تركيا بعد 65 عاماً في الناتو... هل حان وقت الرحيل؟

ارتدادات صفقة «S - 400»

تركيا بعد 65 عاماً في الناتو... هل حان وقت الرحيل؟

[caption id="attachment_55261526" align="aligncenter" width="1024"]الأمين العام لحلف شمال الأطلسي يينس ستولتنبرغ يتحدث خلال مؤتمر صحافي قبل اجتماع الشؤون الخارجية في مقر الناتو في بروكسل (غيتي) الأمين العام لحلف شمال الأطلسي يينس ستولتنبرغ يتحدث خلال مؤتمر صحافي قبل اجتماع الشؤون الخارجية في مقر الناتو في بروكسل (غيتي)[/caption]

أنقرة - محمد عبد القادر خليل*

• باتت أنقرة أقل احتياجاً للقدرات العسكرية للناتو، في ظل التوجه لتعزيز الإمكانيات القتالية الذاتية، وسد «الفجوة العسكرية».
• ظلت فكرة حصول تركيا على منظومة دفاع جوي متطورة دلالة على الرغبة في تعزيز القدرات الدفاعية، وتجاوز نقاط الخلل التي تعاني منها.
• التوترات التي شهدتها تركيا مع القوى الغربية، دفعت بتبني أنقرة اقتراباً مغايراً، ارتباطاً بتوجيه أنقرة اتهامات لدول الناتو بالتورط في محاولة الانقلاب.
• تهدف تركيا إلى تصنيع منظومتها للدفاع الصاروخي بحلول عام 2025.
• لا يمكن لتركيا أن تؤمن علاقاتها السياسية والعسكرية مع دول منظمة شنغهاي دون اتخاذ مقاربات لا تنسجم مع سياسات حلف الناتو.
• ثمة اتجاه يتشكك في مستقبل عضوية تركيا في حلف الناتو، ومن ضمن هؤلاء ضباط كبار سابقون في الجيش التركي.
• سبق للرئيس التركي ذاته، خلال قمة الناتو في وارسو، أن دعا الحلف إلى تعزيز حضوره في البحر الأسود، كي لا يتحول إلى «بحيرة روسية».
• التصرفات المعاكسة التي تتبناها تركيا تمثل «كابوساً» للناتو لم يكن متصوراً حدوثه.
• تركيا، باتت لا تُعنى كثيراً بنمط مواقف الناتو، سواء حيالها أو إزاء المناطق المجاورة لها، وذلك على النحو الذي يشكل تحدياً أمنياً غير مسبوق لدول الحلف.




أتمت تركيا تعاقدها على منظومة الدفاع الجوي «S - 400»، وأعلن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في 12 سبتمبر (أيلول) 2017، التوصل مع الجانب الروسي لاتفاق نهائي بشأن حصول بلاده على نظام صواريخ أرض - جو، وذلك في تطور حمل إشارات واضحة على مدى التحولات الإيجابية التي غدت تشهدها علاقات القيادات التركية مع نظيرتها الروسية، بالمقارنة مع حالة الجفاء والتوتر التي باتت تكسو العلاقات مع «شركاء الأطلسي»، بما غدا يطرح تساؤلات ملحة بشأن مستقبل عضوية تركيا في حلف الناتو، والتي تعود إلى عام 1952، وذلك في ظل تعدد قضايا الافتراق وتباين السياسات، وتصاعد مظاهر ما يعرف في الأدبيات التركية باستراتيجية «التوجه شرقاً».
ذلك أن القرار التركي بشراء المنطومة الروسية تم تسويقه محلياً، بحسبانه يجسد «الكرامة الوطنية». فقد قال إردوغان في هذا الشأن «لا أحد يملك الحق في مناقشة مبادئ استقلال الجمهورية التركية، أو قرارات مستقلة حول تعاقداتها أو صناعتها الدفاعية، فنحن نتخذ القرارات المتعلقة باستقلالنا بأنفسنا». وأضاف: «إننا مضطرون لاتخاذ إجراءات أمنية من أجل الدفاع عن بلادنا».
ويبدو من الإجراء التركي والتصريحات المصاحبة أن أنقرة باتت أقل احتياجا واعتمادا على القدرات العسكرية للناتو، وذلك في ظل التوجه لتعزيز الإمكانيات القتالية الذاتية، وسد «الفجوة العسكرية» التي جعلت تركيا في احتياج دائم إلى دعم دول الحلف في مواجهة التحديات والتهديدات الطارئة، على النحو الذي اتضح بعد أزمة إسقاط الطائرة التركية من قبل القوات السورية في مارس (آذار) 2015، وفى أعقاب إسقاط تركيا لطائرة «SU - 24» الروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وما صاحب ذلك من سجالات بين تركيا ودول الناتو، إثر إقدام كل من ألمانيا وواشنطن على سحب بطاريات صواريخ الباتريوت من الأراضي التركية، وذلك في وقت شهدت فيه العلاقات التركية – الروسية توترات غير مسبوقة.


