سيناء تنزف ... والعالم يتألم

«طيور الظلام»... ونشاط الجماعات الإرهابية في سيناء عام 2017

سيناء تنزف ... والعالم يتألم



محمد عبد القادر خليل*


تصاعدت موجات العنف الإرهابي في مصر، وتزايدت وتيرتها وتداعياتها البشرية والمادية على نحو غير مسبوق، سيما أن أهدافها أضحت تتدحرج كل فترة. فبعد استهداف المنشآت الحيوية، أمنية كانت أو عسكرية، اتجهت إلى استهداف المدنيين ودور العبادة، فمن استهداف بعض الكنائس المصرية انتقلت موجة العنف الإرهابي لتستهدف مسجد الروضة في قرية بئر العبد غربي العريش في شمال سيناء، لتفضي إلى استشهاد نحو 325 مواطنا، وإصابة عشرات آخرين، وذلك في قرية، جملة عدد سكانها لا يتعدى 2000 مواطن، بما يعني أن ربع سكان القرية بات ما بين شهيد ومصاب.

وقد تضاعفت المأساة الناتجة عن هذا الحادث الإرهابي، بحسبانه أفضى إلى استشهاد نحو 30 طفلا دون العاشرة، و160 مسنا فوق الـ60 عاما، كما أفضى إلى استشهاد نحو 10 أسر بأكملها، هذا في وقت فقدت فيه 17 أسرة الآباء والأبناء معا. وتشير تقديرات أمنية إلى أن هذه العملية النوعية جاءت قبل أسبوع واحد من يوم المولد النبوي الشريف، الذي يشهد احتفالات من قبل «الطرق الصوفية».

وهذه القرية تمثل أحد معاقل الصوفية في سيناء، والمسجد المستهدف يتبع آل جرير، إحدى عشائر قبيلة السواركة، والتي ينتمي إليها الشيخ عيد أبو جرير، المؤسس الأول للصوفية في سيناء. وتأتي هذه العملية أيضا قبل نحو أسبوع واحد من ذكرى استهداف الكنيسة البطرسية بالقاهرة، والتي استُهدفت في أثناء الاحتفال بالمولد النبوي الشريف العام الماضي. وتأتي هذه العملية أيضا قبل نحو أسبوع واحد من ذكرى استهداف الكنيسة البطرسية بالقاهرة، والتي استُهدفت في أثناء الاحتفال بالمولد النبوي الشريف العام الماضي.

وتعد هذه العملية الإرهابية الأكبر من حيث الضحايا والأكثر تأثيرا لما لها من الارتدادات، كونها تمثل خرقا أمنيا وأفضت إلى صدمة شعبية. هذا مع الأخذ في الحسبان أن الأجهزة الأمنية المصرية تمكنت من خفض معدلات العمليات الإرهابية خلال النصف الأول من العام الحالي بنسبة 21 ضعفًا، مقارنة بنفس الفترة من عام 2015. وفي هذا الإطار، أوضحت الهيئة المصرية العامة للاستعلامات، في تقرير صدر مؤخرا، أنه خلال النصف الأول من عام 2017 جرى تنفيذ ما يقرب من 25 عملية إرهابية على مستوى البلاد، منها 6 عمليات في سيناء، مقارنة بـ532 عملية إرهابية، منها 120 عملية في سيناء خلال النصف الأول من عام 2015.

وعلى الرغم من أن عدد ضحايا كل العمليات الإرهابية التي شهدتها مصر في عام 2016 بلغ نحو 291 شهيدا، فإن أعداد ضحايا مذبحة مسجد الروضة تعد الأكبر، كونها الأكثر دموية في التاريخ المصري، متجاوزًا حادث التفجير الإرهابي للطائرة الروسية رقم 9268 التي تحطمت بعد مغادرتها مطار شرم الشيخ الدولي في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، ليُقتل نحو 224 كانوا على متنها. ومتجاوزًا كذلك حادث الأقصر الشهير في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1997، والذي راح ضحيته نحو 58 سائحًا.

