماط.
تتغير الفصول وتضرب نوبات الجفاف عندما يتوقع خبراء الأرصاد الجوية هطول الأمطار. ويزيد نقص هطول المطر من خطر حرائق الغابات مثل الحريق الذي وقع في ولاية كاليفورنيا في العام الماضي. وعندما تهطل الأمطار، غالبًا ما تهطل في وقتٍ واحد، كما حدث في هيوستن أثناء إعصار هارفي. ومع ارتفاع مستويات البحار وزيادة قوة العواصف، فإن ما كان يحدث في السابق من أحداث عالية المد والجزر سيغرق البنية التحتية الساحلية، كما حدث بالفعل في ميامي في السنوات الأخيرة الماضية، مما يستدعي تركيب أنظمة لضخ مياه العواصف بتكلفة تصل إلى مئات الملايين من الدولارات.

[caption id="attachment_55267433" align="alignleft" width="393"]رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين يمشي في حقل في «فيسلكي» في 3 يوليو 2009 خلال زيارة عمل روتينية لحقول القمح في مزرعة «أغروكوبلكس» (أ.ف.ب) رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين يمشي في حقل في «فيسلكي» في 3 يوليو 2009 خلال زيارة عمل روتينية لحقول القمح في مزرعة «أغروكوبلكس» (أ.ف.ب)[/caption]

وبحلول منتصف القرن، قد تكون المحيطات قد ارتفعت بما يكفي لتدمر المياه المالحة الأراضي الزراعية وتلوث مياه الشرب في الكثير من الدول الجزرية المنخفضة، مما يجعلها غير صالحة للسكن قبل وقت طويل من غمرها بالفعل. والدليل على آثار تغير المناخ على الأعاصير المدارية والأعاصير بشكلٍ عام يصبح أكثر غموضًا مع الوقت. ولكنه يشير إلى أنه على الرغم من احتمال وجود عدد أقل من هذه العواصف، فإن عواقبها تكون وخيمة عند حصولها.
وستغير هذه التطورات السياسة العالمية بشكل جذري. فلدى الكثير من الدول الكبرى، بما فيها الصين والولايات المتحدة، عدد كبير من السكان والبنية التحتية القيمة التي هي عرضة لتغير المناخ. وستجد حكومات هذه البلاد نفسها مجبرة على تحويل الموارد العسكرية لتنفيذ عمليات الإنقاذ وإعادة بناء المدن والبلدات المدمرة. وسيتطلب ذلك أعدادًا كبيرة من الجنود والأجهزة العسكرية بعيدًا عن التحضير لصراعات مع خصوم أجانب.
وفي عام 2017، عندما ضربت ثلاث عواصف هائجة الولايات المتحدة بشكلٍ متتابع وسريع، كان على الجيش أن يدعم سلطات الكوارث المدنية لمنع وقوع خسائر فادحة في الأرواح. وتمت تعبئة عشرات الآلاف من أعضاء الحرس الوطني لإنقاذ الناس وتوفير إمدادات الإغاثة واستعادة الخدمات الأساسية وسيادة القانون. وتسببت العاصفة الثالثة، أي إعصار ماريا، في مقتل نحو 1.000 شخص وإبقاء جزيرة بورتوريكو بأكملها من دون كهرباء. وقد استغرقت الحكومة شهورًا لإعادة الكهرباء إلى 3.5 مليون أميركي يعيشون هناك. ولا يزال البعض يعيشون من دون كهرباء حتى اليوم. وغادر في أعقاب العاصفة أكثر من 100 ألف بورتوريكي إلى الولايات المتحدة القارية. وبلغت التكلفة الإجمالية للولايات المتحدة لإصلاح ما خلفته العواصف وغيرها من حالات الطوارئ المرتبطة بالطقس العام الماضي 300 مليار دولار.
أما الصين، فلديها مجموعة من المشاكل الخاصة بها. ويوجد على سواحلها الجنوبية الكثير من المدن الضخمة، مثل قوانغتشو وشنغهاي، التي هي عرضة للفيضانات. وفي الشمال، أي في المناطق الصناعية في البلاد، تعاني مناطق كاملة من نفاد المياه، مما يؤثر على أكثر من 500 مليون شخص. وعلى مدى السنوات الـ25 الماضية، اختفى نحو 28 ألفاً من الأنهار الصينية. والأكيد أن ثمن حل هذه المشاكل لن يكون رخيصًا. فمشروع البنية التحتية الوحيد لنقل المياه من الجنوب إلى الشمال قد كلف بالفعل الحكومة الصينية ما لا يقل عن 48 مليار دولار. ولم يكتمل المشروع بعد، ولكن الصين تزعم أنها حسنت أمن المياه في بكين واستفاد منها 50 مليون شخص.