محركات تركية مثيرة لقلق الغرب




يبدو أن تحركات تركيا المثيرة لقلق الكثير من القوى الغربية لا تأتي انطلاقاً من محددات أمنية وعسكرية بحتة، وإنما ترتبط كذلك بتوجهات سياسية واضحة لدى القيادة التركية، والتي سبق لها أن طلبت الانضمام إلى منظمة «شنغهاي للتعاون». ففي عام 2013 أقدم الرئيس التركي، في خطوة غير مسبوقة على توجيه حديث علني إلى نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، قائلاً: «أخرجنا من هذه المعادلة - أي محاولة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى - نرغب في إنجاز اتفاق حول التجارة الحرة مع الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي. لقد تحدثت معك من قبل في هذا الشأن، فنحن لا نزال نرغب في ذلك». وقد أعاد التأكيد على محورية هذا التوجه في نوفمبر 2016، وذلك في أثناء عودته من كازاخستان.
ويأتي الاتفاق التركي - الروسي بشأن «صفقة» منظومة الدفاع الجوي الروسية، في وقت تتمدد فيه مساحات التوتر التركي مع القوى الغربية، بسبب الكثير من القضايا المتداخلة، والتي ترتبط بتصاعد الانتقادات الأوروبية لملف تركيا في مجال حقوق الإنسان، وبسبب تباين نمط التوجهات والسياسات على مسرح عمليات الشرق الأوسط، وتزايد مؤشرات التقارب الروسي - التركي - الإيراني، هذا بالإضافة إلى توتر العلاقات التركية مع أكثر من بلد أوروبى جراء اعتقال عدد من المواطنين الأوروبيين في تركيا بدعوى التورط في دعم جماعات إرهابية، ناهيك بتصاعد المشاعر المعادية لتركيا بفعل السجالات المتبادلة بشأن قضايا الجماعات الإرهابية وتعريفها وأدوار الطرفين حيال مواجهتها، وأيضاً بسبب تزايد حضور تيارات اليمين المتطرف على الساحات الأوروبية، وتسابق القوى السياسية الغربية لإعلان رفض انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي، على النحو الذي شهدته الانتخابات الألمانية أخيرا، وأفضى إلى إعلان المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، أن تركيا لن تنال العضوية الأوروبية.

[caption id="attachment_55261530" align="aligncenter" width="1024"]طائرة تابعة لمنظمة حلف شمال الأطلنطى (الناتو) خلال انطلاقها من قاعدة جوية فى 8 سبتمبر 2017 فى قونية (غيتي) طائرة تابعة لمنظمة حلف شمال الأطلنطى (الناتو) خلال انطلاقها من قاعدة جوية فى 8 سبتمبر 2017 فى قونية (غيتي)[/caption]