أما على المستوى الدولي، فالحادث يعد ثاني أكبر هجوم إرهابي، من حيث عدد الضحايا، على مستوى العالم خلال عام 2017. ويسبقه فقط التفجير الانتحاري الذي قامت به حركة الشباب، في أكتوبر 2017، في مقديشو بالصومال، والذي أودى بحياة أكثر من 358 قتيلا. هذا في حين أنه يأتي في مرتبة تالية له ذلك الهجوم الذي وقع في مايو (أيار) الماضي في كابل بأفغانستان، وأودى بحياة نحو 150 شخصا.
وفي السياق ذاته، وحسب بعض الاتجاهات الأكاديمية، ربما يتماثل حادث بئر العبد، من عدة وجوه، مع هجمات إرهابية ضخمة أخرى، مثل الهجمات على شارع الكرادة في بغداد عام 2016، والهجوم الذي قامت به حركة الشباب في أبريل (نيسان) عام 2015 على جامعة جاريسا الكينية، وهجمات باريس في نوفمبر 2015، وأيضا هجمات كينيا عام 2013، ومومباي عام 2009.





إلى أين تتجه العمليات الإرهابية في مصر؟

شهدت مصر خلال عام 2016 نحو 199 عملية إرهابية. وتشير تقديرات أمنية إلى أن العمليات الإرهابية قد شهدت ارتفاعًا ملحوظًا خلال الربع الأخير من عام 2016 بواقع 104 عمليات إرهابية، حيث شهد أكتوبر 2016 وقوع 53 عملية، وهو يُعد الشهر الأعلى من حيث عدد العمليات. وقد انقسمت العمليات الإرهابية إلى خمسة نوعيات أساسية، وهي: العبوات الناسفة، وإطلاق نار، والسيارات المفخخة، والقذائف بأنواعها، والتفجيرات الانتحارية.

وقد احتلت العمليات الإرهابية، عبر إطلاق النار المرتبة الأولى من حيث الاستخدام بمعدل بلغ نحو 46 عملية من إجمالي العمليات الإرهابية، وتلاها في ذلك استخدام القنابل والعبوات الناسفة بمعدل بلغ نحو 37 من إجمالي العمليات، وكذلك جاءت القذائف في المرتبة الثالثة بنحو 16 من إجمالي العمليات، وفي المرتبة الرابعة حلت السيارات المفخخة بنحو 3 من إجمالي العمليات، ذلك علاوة على دخول فئة جديدة لم تكن موجودة من قبل، وهي العمليات الانتحارية، والتي حلت في المرتبة الأخيرة، حيث عملية إرهابية واحدة من إجمالي العمليات الإرهابية في نفس الفترة.

وفي عام 2017، شهدت مصر سلسلة متلاحقة من الاعتداءات الإرهابية كان آخرها في 24 نوفمبر 2017 على مسجد الروضة في مدينة بئر العبد. وفي 20 من أكتوبر الماضي قتل 16 عنصرا من الشرطة المصرية في هجوم بطريق الواحات البحرية، تبنته جماعة غير معروفة، تسمى «أنصار الإسلام». وفي 12 أكتوبر الماضي، أعلن الجيش المصري مقتل 6 من جنوده في هجوم إرهابي على نقطة أمنية في مدينة العريش. وكان تنظيم داعش قد تبنى عملية مماثلة في 11 سبتمبر (أيلول) 2017 أفضت إلى استشهاد 18 شرطيا، بعد استهداف مسلحي التنظيم قافلة أمنية قرب مدينة العريش.