[caption id="attachment_55267434" align="alignright" width="594"]يمر عدد من راكبي الدراجات النارية عبر مياه الفيضان على طول المعسكر. شارع «بانجايتان» شرق جاكرتا في 12 ديسمبر 2017 (غيتي) يمر عدد من راكبي الدراجات النارية عبر مياه الفيضان على طول المعسكر... شارع «بانجايتان» شرق جاكرتا في 12 ديسمبر 2017 (غيتي)[/caption]

وشرعت الصين في تنفيذ مبادرة «مدن إسفنجية» لتعزيز الصرف الطبيعي وذلك للتعامل مع الفيضانات في أماكن مثل شنغهاي. ومنذ عام 2015، استثمرت الصين 12 مليار دولار في هذا الجهد، وستصل الأسعار في النهاية إلى مئات المليارات من الدولارات.
إن الصين والولايات المتحدة غنيتان بما يكفي لتكونا على الأرجح قادرتين على تحمل هذه التكاليف. ولكن آثار تغير المناخ في الدول الفقيرة ستخلق مشاكل عالمية. في كل عام تسبب الرياح الموسمية فيضانات في نهر السند في باكستان. لكن في عام 2010، اتخذت الفيضانات أبعادًا مأساوية، مما أدى إلى تشريد ما يصل إلى 20 مليون شخص وقتل ما يقرب من ألفي شخص. قدمت الولايات المتحدة 390 مليون دولار من التمويل الفوري للإغاثة وقدم الجيش الأميركي نحو 20 مليون رطل من الإمدادات. وفي عام 2013، تم نشر أكثر من 13 ألف جندي أميركي للإغاثة من الكارثة بعد أن حطم إعصار هايان الفلبين.
وتسبب العواصف الفردية أضرارًا فادحة، ولكن عادة ما تعود المجتمعات إلى سابق عهدها. إلا أن تغير المناخ سيتسبب في المزيد من المشاكل الدائمة. فارتفاع مستويات البحار وتفاقم العواصف واقتحام المياه المالحة كلها عوامل تشكل تهديدات وجودية لبعض البلدان الجزرية. وفي عام 2017. بعد أن ضرب إعصار إيرما بربودا، كان يتعين إجلاء جميع سكان الجزيرة الكاريبية – أي نحو 1.800 شخص. وقد اشترت كيريباس - وهي مجموعة من جزر المحيط الهادي التي يقع معظمها على ارتفاع بضعة أمتار فقط فوق مستوى سطح البحر - الأراضي في فيجي المجاورة كحلٍّ أخير في مواجهة ارتفاع منسوب مياه البحار.
وفي حين تغرق بعض البلدان بالمياه يعاني البعض الآخر من نقصها. وفي السنوات الأخيرة الماضية، عرّض الجفاف في كل من القرن الأفريقي ودول القارة الجنوبية الملايين لخطر العطش أو المجاعة. وفي عام 2011، شهدت الصومال، التي تعصف بها عقود من الحرب، الجفاف والمجاعة اللاحقة التي أدت إلى مقتل ما يصل إلى 260 ألف شخص. وفي وقت سابق من هذا العام، تمكنت مدينة كيب تاون الواقعة في جنوب أفريقيا والتي تضم ما يقرب من أربعة ملايين شخص، من تجنب نفاد المياه من خلال تنفيذ إجراءات بطولية للحفاظ على المياه. وسيؤدي تغير المناخ، من خلال ارتفاع درجات الحرارة وتحول أنماط هطول الأمطار، إلى تعريض بعض المناطق إلى خطر عدم كفاية الأمطار وعدم انتظامها، مما يؤدي إلى حالات فشل في الحصاد وعدم كفاية المياه لتلبية الاحتياجات البشرية.