كما يتداخل ذلك مع إقدام ألمانيا على تجميد أغلب الصفقات العسكرية مع تركيا، وذلك بعد اتخاذ خطوة غير مسبوقة تقضي بنقل قواتها العسكرية من قاعدة إنجرليك في ولاية أضنة جنوبي تركيا، إلى قاعدة الأزرق بالأردن، وقد سبق ذلك تلويح المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالين، بأحقية تركيا في اتخاذ قرار بغلق قاعدة إنجرليك الجوية، القائمة في جنوبي تركيا، بحسبان ذلك قراراً سيادياً. ويبدو أن تركيا قد أضحت تتبنى اقتراباً يقضي بتوثيق علاقاتها مع الجانب الروسي، الذي استطاع استغلال الصراع في سوريا للترويج لمعداته العسكرية، عبر تجربة أكثر من 60 سلاحاً جديداً، لم يسبق توظيفها في ساحات وميادين الحروب والصراعات السابقة.
ويرتبط ذلك، على جانب آخر، بتعدد اللقاءات السياسية والزيارات عالية المستوى بين القيادات السياسية، التي يبدو أنها تتحرك إقليميا وتتفاعل حيال القضايا الثنائية بانسجام قيادي وتوافق سياسي، غير مسبوق، هذا في وقت تبتعد فيه أنقرة عن الانخراط في استراتيجيات الناتو حيال شرق المتوسط، أو الشرق الأوسط، أو البحر الأسود، أو منطقة البلقان، كونها غدت تتبنى مقاربات أكثر استقلالية، وأقرب إلى الموقف الحيادي فيما يخص قضايا شبه جزيرة القرم، والصراع في أوكرانيا.
يتحقق ذلك بينما يشتد التوتر التركي - الأميركى، بسبب استمرار دعم واشنطن للميليشيات الكردية على الساحة السورية، وبسبب قضية فتح الله كولن. وقد ترتب على ذلك أن أقدمت تركيا على إعلان عبر وكالتها الرسمية (الأناضول) التمركزات العسكرية الأميركية على الساحة السورية، بما أظهر حجم التوتر ومدى الهوة التي باتت تفصل بين مواقف وسياسات الجانبين، سيما في ظل التقارير التي غدت تشير إلى تراجع استخدامات دول حلف الناتو بقيادة واشنطن لقاعدة إنجرليك إلى ما يتجاوز 75 في المائة، بالمقارنة بفترات سابقة، سواء في العمليات القتالية، أو فيما يخص عمليات الإمداد والتموين للمقاتلات الغربية.


دلالات صفقة «S - 400»




ظلت فكرة حصول تركيا على منظومة دفاع جوي متطورة تمثل دلالة على الرغبة في تعزيز القدرات الدفاعية التركية، وتجاوز نقاط الخلل التي تعاني منها، ولذلك حاولت أنقرة منذ زهاء 10 سنوات خالية استقدام منظومة دفاع جوي متطورة، غير أنها لم تحصل على ما تبتغيه من حيث الشروط والالتزامات المتبادلة لدى الكثير من القوى العربية، سيما مع تصاعد أزمة الثقة الكامنة والمعلنة بين الجانبين بسبب الرؤى المتباينة حيال الكثير من القضايا سواء الثنائية، أو الإقليمية، أو الدولية. وحينما أقدمت الحكومة التركية على طرح مناقصة لشراء منظومة دفاع صاروخية، فقد أوضحت التقارير التركية أنها تلقت عروضاً فعلية من قبل شركة يوروسام الفرنسية الإيطالية لصاروخ «Aster 30»، وعرضا من شركة «CPMIEC» الصينية لشراء منظومة «HQ - 9 FD - 2000»، ومن شركة روس أبورون إكسبورت الروسية لمنظومة «S - 400»، ومن شركة رايثيون الأميركية لأنظمة «PAC - 3».

وقد بدأت تركيا مفاوضات في عام 2013 لشراء منظومة «HQ - 9» الصينية بقيمة 3.4 مليار دولار، غير أنها ألغيت في يونيو (حزيران) 2015، قبيل اجتماع مجموعة العشرين G20 في أنقرة، وذلك بسبب الضغوط الغربية، وقد ادعت الحكومة التركية، وقتذاك، أن سبب إلغاء الصفقة يرتبط بكونها تفتقر إلى مميزات الأنظمة المضادة للصواريخ الباليستية، كما أن العقد المقدم من قبل الشركة الصينية لم يتضمن التزاماً بنقل التكنولوجيا إلى الجانب التركي. وقد بدا واضحاً أن جوهر التحول التركي حيال المنظومة الصينية ارتبط بطبيعة التهديدات التي واجهتها تركيا في هذا التوقيت واستدعت الحفاظ على مستوى منضبط من العلاقات مع الدول الغربية، خصوصاً بعد إقدام الأخيرة على تلبية الطلب التركي بشأن نشر أنظمة باتريوت على الحدود التركية - السورية بين عام 2014 وعام 2016.