وفي 7 من يوليو (تمور) الماضي، تكرر استهداف عناصر من الجيش المصري، ليقضي 26 جنديا مصريا نحبهم، ويصاب العشرات من قوات الأمن في هجوم على نقطة تفتيش في مدينة رفح. وتبنى داعش وقتذاك العملية. وانطلاقا من كونه لا يميز بين عسكريين ومدنيين، صغارا وكبارا، شهدت مصر في 26 مايو 2017، استهداف 26 شخصا، بينهم أطفال، جراء الهجوم بالرصاص على حافلة تقل أقباطا في أثناء توجههم إلى المنيا. وفي 9 أبريل من العام ذاته، استشهد نحو 44 شخصا، في تفجيرين انتحاريين في كنيستين مصريتين في كل من طنطا والإسكندرية، لتعلن مصر إثر الحادثين، فرض حالة الطوارئ في كامل أرجاء البلاد. كما تم استهداف نقطة تفتيش أمنية في محافظة الوادي الجديد بصحراء مصر الغربية ليمر هذا العام. على مصر، ويكاد لا يخلو أحد شهوره من عمليات إرهابية.

من المسؤول عن حادث مسجد الروضة؟

لم يعلن أي من التنظيمات الإرهابية مسؤوليته عن الهجوم على مسجد الروضة بمنطقة بئر العبد، ومع ذلك، فإن مختلف المؤشرات الرسمية تشير إلى أن تنظيم داعش، الذي ظهر عام 2014، يعد المسؤول عن هذا الهجوم الإرهابي، وذلك بحسبانه أقوى المشتبه بهم، نظرا لإمكانياته التنظيمية، وتمركزه في هذه الساحة الجغرافية، ومعرفته بالمكان، وسابق تهديده للمسجد نفسه، بدعوى أنه يشهد احتفالات صوفية. وفي هذا السياق، أكد شهود عيان في حادث الروضة الإرهابي أن الإرهابيين وجهوا إنذارا إلى أهل المنطقة بأنهم سوف يقومون بهذه العملية الإرهابية، بحسبانهم صوفيين.

وأكدت هذه التهديدات ما كان قد ذكر في العدد الخامس من مجلة «الرومية» التابعة لتنظيم داعش الإرهابي، والتي تصدر باللغات الأجنبية، حيث حذر أهالي قرية الروضة من أنهم سوف يستهدفون. وقد شملت تهديدات التنظيم، بالإضافة إلى مسجد الروضة مسجدين آخرين أعلن عن التخطيط لاستهدافهما، وهما مسجد سعود، ومسجد العرب في الإسماعيلية، التابعان - مثل مسجد الروضة - للطريقة الجريرية الصوفية.

وفي هذا السياق، نجد من يشير إلى احتمال بشأن قيام التنظيم بالهجوم الإرهابي على مسجد الروضة، لإظهار قدرته على إلحاق أكبر أذى بخصومه، وإظهار السلطات المصرية في موقف ضعيف إزاء حماية الأهداف الرخوة والسهلة، كالمساجد والكنائس، غير أنه لم يعلن مسؤوليته عن الحادث، بالنظر إلى كونه يعتمد بشكل كبير على العناصر المصرية المتسللة له من محافظات القاهرة الكبرى والدلتا والصعيد، ولا يريد أن يخلق عداوات عميقة مع البيئة المحيطة به، انطلاقا من أنه قد لا يمكن التحكم في ارتداداتها، في ظل الطبيعة القبلية في هذه المنطقة.

هذا بالإضافة إلى إدراك قادة التنظيم أن العقل الجمعي في مصر يرفض الاعتداءات على دور العبادة أيا كانت، بما قد يعني إمكانية أن يفقد التنظيم كثيرا من أنصاره الراغبين في الانضمام له إذا ما تحول لمهاجمة الأبرياء في المساجد، وربما يتسق مع ذلك أن العمليتين اللتين قام بهما التنظيم في كل من أفغانستان والصومال في مايو وأكتوبر 2017، بحسبانه لم يعلن تبنيهما.