[caption id="attachment_55267435" align="alignleft" width="594"]الصيف في وارسو (غيتي) الصيف في وارسو (غيتي)[/caption]

ومنذ عام 1945، وعلى الرغم من انقسام بعض الدول أو فشلها، فإن القليل منها قد اختفى. وفي القرن القادم، قد يجعل تغير المناخ من وفاة الدولة ظاهرة مألوفة، إذ إن تسرب المياه المالحة والعواصف تجعل الكثير من الدول الجزرية غير صالحة للسكن. وعلى الرغم من أن معظم الجزر التي يهددها تغير المناخ لديها أعداد صغيرة من السكان، فإن هذا الاضطراب لن يتم احتواؤه. وحتى إن انخفاض الإنتاجية الزراعية وغيرها من الأخطار المناخية في بلدان أخرى سيجبر الناس على الانتقال من الريف إلى المدن أو حتى عبر الحدود. وسيتوجب إعادة توطين عشرات الآلاف من الأشخاص. وبالنسبة لأولئك الذين يعبرون الحدود، هل سيبقون بشكل دائم؟ وهل سيصبحون مواطنين في الدول التي تستقبلهم؟ وهل ستصبح الحكومات التي تحصل على الأراضي داخل البلدان الأخرى سيادية على تلك الأرض؟ اتخذت نيوزيلندا خطوات مؤقتة لإنشاء فئة جديدة للتأشيرات لأعداد صغيرة من لاجئي المناخ من الدول الجزرية في المحيط الهادي، ولكن لا توجد قواعد دولية لتنظيم دخول أولئك الذين أجبروا على مغادرة منازلهم بسبب تغير المناخ. وستزداد الحاجة الملحة لهذه الأسئلة في السنوات القادمة.
وستؤدي العوامل المناخية إلى تفاقم الأزمات القائمة بالإضافة إلى خلق أزمات جديدة. وفرّ نحو 800 ألف شخص من جماعة أقلية الروهينغيا في ميانمار إلى بنغلاديش، مدفوعين بالتطهير العرقي. وتوجد الكثير من مخيمات اللاجئين في المناطق المعرضة للفيضانات خلال الأمطار الموسمية. ومما زاد الطين بلة، أن الكثير من الأراضي المحيطة بالمخيمات قد جردت من الغابات، مما يجعل الخيام والأكواخ عرضة للتحطم عند أول فيضان. وعلى الرغم من أن العالم أصبح أفضل بكثير في منع الخسائر في الأرواح نتيجة لحالات الطوارئ المناخية، فإن تغير المناخ سيختبر أنظمة الاستجابة الإنسانية والكوارثية التي تعاني بالفعل من ضغوط شديدة بسبب الصراعات التي لا نهاية لها على ما يبدو في الصومال وجنوب السودان وسوريا واليمن.



حروب المناخ




سيزيد تغير المناخ من حدة التوترات الدولية. وقد حذر المحللون بشكل دوري من حروب المياه الوشيكة، ولكن تمكنت الدول حتى الآن من حل معظم النزاعات سلميًا. وعلى سبيل المثال، تستمد الهند وباكستان قدرًا كبيرًا من المياه من نهر السند، الذي يعبر الأراضي المتنازع عليها. ولكن على الرغم من أن البلدين قد خاضا حروبًا متعددة ضد بعضهما البعض، إلا أنه لم يسبق لهما أن تنازعا على تقاسم المياه، وذلك بفضل معاهدة مياه نهر السند لعام 1960، التي توفر آلية لهم لإدارة النهر معًا. ومع ذلك، فقد أدى ارتفاع الطلب وتزايد ندرة المياه إلى زيادة التوتر حول السند. وقد واجهت باكستان الجهود التي تبذلها الهند لبناء سدود عكس التيار. وفي وسط التوترات السياسية، أوقف رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عام 2016 مشاركة الهند مؤقتًا في الاجتماعات المشتركة لإدارة النهر. ولذلك سيكون التعاون السلمي أصعب في المستقبل.

[caption id="attachment_55267436" align="alignright" width="594"]أكواب بلاستيكية يستخدمها السياح على شاطئ بحر إيجه بالقرب من أثينا باليونان في 26 يونيو 2018 (غيتي) أكواب بلاستيكية يستخدمها السياح على شاطئ بحر إيجه بالقرب من أثينا باليونان في 26 يونيو 2018 (غيتي)[/caption]

