«أوبر» و«كريم»... الصراع لاستعادة «المدينة»... وتقاليدها

تجربة ستخلق طلباً أكبر على قطاع خدمات أكثر حداثة وكفاءة

«أوبر» و«كريم»... الصراع لاستعادة «المدينة»... وتقاليدها



دبي - ممدوح الشيخ



* سنوات نشوء الاقتصاد الافتراضي في مصر كشفت عن حقيقة أن الموارد ليست المشكلة الرئيسية، بل الرؤية والمعيار.
* أول ملامح التقاليد المهنية لمهنة كهذه تندرج تحت اللافتة العريضة لما يسمى: «قطاع الخدمات»، أن يكون المستهلك راضياً عن الخدمة، لكن عدم الرضا لا تكون له قيمة ما لم تكن هناك «بدائل».





ذات يوم التقيت مسؤولاً كبيراً سابقاً خدم مع حسني مبارك في «الإدارة المحلية» وكان من بين ما سألته عنه: لماذا لم يقرر أي مسؤول طوال حكم مبارك تسيير عدة آلاف من سيارات النقل الجماعي (الميكروباص) المكيفة لتلبية احتياجات شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، لو وجدت هذه الخدمة فلن تفكر في امتلاك سيارة خاصة، أو ستقصر استخدامك لها على عطلة نهاية الأسبوع والأسفار الطويلة، في عاصمة تواجه مشكلة «ازدحام مزمنة»... وكان رده غريباً (!)

وشهدت الأشهر القليلة الماضية جدلاً كبيراً حول خدمة التاكسي غير التقليدية التي تقدمها في القاهرة شركات كثيرة، أشهرها: «أوبر» و«كريم»، جدل يخفي – في الحقيقة – صراعاً اجتماعياً ثقافياً تدور فصوله في مصر منذ سنوات. وأحد أهم أوجه هذا الصراع هو على «روح المدينة» في مصر التي ترزح تحت وطأة عملية تحديث متعثرة بدأت منذ خمسينات القرن الماضي ووصلت فاتورة تعثرها إلى منعطف كبير.



القوانين تنظم... الإنسان يصنع




القاهرة – المدينة الأكبر والأكثر عراقة – تعاني منذ عدة عقود تراجعاً في «نوعية الحياة» فيها طالما عولج من منظور رقمي بحت «الكلفة الكبيرة – الموارد المحدودة»، غير أن سنوات نشوء الاقتصاد الافتراضي في مصر كشفت عن حقيقة أن الموارد ليست المشكلة الرئيسية، بل الرؤية والمعيار(!)

وقد كانت النظرة الرقمية - الإجرائية تبالغ في تقدير تأثير الكلفة المادية لعمليات تحديث لا مفر منها على شبكة نقل جماعي تحمل العبء الأكبر في عملية بقاء القاهرة على قيد الحياة، بملايينها الكبيرة وطرقها المزدحمة دائماً بحركة انتقال بين أطراف المدينة الأربعة: الشمال والجنوب والشرق والغرب، حيث تتلاقى في قلب المدينة القديم الذي خفف عنه «الطريق الدائري» جانبا من العبء، ولفترة محدودة عاد بعدها قلب المدينة ليئن مع ارتفاع أعداد سكان القاهرة، بسبب الهجرة الدائمة إليها من شمالها وجنوبها على السواء.

وبدا لعقود مضت أن الموارد المالية والبنية العتيقة لقلب القاهرة ذات الألف عام – ويزيد – هي ما يجعل سكانها يدورون في حلقة مفرغة تبدو بلا نهاية. وكانت حالة حافلات النقل الجماعي (الميكروباص) تشير إلى تراجع في نوعية الخدمة المقدمة لمستهلكيها، ورويداً رويداً، وصار على الجميع التكيف مع شيء من الفوضى وكثير من الزحام، وشكلت عملية تطوير «التاكسي» في عهد مبارك خطوة إلى الأمام لم تتبعها خطوات، ففشل – إلى حد كبير – في اجتذاب المستهلكين من الشرائح المتوسطة والعليا من الطبقة الوسطى التي كانت مشكلتها مع «الميكروباص» و«التاكسي الأبيض» تتجاوز الموارد والإجراءات.