بيد أن التوترات التي شهدتها تركيا مع القوى الغربية بعد محاولة الانقلاب في يوليو (تموز) 2016، دفعت بتبنى أنقرة اقتراباً مغايراً، ارتباطاً بتوجيه الحكومة التركية اتهامات صريحة لدول حلف الناتو بالتورط في محاولة الانقلاب، وذلك عبر غض الطرف عن التعاطي بجدية مع مسائل تخص الأمن التركي قبل محاولة الانقلاب، وعدم الاستجابة لمطالب الحكومة التركية بشأن تسليم بعض العناصر التي تورطت في محاولة الانقلاب. وتشير تقديرات في هذا الإطار إلى أن ثمة اعتقاداً سائداً لدى تركيا بشأن دعم الناتو محاولة الانقلاب بسبب الدور الفعال الذي لعبته وحدات عسكرية تشكل جزءاً من فيلق الانتشار السريع التركي في الحلف. ويدعم المزاعم حول تورط الناتو في محاولة الانقلاب أن معظم الذين قادوا الانقلاب أو على الأقل أداروه من مقر قيادة القوات في أنقرة، تم رصد بعض مشاهد منها ما يثبت علاقتهم القوية مع الناتو.

وقد أشار متين غورجان في موقع «المونيتور» إلى أن بعض وسائل الإعلام التركية لا سيما المؤيدة لحزب العدالة والتنمية قد اضطلعت بأدوار رئيسية للترويج لمثل هذه الأفكار، وأنه لا يمر يوم دون عناوين تروج لأن محاولة الانقلاب التي قام بها أتباع حركة الخدمة كانت بعلم حلف الناتو. وبحسب تقرير صادر في يوليو 2015 عن صندوق مارشال الألماني التابع للولايات المتحدة في أنقرة، بشأن رؤية الشعب التركي لحلف الناتو، فإن المؤسسات الدولية الثلاث الأكثر ثقة لدى الأتراك في ذلك الوقت هي المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (44 في المائة)، ومنظمة التعاون الإسلامي (39 في المائة)، والاتحاد الأوروبي (39 في المائة). وقد رأى نحو 35 في المائة من المشاركين أن تركيا لم تعد في حاجة إلى عضوية الناتو، بينما لم يكن لدى 27 في المائة من المشاركين رأي في ذلك، وقال 30 في المائة إنهم يثقون بالحلف.
وحسب متين غورجان لا توجد استطلاعات للرأي حول نظرة الأتراك لحلف الناتو منذ يوليو 2016، لكن من المرجح، حال ما أجري استطلاع، أن تكون النتيجة أسوأ بكثير بالمقارنة بالمراحل السابقة. ونظراً لرؤية الأتراك السلبية للحلف، اتخذ الناتو خطوات عاجلة وعلنية دبلوماسية لرواية قصته. بيد أنه لا توجد حتى الآن أي استجابة جدية من تركيا. ويضيف: «يسأل البعض عما إذا كان الناتو سيتوقف عن دعم تركيا، أو أنه بدأ يشعر بالإرهاق من الأزمات المستمرة مع أنقرة».

ويبدو أن القيادة التركية تروج لفكرة مركزية تتعلق بأن سعي تركيا للابتعاد نسبيا عن الناتو، وتوثيق العلاقات مع روسيا يرتبط بالرغبة في تعزيز القدرات العسكرية في مواجهة القوى الغربية، وذلك عبر التأكيد على أن القوى الغربية لم توافق على نقل تكنولوجيا إنتاج الصواريخ لتركيا، بما دفع الأخيرة إلى عقد صفقة مع موسكو تتضمن ذلك. فقد قال المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالين، في 28 يوليو 2017: إن تركيا تشعر بخيبة أمل عميقة من مواقف الغرب والولايات المتحدة، على وجه الخصوص، حول صفقة الصواريخ الروسية، مضيفا أن الاتفاق مع روسيا يتضمن الإنتاج المشترك ونقل التكنولوجيا.
واقعياً، لا ينفصل ذلك عن التوجه التركي للتصنيع العسكري، والذي بات محركاً أساسياً في المقاربات الأمنية والعسكرية التركية، التي أفضت إلى تصدير معدات عسكرية تقدر بنحو مليار وستمائة مليون دولار للكثير من الدول، يأتي على رأسها دول غربية. وقد حققت أنقرة بالفعل بعض التقدم في نظام الدفاع الجوي متوسط المدى من نوع «Hisser O» الذي تنتجه شركة روكيتسان المملوكة للدولة. وتهدف تركيا إلى تطوير هذا النموذج وتصنيع منظومتها للدفاع الصاروخي بحلول عام 2025. ومن المعروف أن روكيتسان تتعاون مع يوروسام الأوروبية في هذا المشروع.