دلالات توقيت عملية مسجد الروضة

باتت الساحة المصرية تشهد حالة من ازدحام الفعل الإرهابي المتسم بالتعقيد، من حيث أهدافه وتوزعه الجغرافي، ومن جراء تعدد وتنوع فاعليه. وفي هذا الإطار، يعد الفاعل الجهادي الأبرز من حيث عدد العمليات وارتداداتها الكبرى هو تنظيم «ولاية سيناء». هذا التنظيم كان يعرف سابقا باسم «أنصار بيت المقدس» قبل إعلان مبايعته لتنظيم الدولة الإسلامية في نوفمبر 2014. وكانت الجماعات المسلحة في سيناء، حتى وقت قريب منقسمة فيما بينها، هذا إلى أن بايعت جماعة أنصار بيت المقدس تنظيم داعش في نوفمبر 2014، وغيرت اسمها إلى «ولاية سيناء».

> وفيما يتعلق بأنصار بيت المقدس فقد ظهر إلى الوجود بعد ثورة يناير 2011، حينما التحق مسلحون فلسطينيون بجماعة «التوحيد والجهاد» المصرية التي كانت تنشط في سيناء، وشكلوا معا هذا التنظيم الإرهابي. وتشير التقديرات إلى أن عدد أفراد الجماعة يتراوح ما بين 1000 إلى 1500 مسلح، ينتشرون في شبه جزيرة سيناء التي تبلغ مساحتها 60 ألف كم مربع، وهي تخضع لحالة الطوارئ منذ أكتوبر 2014 بعد هجوم إرهابي أفضى إلى استشهاد نحو 33 من عناصر الأمن. ويشكل المصريون، حسب بعض التقديرات نحو 80 في المائة من عناصر تنظيم ولاية سيناء، فيما تشمل النسبة الباقية جنسيات أخرى، أغلبها فلسطينية، وعربية، وآسيوية.

وتنشط خلايا «ولاية سيناء» في المثلث الجغرافي بين مدن رفح، والشيخ زويد، والعريش، الواقعة على الحدود مع قطاع غزة وإسرائيل، أقصى الشمال الشرقي بسيناء. وخلال عام 2017، تنوَّعت عملياتها على عدة محاور، أبرزها استهداف الارتكازات الأمنية والعسكرية، وتنفيذ اغتيالات للقيادات البارزة، واستهداف وإجبار المسيحيين على النزوح من شمال سيناء.

وتشير تقديرات أمنية إلى أن الساحة المصرية باتت تشهد ظاهرة بروز أدوار حركات جهادية، ثم تختفي، لتعود للظهور مرة أخرى، كما تواجه مصر حالة من التسابق بين الجماعات الإرهابية لتأكيد وجودها وتعزيز قدراتها على استقطاب المقاتلين من الجماعات الإرهابية الأخرى داخل مصر وخارجها.

ويحاول تنظيم ولاية سيناء إعادة رفع الروح المعنوية بين صفوف عناصره، سيما أنه شهد خلال الفترة الماضية حالة من التراجع المزدوج. فقد شهد عام 2017 ضربات عنيفة من قبل القوات الأمنية لقيادات وعناصر التنظيم أسفرت عن مقتل قائد التنظيم أبو أنس الأنصاري، ومسؤول التدريب والدعم، عودة سلامة الحمادين، والعديد من قيادات الصف الأول والثاني، إلى جانب استهداف أكثر من عشرين من العناصر المتطرفة المنشقة عن تنظيم عز الدين القسام، والسلفية



هذه التطورات أثرت على نحو مباشر في بنية التنظيم. كما بدأت خلال الأشهر الماضية حالة من الجدل داخل التنظيمات التابعة لداعش من حيث إعادة التفكير في فك الارتباط التنظيمي والعودة مرة أخرى لتنظيم القاعدة، ومن ثم تأتي تلك العملية كرسالة مزدوجة داخلية للأفراد بأن تنظيم ولاية سيناء لا يزال يسير على نهج داعش. ومن جهة أخرى، رسالة خارجية بأن التنظيم لا يزال قويا ومتماسكا، رغم الضربات الأمنية المتلاحقة، وذلك في مسعى إلى تأكيد أن التنظيم لا يزال يتمتع بالحضور، ويمتلك القدرات، ويستهدف ذلك أيضا تصدير فكرة أن مصر غير قادرة على السيطرة على الإرهاب، وأنها دولة غير آمنة.