الهرب من «عفاريت الأسفلت»




في عام 1996 سجلت السينما المصرية للمرة الأولى مأزق هذا القطاع الذي يربط المدينة الكبيرة بجهاز عصبي يمر بأحيائها كافة في فيلم «عفاريت الأسفلت»، وكانت رسالته تحمل الكثير مما ينبغي الوقوف عنده على مستويات ثقافية واجتماعية تتجاوز القشرة الخارجية لبنية الفيلم الدرامية.

فهذا القطاع الخدمي المهم أصبح منذ التسعينات يتسم بسمات كان لها – ولا يزال – تأثيرات عميقة على حال القاهرة ومساحة «المشترك العام» التي يتفاعل فيها ساكنوها. وأول قواعد التفاعل الناجح في «مدينة» أن يكون القانون «كمنظم» للمسموح وكيف يمكن حدوثه، والممنوع وكيف يجب منعه: «القانون».

والمدن الكبيرة – دائماً – سكانها لا يعرف بعضهم بعضاً، أفرادا أو جماعات، وكل منهم بالنسبة للآخرين، وبالتالي فلا مكان لـ«الأعراف» التي يمكن أن تنجح في تنظيم العلاقات بين هؤلاء الغرباء، وهو ما قد يكون ممكناً في قرية أو مدينة صغيرة ذات مزاج ريفي. لكن ما حدث وتسارعت وتيرته منذ النصف الثاني من الثمانينات أن القاهرة توسعت مكاناً وسكاناً بشكل كبير – في إطار القانون حيناً وخارج نطاق القانون أحياناً – ونشأت حول قلب المدينة عشوائيات ضخمة جاء سكانها من الريف في شمال مصر وجنوبها.

وكان قطاع الخدمات – وبخاصة النقل الجماعي – الحل الأكثر يسراً، فقيادة السيارة هي في الحقيقة – «مهارة» قبل أن تكون «مهنة»، فالطبيب يقود سيارته والمهندس يقود سيارته... وهكذا. أي أن المهنة التي يمكن أن يمتهنها، في أقصر وقت، شخص لا يملك مؤهلاً علمياً أو مهنياً هي مهنة «سائق». وخلال سنوات معدودة لعبت صلات القرابة والعلاقات المباشرة دوراً في حدوث تركز نسبي ملحوظ جداً لأبناء مناطق معينة في الصعيد أو الوجه البحري في «إمبراطورية الميكروباص».



تقاليد المهنة وثقافة السائق




وما حدث فعلياً أن «إمبراطورية الميكروباص» أصبحت «العامل المشترك الأكبر» بين سكان مدينة تمتد طولاً وعرضاً ثقيلة بملايين من السكان، وغلبت ثقافة السائقين الشخصية على ما يمكن اعتباره «تقاليد مهنية» كان من المفترض أن يكتسبوها في التحاقهم بالمهنة، وبسبب التشابه الكبير بين ثقافات معظمهم بوصفهم «ريفيين» جاءوا إلى مدينة مسالمة ذات «بطن رخو» باستخدام مصطلحات السياسة، ففرض الأكثر خشونة نمط سلوكه بل فرض ذوقه وضوضاءه على الطريق، ونقل إلى «مستهلكي الخدمة» غير قليل من الأمراض السلوكية، فضلاً عن الجانب الذي تضبطه «التقاليد المهنية» في علاقة السائق بالراكب التي أصبحت غامضة ومطاطة.