أما الشراكات بين البلدان الأخرى التي تشترك في أحواض الأنهار فهي أكثر هشاشة. وتتعاون عدة دول في جنوب شرقي آسيا لتنظيم كل ما يتعلق بنهر الميكونغ من خلال لجنة نهر ميكونغ، ولكن الصين، التي هي أكبر الدول الست التي يتدفق عبرها النهر وينبع النهر، ليست عضوًا في هذه اللجنة. وقامت الحكومة الصينية وغيرها من دول المنبع ببناء سدود على نهر ميكونغ تهدد بحرمان صيد الأسماك والمجتمعات الزراعية في فيتنام وغيرها من دول المصب من انقطاع مصادر رزقها. وتزداد المنافسة على تدفق النهر فقط مع تزايد الجفاف في المنطقة.
وكذلك الحال بالنسبة لنهر النيل. إذ تقوم إثيوبيا ببناء سد ضخم على النهر من أجل الري وتوليد الطاقة، وهي خطوة من شأنها الحد من تدفق النهر في مصر والسودان، مما يتطلب مفاوضات دقيقة حول تقاسم المياه ومدى سرعة ملء إثيوبيا لخزان السد.
واستخدام العنف في هذه الحالة غير محتمل أبدًا، لكن التوترات حول المياه داخل البلدان وبينها ستخلق نقاطًا جديدة في المناطق التي تندر فيها الموارد الأخرى وتكون الحواجز المؤسسية ضعيفة أو مفقودة.
وقد تكون الطرق التي تستجيب بها البلدان لآثار تغير المناخ في بعض الأحيان أكثر أهمية من الآثار نفسها. ففي عام 2010، على سبيل المثال، أي بعد أن دمر الجفاف نحو خمس حصاد القمح في روسيا، حظرت الحكومة الروسية صادرات الحبوب. وأدى ذاك القرار، إلى جانب انخفاض الإنتاج في الأرجنتين وأستراليا اللتين تأثرتا أيضًا بالجفاف، إلى ارتفاع أسعار الحبوب العالمية. وربما ساعدت الزيادات في الأسعار في زعزعة استقرار بعض البلدان الهشة بالفعل. ففي مصر، على سبيل المثال، بلغ التضخم السنوي في أسعار المواد الغذائية 19 في المائة في أوائل 2011، مما غذى الاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك.
كما أدت ردود الدول على الظواهر المناخية الأخرى إلى زيادة التوتر. فقد فتح ذوبان جليد البحر في القطب الشمالي ممرات جديدة للنقل البحري وحقولا للتنقيب عن النفط والغاز، الأمر الذي قاد كندا وروسيا والولايات المتحدة ودول أخرى في القطب الشمالي إلى التنازع حول حقوق السيطرة على هذه الموارد الجديدة.
وعلاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي الدفع لخفض انبعاثات الكربون أيضًا إلى المنافسة على الرغم من أن الفكرة مرحبٌ بها. ومع تنامي الطلب على الطاقة النظيفة، ستتخلى البلدان عن الدعم الحكومي والتعريفات وسيحاول كل بلد تعزيز موقعه في الاقتصاد الأخضر الجديد. وأدى الدعم القوي الذي تقدمه الصين لصناعة الطاقة الشمسية إلى رد فعل من صناع الألواح الشمسية في بلدان أخرى، إذ فرضت الولايات المتحدة رسومًا في عام 2017 ونظرت الهند في القيام بأمرٍ مماثل.

[caption id="attachment_55267437" align="alignleft" width="594"]شكلت الرياح والجليد منحوتات غريبة على جبل بروكين الثلجي بالقرب من شيريكه في منطقة هارتس وسط ألمانيا (أ.ف.ب) شكلت الرياح والجليد منحوتات غريبة على جبل بروكين الثلجي بالقرب من شيريكه في منطقة هارتس وسط ألمانيا (أ.ف.ب)[/caption]

ومع تزايد حدة المخاوف المناخية، ستصبح المناقشات بين الدول أكثر وضوحًا. وبما أن تصنيع البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية يتطلب معادن نادرة مثل الكوبالت والليثيوم والنيكل، والتي توجد إلى حد كبير في أماكن تعاني من الصراعات مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيمكن لارتفاع عدد المركبات التي تعمل بالبطاريات أن يؤدي إلى حدوث خطر التدافع الجديد للحصول على الموارد. ورغم أن المصنعين سيبتكرون طرق للحد من اعتمادهم على هذه المعادن، إلا أن مثل هذه الضغوط ستصبح أكثر شيوعًا مع تقدم انتقال الطاقة النظيفة. فالشركات والبلدان التي تعتمد بشدة على الوقود الأحفوري، على سبيل المثال، ستقاوم الضغوط لإبقائها في الأرض.
توجد الكثير من السياسات التي يحتمل أن تكون مثيرة للنزاع والتي قد تقوم الحكومات بتطبيقها استجابة للظروف المناخية المتغيرة. وستخلق عوامل مثل حظر صادرات الموارد الجديدة النادرة واكتساب الأراضي في الخارج وتكليف استخدام الوقود الحيوي وسن قوانين للمحافظة على الغابات والآلاف من الخيارات الأخرى رابحين وخاسرين، وستثير التوترات محليًا ودوليًا. ومع تزايد المخاوف من حدوث تغير مناخي جامح، ستميل الحكومات بشكل متزايد إلى اتخاذ خطوات جذرية من جانبٍ واحد، مثل الهندسة الجيولوجية، الأمر الذي من شأنه أن يزعزع الاستقرار بشكل كبير.



