القاهرة- ميرزا الخويلدي
إذا كانت مصر المحروسة تعرف في الشرق بأنها «أم الدنيا»، فإن قلبها ينبض في حي الحسين بالقاهرة، الحي القديم الذي يعج بالحركة والنشاط، وتنبعث من أرجائه رائحة التاريخ، وعبق التراث، ونكهة الحياة المصرية بعفويتها وبساطتها.
«حي الحسين» الذي اشتق شهرته من مسجد الإمام الحسين، ليس مجرد حي قديم مثل أحياء القاهرة التي تحيط به، كالجمالية، والباطنية، والدرب الأحمر، والغورية، والقلعة، وغيرها، بل هو مزيج مختلف من التاريخ يمثل الذاكرة المصرية، لحضارات وأحداث مرّت وتركت بصمتها هناك.
هذا الحي الذي ما زال يفوح بالنكهة المصرية في بساطتها، هو نفسه الذي يقدم روائع الفنّ الشعبي رسمًا وحياكة، ونقشًا على النحاس، وتلوينًا للزجاج، وأداء استعراضيًا يمتزج فيه الفلكلور بالتصوف الديني. والطراز المعماري بالشكل الهندسي القديم في تخطيط المدن، ضمن زخارف بصرية رائقة. ويختلط في هذا الحي الأغنياء بالفقراء، والحرفيون بالمتسكعين والمتسولين، وأبناء البلد بالسياح من مختلف أرجاء العالم.
وإذا كان هذا الحي ينبض بالحركة والعنفوان على مدار العام، فهو في ليالي شهر رمضان يعج بالنشاط على نحو مختلف، حيث تختلط أصوات المنشدين مع المطربين، وأنغام العود مع عزف منفرد على الناي، وتواشيح روحانية صوفية من تكية في الجوار مع موال يصدح في زاوية مقهى يرتاده السياح، كما تصدح أصوات المرتلين.. فلا شيء يشبه الليالي الرمضانية في حي الحسين.
منذ أكثر من ستة قرون، أقيم بجوار جامع الحسين، خان الخليلي ليصبح فيما بعد أشهر سوق شرقي لصناعة التحف والنحاسيات، والفضيات، والجواهر، والإكسسوارات المختلفة ذات الأشكال الإسلامية والفرعونية، وأعمال الفسيفساء، والعطور الشرقية، والكتب التراثية، وورق البردي، والخواتم، والملابس، وأزياء الرقص.
وبالإضافة لخان الخليلي، يضم حي الحسين عددًا من الأسواق القديمة، كسوق التوابل، وسوق العطارين، والصابون، والنحاس، وغيرها.
وهذا الحي يحتضن كذلك أشهر شربتلي في مصر، وهو «الأمين» الذي تتوارث العناية به عائلة الأمين منذ أكثر من قرن من الزمان ويتخصص المحل في صناعة أشهر المشروبات المصرية كالدوم والخروب والتمرهندي والعرقسوس والسوبيا وغيرها.
ويعرف حي الحسين بالمقاهي الشعبية التي تترامي بين أطرافه مستقبلة الزوار والسياح والمتسوقين، لتمنحهم شعورًا بالمكان، وفرصة لتذوق الطعام والشراب المصري بنكهته الشعبية التقليدية. كمقهى «ولي النعم»، و«السكرية»، ومقهى «خان الخليلي»، ومقهى «نجيب محفوظ»، لكّن أشهر تلك المقاهي هو مقهى «الفيشاوي» الذي أسسه علي فهمي الفيشاوي سنة 1797م، ويحمل منفردًا ذاكرة المكان والأرض وذاكرة البلاد بأسرها. فهذا المقهى شهد ولادة أهم شخصية في رواية «الحرافيش»، للروائي المصري نجيب محفوظ، وهي شخصية «عاشور الناجي». بلّ إن الفيشاوي مؤسس المقهى كان هو الآخر أحد فتوات الجمالية.
وكعشرات المقاهي في الأزقة والجوار، يقدم الفيشاوي المشروبات الساخنة والباردة، وأشهرها الشاي الأخضر، والينسون، والقرفة، والقهوة، والأرجيلة. ويستقبل الفنانين والمشاهير والسياح، وبين لاعب بطاولة الزهر، أو عازف على العود، أو متسامرين يستمعون الشعر والغناء، يقضي زوار الفيشاوي ليلتهم حتى يقترب الفجر.
جميع القادة العسكريين والسياسيين والأدباء مروا بالفيشاوي، من الخديوي إسماعيل، حتى نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية 1798، ومن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول، حتى أم كلثوم وسيد درويش وسلامة حجازي وبيرم التونسي وجمال عبد الناصر وأنور السادات.
وكحال كل زاوية وزقاق في حي الحسين، حافظ المقهى الفيشاوي على صورته القديمة حيث الكراسي الخشبية والأزقة الضيقة واللمسات الأصيلة التي تنتمي لماضٍ جميل وساحر.
هل يمكن لزائر مصر الذي يتلمس روح المكان، ألا يمرّ بالحسين..؟