وربما تعكس عملية الروضة محاولة من جانب «ولاية داعش» في سيناء، كي يضع التنظيم نفسه على خريطة العالم، من أجل استقطاب الدعم المالي، وكذلك البشري من قبل أولئك الذين فروا من العراق وسوريا، فيما يطلق عليه «الهجرة العكسية»، سيما في ظل التراجع الحاد فى قدرات تنظيم داعش فى سوريا والعراق من حيث السيطرة على الأرض والقيام بعمليات إرهابية كبرى.

لذلك، فإن دموية الحادث تعد أحد أهم محركات استيعابه، وإدراك المفاهيم المرتبطه به، في سياق محاولة التعرف على التغير الحادث في خريطة الفواعل الإرهابية على الأرض، ودوافعها، ومن ثم مستوى التحدي الذي باتت تواجهه الدولة المصرية في هذه الآونة. وربما تتأكد هنا أيضا حاجة التنظيم الموالي لداعش في سيناء إلى تلك العمليات التي يمكن أن تمده بأكبر قدر من الزخم والدعاية، في ضوء زيادة التحدي الآيديولوجي الذي يجابه التنظيم، نتيجة الصعود الملحوظ – مؤخرًا - لتنظيمات تابعة لتنظيم القاعدة في الساحة المصرية.

يرتبط ذلك بأن العملية الإرهابية الأخيرة تأتي بعد أيام قليلة من إصدار تنظيم «جند الإسلام» في سيناء، والذي يمثل أحد التنظيمات الصغيرة التابعة لتنظيم القاعدة، رسالة تهديد للتنظيم توعد خلالها بمواجهة العناصر الداعشية، حال ما استمرت باستهداف المدنيين. هذا البيان تزامن مع إصدار قبيلة الترابين بيانا مشابها حذرت فيه عناصر التنظيم من استهداف المواطنين، ومن أبناء القبيلة، وهو ما يرجح احتمالية أن العناصر الداعشية تريد أن تبعث رسالة مفادها أن الكلمة العليا في مسار الحركات المتطرفة بسيناء ستكون لداعش، وأن التنظيم لن يرضخ لتهديدات تنظيمية أو قبلية.

وفي الثالث من نوفمبر 2017، زعمت جماعة لم تكن معروفة من قبل، وهي جماعة «أنصار الإسلام»، مسؤوليتها عن الهجوم الذي وقع في العشرين من أكتوبر في الواحات البحرية غرب مصر. وذكرت الجماعة أن هذا الهجوم يمثل بداية «جهادها» ضد الحكومة في مصر. ووجهت تلك الجماعة الإرهابية الموالية لتنظيم القاعدة نداءً إلى الشعب المصري، تطلب فيه من المصريين إمدادها بمختلف أشكال الدعم المادي والبشري.

ويأتي إعلان الجماعة عن نفسها وسط تراجع داعش إقليميا وخسائره المتلاحقة على أكثر من مسرح عمليات إقليمي، من أجل أن تطرح نفسها كبديل جذاب لمقاتلي التنظيم الفارين من سوريا والعراق. أيضا، وعلى الأرجح، فإن بيان الجماعة يمنح دفعة قوية للمنافسة بين التنظيمات الإرهابية النشطة في مصر على القوة البشرية، والوجاهة، والشرعية بين عناصر معسكر المؤيدين لأفكار تلك التنظيمات. إذ بالنظر إلى التنافس والصراع بين تلك التنظيمات على مصادر التمويل، وكذلك ضمان ولاء المزيد من العناصر، سيتردد صدى دعوة جماعة «أنصار الإسلام» لتنفيذ هجمات جهادية ضد السلطات المصرية، داخل أذهان أولئك الأقرب
لعقيدة داعش.