السؤال المُلِح




هذه السيناريوهات المخيفة ليست حتمية ولكنها تعتمد بشكلٍ كبير على ما إذا كانت البلدان ستعمل معًا للحد من انبعاثات الكربون ودرء أسوأ آثار تغير المناخ.
وفي العام الماضي، عندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب عزمه على سحب بلاده من اتفاقية باريس للتغير المناخي، ردت الكثير من الدول الأخرى، بما في ذلك الصين وفرنسا وألمانيا والهند والمملكة المتحدة، بمضاعفة دعمها للاتفاقية. واستضاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اجتماعًا دوليًا حول التغير المناخي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وأنشأ صندوقًا لجذب العلماء الرائدين في مجال المناخ، خاصة القادمين من الولايات المتحدة.

[caption id="attachment_55267438" align="alignright" width="594"]يحاول مزارع هندي إخماد حريق في حقل قمح 24 أبريل 2018 (أ.ف.ب) يحاول مزارع هندي إخماد حريق في حقل قمح 24 أبريل 2018 (أ.ف.ب)[/caption]

ستظل قضية تغير المناخ بارزة بالنسبة للسياسيين في معظم البلدان حيث يتوقع الناس في جميع أنحاء العالم أن يتخذ قادتهم إجراء للحد من الظاهرة. حتى إن الولايات المتحدة لا تزال رسميًا في اتفاقية باريس ولا يسري قرار انسحابها إلا في اليوم التالي للانتخابات الرئاسية المقبلة أي في عام 2020. وفي حال عدم إعادة انتخاب ترمب، يستطيع الرئيس القادم العودة مباشرة إلى الاتفاقية.
بالإضافة إلى ذلك، وحتى مع خروج الحكومة الفيدرالية الأميركية عن القيادة الدولية للمناخ وشروعها في التراجع عن سياسات المناخ المحلي في عهد أوباما، ظل حكام الولايات المتحدة ورؤساء البلديات والرؤساء التنفيذيون ملتزمين بالعمل المناخي. ففي العام الماضي، شكل عمدة نيويورك السابق مايكل بلومبرغ ائتلاف «We Are Still In»، الذي يضم الآن نحو 2.700 قائد من جميع أنحاء البلاد. وتعهد القادة باتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ، والتي إذا ما تم الالتزام بها فإنهم سيحققون 60 في المائة من هدف خفض الانبعاثات الأميركي الأصلي بموجب اتفاقية باريس.
ويضم الائتلاف حاكم ولاية كاليفورنيا جيري براون، الذي تفخر ولايته بكونها خامس أكبر اقتصاد في العالم. ومن المقرر أن يستضيف براون في شهر سبتمبر (أيلول) قمة العمل العالمي للمناخ في سان فرانسيسكو لخلق زخم للتحرك قبل مفاوضات المناخ في الشتاء القادم في بولندا. وسيكون ذلك مشهدًا رائعًا: حاكمٌ يجلس وينفذ دبلوماسيته العالمية المستقلة عن الحكومة الفيدرالية. ولا تنتهي مساهمة كاليفورنيا عند هذا الحد. فالشركات التكنولوجية الرائدة في ولاية كاليفورنيا، مثل غوغل، هي أيضا جزءٌ من هذا الائتلاف. وقد وضعوا أهدافًا طموحة للطاقة المتجددة الداخلية تغطي عملياتهم بالكامل. ونظرًا لحجمها الهائل وسلاسل التوريد العالمية، فإن لدى هذه الشركات إمكانات هائلة للوصول.
وحتى في الوقت الذي يستثمر فيه القادة الوقت والجهد لإبرام الاتفاقيات الدولية بين البلدان، قاموا أيضًا ببناء عمليات متوازية أقل إثارة ولكنها ليست أقل أهمية وذلك لتشجيع العمل بهذه الاتفاقيات.
ولأن تغير المناخ يشمل مجموعة من المشاكل في مجال النقل والطاقة والبناء والزراعة وغيرها من القطاعات، فإن التجارب تتيح أماكن مختلفة لمعالجة مشاكل مختلفة في نفس الوقت. وتتضمن طرق المعالجة التداعيات الأمنية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ودعم الوقود الأحفوري في قمة العشرين والغازات قصيرة الأجل مثل الهيدروفلوروكربون من خلال بروتوكول مونتريال وإزالة الغابات من خلال الجهود مثل إعلان نيويورك بشأن الغابات. وقد تكون مجموعة الجهود هذه أكثر فوضوية بالمقارنة مع تركيز كل شيء من خلال اتفاقية عالمية واحدة، ولكن قد يؤدي تجنب فشل نقطة واحدة والسماح لمجموعات وصفقات مختلفة أن تعالج المشاكل بطريقة ملائمة إلى الوصول لنتائج دائمة.
لقد أثبت البشر قابليتهم للتكيف بشكل كبير، ولكن التأثيرات الجماعية لتغير المناخ على المدن وإنتاج الغذاء وإمدادات المياه تشكل تحديًا هائلاً لكوكب الأرض. وستكون الصين والولايات المتحدة مركزية للاستجابة العالمية. فمعًا، ستكون الدولتان مسؤولتين عن أكثر من 40 في المائة من الانبعاثات العالمية. وتمثل الصين وحدها 28 في المائة.
وفي الفترة التي سبقت مفاوضات باريس، استثمر الرئيس الأميركي باراك أوباما رأسمال سياسي ضخم للتوصل إلى تفاهم ثنائي مع الصين. ويزيد انسحاب إدارة ترمب في العمل المناخي الضغط على الصين لمعالجة انبعاثاتها في الداخل والنظر في التأثيرات البيئية لأفعالها في الخارج من خلال مبادرة الحزام والطريق والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.