وأول ملامح التقاليد المهنية لمهنة كهذه تندرج تحت اللافتة العريضة لما يسمى: «قطاع الخدمات»، أن يكون المستهلك راضياً عن الخدمة، لكن عدم الرضا لا تكون لها قيمة ما لم تكن هناك «بدائل»، أو منظومة ثواب وعقاب تجعل الخروج عن هذه التقاليد ذا كلفة، لكن الطبيعة التي استقر عليها نظام النقل الجماعي (الميكروباص) جعله خارج أي رقابة حقيقية، فيما لم يفلح مسار «تغليظ العقوبات» في حل المشكلة. وكان للانتشار الملحوظ لأشكال تعاطي المكيفات المختلفة بين العاملين في المهنة دور في استعصاء المشكلة على الحل.

وتالياً، أصبح مستهلك الخدمة «مضطراً» لقبول كل ما هو متهالك في الخدمة المقدمة له: السيارة – سلوك سائقها – ذوقه الشخصي فيما يسمع... وأصبحت الرحلة اليومية في هذه السيارة «تدريباً يومياً» على الإذعان لإرادة الأكثر خشونة، وكادت الضوضاء تصبح جزءاً من طقوسها. ومع تصاعد الزحام وحاجة السلطة ومستهلك الخدمة معاً إلى أن «تستمر عجلة الحياة اليومية» في الدوران انخفض سقف التوقع أكثر وأصبح التآلف مع الأمر الواقع كل ما يملكه البعض، فيما فر آخرون إلى «التاكسي الأبيض» مضطرين.




خدمة معيارها «الكفاءة» لا «الكفاية»




كان تطوير «التاكسي الأبيض» يتضمن جانباً مهماً من الحل: احترام العلاقة التعاقدية بين مقدم الخدمة ومستهلكها. ومع الوقت حلت عملية تفاوض ومساومة بين الطرفين محل العلاقة التعاقدية، وأصبح قسم غير قليل من السائقين يحتكمون إلى «العداد» أو يقدمون الخدمة وفقاً لشروطهم، فضلاً عن تجاوزات ربما ضخمها البعض جعل هذا السائق «المجهول» الذي قد لا يستطيع الراكب الوصول إليه في حال رغب في اتخاذ إجراء قانوني بحقه، ما لم يكتب رقم كل سيارة تاكسي يستخدمها. (!)

وكان أول التحولات التي حملها ميلاد شركات التاكسي الجديدة – وأشهرها «أوبر» و«كريم» – أن لا يكون من حق مقدم الخدمة الامتناع عن تقديمها وفقاً لتقديره، وهي سمة من أهم سمات قطاع الخدمات في أي مكان، وهو في الوقت نفسه، عيب كبير من عيوب التعامل مع «التاكسي الأبيض». وهكذا أخذت العلاقة أول خطوة باتجاه استعادة توازنها.

وكان الانتقال من التعامل مع «المتعين» إلى التعامل مع «الافتراضي» نقلة أخرى أسهمت في جعل مقدم الخدمة «معلوماً» يمكن الوصول إليه في أي وقت عبر السجل الرقمي للسائق والراكب معاً وهو اعتبار يشير إليه كثيرون من المتعاملين مع الظاهرة الجديدة، وهم يقرنون ذلك دائماً بنتائجه المتصلة بـ«أمن الراكب». وفي زحام القاهرة وفر التطبيق للسائق أن يكون على معرفة طوال الرحلة بحالة الطرق البديلة ودرجة ازدحامها الفعلي، ما يجعله يتمكن من ترشيد وقت الرحلة.

وفي تقاليد التعامل مع الراكب أصبحت «الكفاءة» وليس «الكفاية» معيار النجاح، فليس الهدف – فقط – نقل شخص من مكان إلى آخر بغض النظر عن «نوعية الخدمة»، بل نقله بكفاءة تجعل رضاه معياراً من معايير النجاح. وفي حقيقة الأمر، لم يكن هذا ليتحقق لولا نجاح الشركات الجديدة في استقطاب مقدمي خدمة معظمهم من الطبقة الوسطى، وبعضهم من الشرائح العليا منها، وقبل أيام طلبت الخدمة فجاءتني سيارة يقودها نائب رئيس تحرير – بالمعاش – في صحيفة مصرية يومية (!)