ولا شك في أن توافر مؤشرات على زيادة نشاط جماعة «جند الإسلام» التابعة لتنظيم القاعدة أيضا، وداخل سيناء ذاتها، أي داخل مسرح العمليات الرئيسي لولاية سيناء، يعمق من تلك الحاجة لدى الأخير، من أجل النجاح في مواجهة منافس آيديولوجي شرس، مثل «القاعدة»، وكي يصوغ التنظيم لنفسه صورة تعكس قدرته على القيام بعمليات مؤثرة، رغم تراجع التنظيم على أكثر من ساحة إقليمية، سيما في سوريا والعراق.

ويرجع ظهور جماعة «جند الإسلام» إلى عام 2013، حين أعلنت مسؤوليتها عن استهداف مبنى المخابرات الحربية التابع للجيش المصري في مدينة رفح بسيناء. وأسفر الهجوم حينها عن استشهاد وإصابة عدد من أفراد الجيش. وفي عام 2015، بثت الجماعة مقطعا مصورا لتدريبات مقاتليها. ومنذ ذلك الحين، اختفت الجماعة ولم تظهر إلا من خلال بيانها الصوتي. وتشير تقديرات إلى أن عودة الجماعة للظهور، وممارسة النشاط المسلح ضد «ولاية سيناء» قد تؤدي إلى انشقاق في صفوف مسلحي تنظيم الدولة، وذلك في ضوء ما يعانيه التنظيم من تراجع، بالإضافة إلى تراجع الزخم الذي اكتسبه خلال الأشهر الأخيرة في سيناء.
فمن شأن ظهور هذه الجماعة، حسب العديد من التقديرات الأكاديمية، اجتذاب مسلحين من صفوف «ولاية سيناء»، وإثارة نزاع مسلح قد يصب في صالح قدرة الجيش المصري على مواجهة هذه التنظيمات، سيما أن جماعة «جند الإسلام» أشارت إلى أن الهجوم على عناصر «ولاية سيناء» جاء في 11 أكتوبر الماضي، وأنه استهدف سيارات لمسلحي «ولاية سيناء»، وأسفر عن مقتل أربعة منهم. ووصف البيان مسلحي «ولاية سيناء» بأنهم من «الخوارج». وأرجعت الجماعة قيامها بتلك العملية إلى اعتداء مسلحي «ولاية سيناء» على المدنيين «المسلمين» في مدينة رفح المتاخمة للحدود مع قطاع غزة الفلسطيني.

وأدانت الجماعة هجوما شنه مسلحو «ولاية سيناء» على شاحنات نقل تابعة لشركة العريش للأسمنت، التي يديرها الجيش المصري، وأسفر عن مقتل تسعة سائقين مدنيين. وسبق أن تبنت «جند الإسلام»، في أكتوبر 2013، تفجير مبنى المخابرات الحربية بمدينة رفح، والذي وقع في 11 سبتمبر من العام نفسه وأسفر وقتها عن مقتل 6 جنود وإصابة 17 آخرين، وفق حصيلة رسمية آنذاك.


تنظيمات متنوعة وأجندة واحدة

شهدت الساحة المصرية العديد من الجماعات الجهادية التي بدا أن كلا منها يقدم نفسه ليحل بديلا للآخر. ففي عام 2015، أعلن تنظيم «المرابطون» عن نفسه، ومنذ ذلك الحين لم يقم بأي هجمات مؤثرة، بل، أصدر العديد من التهديدات والكثير من البيانات. ويقود هذه الجماعة أبو عمر المهاجر، وهو ضابط سابق اسمه هشام عشماوي، وكان عضوا بارزا في جماعة أنصار بيت المقدس، وابتعد عنها لاعتناقه أفكار «القاعدة». وفي أكتوبر 2015، دعا عشماوي إلى قتل ضباط الجيش والانتقام لمقتل الفلسطينيين على يد قوات الأمن الإسرائيلية.

جدد عشماوي رسالته في مارس (آذار) عام 2016، حيث دعا رجال الدين إلى لعب دور نشط في تشجيع الشباب على الجهاد. ومنذ إعلان هذه الجماعة عن نفسها، في عام 2015 لم تشن أي هجمات مؤثرة. ويشمل هذا التنظيم مجموعة من المتشددين، تتبع تنظيم القاعدة، كانوا ضمن جماعة أنصار بيت المقدس، قبل أن تنفصل عنها عقب مبايعة تنظيم داعش، ويقدر عددها بالعشرات.