[caption id="attachment_55267439" align="alignleft" width="594"]يغوص نيكو بيرميا وهو يتنافس في الجولة النهائية لمسابقة «بيلي فلوب» السنوية الثانية والعشرين في «ووتر وورلد» التي أقيمت في أكثر الأيام حراً في هذا العام 28 يونيو 2018 في ثورنتون بكولورادو (غيتي) يغوص نيكو بيرميا وهو يتنافس في الجولة النهائية لمسابقة «بيلي فلوب» السنوية الثانية والعشرين في «ووتر وورلد» التي أقيمت في أكثر الأيام حراً في هذا العام 28 يونيو 2018 في ثورنتون بكولورادو (غيتي)[/caption]

وتوترت العلاقات بين الصين والولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، ولكن الدولتان بحاجة إلى أن تعملا معًا لأن الخدمات ستقدم بشكلٍ ضئيل للعالم في حال أصبحت المنافسة شاملة بينهما. وسيتعين عليهما بناء نظام يسمح بتجزئة القضايا بحيث يمكنهما الهيمنة على الأمن الإقليمي في آسيا، على سبيل المثال، ولكنهما لا تزالان تتعاونان بشأن القضايا التي يرتبط بها مصيرهما، مثل تغير المناخ والأوبئة.
والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك تكون من خلال إنشاء نظام يعترف بانتشار السلطة. وهذا الانتشار جارٍ بالفعل إلى حد ما، إذ إن الولايات المتحدة تتخلى عن السيطرة المهيمنة في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد والذي يتوقع فيه المزيد من الصين الصاعدة. ولكن يجب أن تأخذ العملية بعدًا أكثر بكثير. ستحتاج الحكومات إلى التنسيق مع الوحدات الأقلية والشركات الخاصة والمنظمات غير الحكومية والأفراد الأغنياء جدًا. فقد أصبحت هذه الجهات أكثر قدرة من الحكومات على التغير على المستوى المحلي عندما يتعلق الأمر بالتغير المناخي والكثير من المشاكل الأخرى. ولن يكون من السهل إنشاء نظام مناسب لهذا الغرض. ولكن يوفر المزيج الناشئ من الاتفاقات الدولية وشبكات المنظمات والأفراد المكرسين أنفسهم لحل مشكلاتٍ محددة أفضل فرصة لتفادي تغير المناخ الكارثي.

* جوشوا بوسبي: أستاذ مشارك في الشؤون العامة في جامعة تكساس في أوستن.
font change