هذا الفئة الجديدة بخلفياتها التعليمية والثقافية جعلت المقارنة بسائقي «التاكسي الأبيض» كاشفة. فالظواهر التي جعلت الكثير من أبناء الطبقة الوسطى يهربون من «عفاريت الأسفلت»، تسربت بـ«الارتشاح» بدرجة أقل إلى نسبة من سائقي «التاكسي الأبيض». وفي حقيقة الأمر يمثل دخول هذه الفئة من مالكي السيارات الخاصة عالم تقديم خدمة التوصيل تحولاً اجتماعياً كبيراً، فبينما شكلت الأصول الريفية والمستويات التعليمية والثقافية، لمعظم سائقي النقل الجماعي (الميكروباص) سببا من أسباب الشعور بأنهم يعملون في مهنة متواضعة، وبالتالي أنتجت حساسية مبالغاً فيها تجاه الراكب، وما يجوز أن يكون «معياراً» لشعوره بالرضا. وهذه الحساسية أثمرت حالة من «النرجسية» سرعان ما تترجم نفسها في حالات كثيرة إلى: سلوك تسلطي – عنف لفظي – عنف فعلي...

وكانت المفارقة أن الأعلى تعليماً والأرقى ثقافة، كان أقل إحساساً بهذه «الحساسية المرضية»، فضلاً عن أنهم كانوا أكثر إدراكاً لفكرة أن النجاح في قطاع الخدمات مرهون بالسعي إلى رضا مستهلك الخدمة وتلبية مطالبه. ومن جانب آخر كان «التقييم» الذي يقدمه الراكب يعد كل رحلة تحولاً مهماً في بنية العلاقة، فـ«السائق» في «إمبراطوية الميكروباص» لديه – غالباً – حساسية مرضية من فكرة أن رضاء الراكب يمس كرامته الشخصية، وبالتالي فإنه ليس من حقه أصلاً تقييم الخدمة، بل عليه قبولها «كما هي».

وهذا في الحقيقة لا يعني أن المعيار غائب، بل يعني أن العلاقة هي علاقة إذعان و«السائق» فيها هو مثل «حـَكـَم كرة القدم»: الميقاتي الوحيد للمباراة. (!!!)



صرخة «عمارة يعقوبيان»




إن ظهور شركات التاكسي الجديدة وأشهرها «أوبر» و«كريم» تشكل نوعاً من الاستجابة – حتى لو لم يدرك مؤسسوها وزبائنها ذلك – لصرخة عادل إمام في فيلم «عمارة يعقوبيان» عما أصاب القاهرة التي كانت أكثر جمالاً وتأنقاً، وما حدث خلال الفترة القصيرة الماضية من نجاح وجدل يؤكد أن الموارد المالية ليست كل ما ينقصنا لاستعادة «المدينة» وتقاليدها، بل يحتاج الأمر رؤية تأخذ الفاعل الإنساني وما يملكه من ثقافة في الاعتبار بشكل كبير عند تقييم المشكلات والتخطيط لمواجهتها، وهذه التجربة ستخلق – على المدى البعيد – طلباً أكبر على قطاع خدمات أكثر حداثة وكفاءة، وهو متغير اجتماعي كبير.

وما شهدته القاهرة من ظواهر اقتصادية بدأت في العالم الافتراضي تطبيقاً لشعار ثورة المعلوماتية: «اتصل ولا تنتقل»، تحمل بذور انخراط أوسع لفئات أكثر تعليماً وثقافة ومدينية في قطاع يمثل «الجهاز العصبي» للمدينة، بعد أن ظل لعدة عقود مغلقاً على أبناء الضواحي ذوي الأصول الريفية الذين فرضوا على «مساحة المشترك العام» أعرافهم وتقاليدهم وأذواقهم.
font change