وحسب تقارير أمنية، حاول هذا التنظيم اغتيال اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية المصري السابق في سبتمبر 2013، والضلوع في اغتيال هشام بركات، النائب العام السابق في يونيو (حزيران) 2015، كما تورط في هجوم الفرافرة، غرب القاهرة، في يوليو 2014. وعلى جانب آخر، ظهرت جماعة أخرى أطلقت على نفسها «أنصار الإسلام»، وذلك في نوفمبر 2017، عندما أعلنت مسؤوليتها عن هجوم على قوات الأمن في الواحات بالصحراء الغربية بمصر. ووصفت الجماعة الهجوم الذي أسفر عن مقتل عدد كبير من رجال الأمن بأنه «بداية الجهاد». وقد رحب أنصار «القاعدة» على نطاق واسع بإعلان هذه الجماعة.

وهناك أيضا تنظيم أجناد مصر، الذي ظهر في يناير (كانون الثاني) 2014، ونفذ هجمات في القاهرة. ويشير مراقبون إلى أنه يعتنق أفكار تنظيم القاعدة، كما أنه نسق بعض عملياته الإرهابية مع أنصار بيت المقدس، قبل انضمام الأخيرة لتنظيم الدولة. هذا فيما ظهرت حركة سواعد مصر (حسم) في عام 2016، وتركزت عملياتها على مهاجمة الشخصيات الحكومية والأمنية في القاهرة وغيرها من أنحاء مصر. وترتبط أغلب عناصر «حسم» بجماعة الإخوان المحظورة، التي لجأت للعنف بعد ثورة 30 يونيو 2013.





جهود مصر لمكافحة الإرهاب

تسعى مصر عبر أدوات عديدة للتعاطي جديا مع تحدي تنامي عمليات الجماعات الجهادية، غير أنها تواجه ميراثا ثقيلا، جراء إهمال عمليات التنمية في سيناء، وترك شبابها «فريسة» سهلة للجماعات الراديكالية، بما أفضى إلى تشكل حواضن شعبية، دعمت العديد من التنظيمات المتطرفة، ووفرت الدعم والحماية لها، كونها وجدت أبناءها ينخرطون في صفوف هذه الجماعات. كما تعاني مصر في هذا الإطار أيضا من إشكاليات الحدود الرخوة، وانتشار تجارة السلاح عبر الإقليم، وتنامي قدرة الجماعات الجهادية على التحرك عبر الحدود الشرقية والغربية والجنوبية.

ويبدو أن الوضع الأمني في سيناء يواجه، على نحو خاص، تحديات متراكمة منذ عام 1982، حيث الانسحاب الإسرائيلي من شمال سيناء، وما ترتب على ذلك من غياب مؤسسات الدولة عن هذه المنطقة، هذا بالتوازي مع تزايد البطالة وارتفاع معدلات الفقر بين مواطنيها، مما وفر بيئة خصبة لنشر الأفكار المتطرفة، خاصة أن معاهدة السلام مع إسرائيل قد حددت حجم وتسليح القوات المصرية في سيناء، وهو الأمر الذي شجع على تزايد حضور الجماعات الراديكالية في العديد من المناطق على الحدود الشمالية - الشرقية.
وفي هذا السياق، تحاول الدولة المصرية تبني استراتيجيات مركبة للتعامل مع هذه التحديات الموروثة، من خلال التركيز على أكثر من محور، بحيث يتم إيلاء البعد التنموي أهمية قصوى بالتوازي مع العمليات العسكرية والأمنية التي تستهدف القضاء على البؤر التي تتركز فيها الجماعات والعناصر الإرهابية. وفيما يخص البعد الأمني، فقد عملت مصر على مجابهة التهديدات القادمة عبر الأنفاق على الحدود مع قطاع غزة، والتي تمثل أحد أسباب انتشار السلاح والجماعات الإرهابية في سيناء، لما توفره من قدرة على التحرك خارج الحدود المصرية، وتمرير السلاح من وإلى سيناء.

وفيما يخص المحور التنموي، تعمل الدولة المصرية – حسب تقديرات - على تحقيق التنمية الاقتصادية في العديد من المناطق في سيناء، لما لها من أهمية اقتصادية، وانطلاقا من محركات أمنية، ويأتي في هذا الإطار مشروع محور تنمية قناة السويس، ولا تنفصل عن ذلك أيضا، حسب تقارير إعلامية مصرية، الاستراتيجية التي أعلن عنها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في 7 مارس 2017، والتي تركز على خطة بناء مجتمع عمراني متكامل في سيناء بحد أقصى عام ونصف العام، وتم تخصيص نحو 10 مليارات جنيه لتطوير سيناء، ويشمل ذلك إنشاء شبكة طرق وأنفاق وكباري بطول 1500 كيلومتر، وتطوير المحاور الرئيسية، وبناء مطارين آخرين في سيناء، وإنشاء تجمعات بدوية يحوى كل تجمع منها 150 بيتا بدويا و500 فدان زراعي.

إلى جانب ذلك، تعمل الدولة على تعزيز دور القبائل في المواجهة الأمنية مع التنظيمات الإرهابية، وينطلق ذلك من قناعة أن هذا الدور قد يمثل أهمية كبرى في تحقيق الأمن في سيناء، من خلال التعاون مع الأجهزة الأمنية، في مواجهة التنظيمات والجماعات المتطرفة، وقد اتضحت أهمية هذا الدور عقب تفجيرات طابا في عام 2004، وما تلاها من عمليات في نويبع، ودهب، وشرم الشيخ، مما أسهم في الوصول إلى الجناة، والتضييق على التنظيمات الإرهابية.

وعلى الرغم من أهمية الجهود التي تبذلها الدولة المصرية، فإنه لا تزال ثمة حاجة إلى إعادة النظر في الاستراتيجيات الأمنية، بما يشمله ذلك من عمليات تدريب وتأهيل وتسليح فرق قتالية متخصصة في مواجهة الجماعات الإرهابية، كما يتطلب ذلك الانتقال من تكتيكات رد الفعل إلى استراتيجيات المبادرة، عبر الضربات الاستباقية، والعمليات الوقائية التي تستهدف هذه الجماعات وتحاصرها حتى تقضي عليها، بحيث لا يُترك لها مساحة للتحرك أو استهداف الدولة ومواطنيها ومنشآتها. وثمة حاجة أيضا إلى إعادة المكانة والاعتبار لاستراتيجيات «الأمن الفكري»، من خلال دعم ومساندة أدوار الأزهر في مواجهة انتشار الأفكار المتطرفة، ونشر قيم الاعتدال، ومواجهة الأفكار التي تبتعد عن الوسطية، وذلك من خلال السير في اتجاهين متوازيين، الأول: يرتكز على المقاومة الفكرية، والثاني: يرتبط بالوقاية الفكرية.

وفي كل الأحوال، لا يجب مطلقًا الاستهانة بجريمة مسجد الروضة. فالتجارب في العراق تحديدًا تشير إلى أن هذه التنظيمات تبدأ تنفيذ مخططاتها بنشر الفوضى والفتن باستهداف المساجد والكنائس، والوقيعة بين مكونات الشعب الواحد ونشر الشكوك بما ينسف إحدى ركائز الاستقرار والأمن المجتمعي، عبر التركيز على الإضرار بوحدة المجتمع والاصطفاف الوطني، وهو ما يجب أن يحظى بأطر مواجهة تركز على الأمن المجتمعي، وذلك بهدف تعزيز مناعة المجتمع، وتوفير السند والحماية للعمليات الأمنية التي تقوم بها الوحدات القتالية التي تستهدف مواجهة تنامي ظاهرة الجماعات الجهادية على الأراضي المصرية.
font change