[caption id="attachment_55261531" align="aligncenter" width="594"]حفل استقبال لرؤساء الأركان العامة للدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي عقد في 16-17 سبتمبر الحالي في تيرانا (ألبانيا )- (غيتي) حفل استقبال لرؤساء الأركان العامة للدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي عقد في 16-17 سبتمبر الحالي في تيرانا (ألبانيا )- (غيتي)[/caption]

وبعد إعلان الرئيس إردوغان عن اختيار نظام «S - 400»، أبدت وسائل الإعلام التركية اهتماما بالغا بهذه القضية. وفي غضون أربعة أيام، وحسب اتجاهات صحافية، نشرت وسائل الإعلام التركية 36 تقريرا إخباريا و12 تعليقا على منظومة «S - 400». وقد عسكت الكثير من التقارير والتصريحات والتعليقات الرسمية والصحافية والشعبية تزايد أنماط المشاعر المعادية للغرب، عموما، وحلف الناتو خصوصاً في تركيا.
وفي هذا الإطار، قال أسلي ايدينتاسباس - Asli Aydintasbas، زميل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن رغبة تركيا في تعزيز صناعتها الدفاعية، باتت أحد محددات الاندفاع بعيداً عن الغرب، سيما في ظل تعنت الغرب في بيع الأسلحة وتصدير التكنولوجيا العسكرية إلى الجانب التركي. فقد جاء الإعلان عن صفقة صواريخ «S - 400»، في أعقاب قيام ألمانيا بتعليق صادرات الأسلحة الرئيسية إلى تركيا، وبعد رفض واشنطن تلبية الكثير من طلبات شراء لطائرات من دون طيار لملاحقة الميليشيا الكردية، هذا في وقت تتزايد فيه مظاهر تفضيل إردوغان للنموذج الروسي، مع تنامي إحساسه بـ«استعادة الإمبراطورية المفقودة»، وعودة تركيا إلى مكان أكثر استقلالا في العالم، ورفض «الديمقراطية الغربية».


محركات موسكو وعلاقة أنقرة مع الناتو




قد تتجسد مؤشرات توجه أنقرة تدريجياً، بعيداً نسبياً عن أطر التنسيق، وآليات التوافق داخل دول الناتو، في الصفقة التركية - الروسية بشأن منظومة الصواريخ، والتي تأتي من جانب، مع دولة يتخذ الحلف حيالها مقاربات صراعية على أكثر من مسرح عمليات، سواء في البلقان، أو البحر الأسود، أو الشرق الأوسط، كما تجسد الصفقة ذاتها، على جانب آخر، توجه القيادة التركية لإعادة هيكلة القوات العسكرية بعيدا عن منظومة الناتو، وذلك في ظل توجه لا ينفصل عن عملية إبعاد وتغيير الأطقم والقيادات العسكرية التي تمثل تركيا لدى الحلف، لتتشكل دلالة رمزية على حسم «الصراع الداخلي» في الجيش بين القوى الداعية للحفاظ على الروابط التقليدية مع القوى الغربية، والاتجاهات التي تتبنى مقاربة بناء جسور لعلاقات عسكرية مغايرة مع القوى الأورو - آسيوية، عبر أطر وآليات، من ضمنها الانضمام إلى «منظمة شنغهاي للتعاون».
وحسب الكثير من التقديرات الروسية، فلا يمكن لتركيا أن تؤمن علاقاتها السياسية والعسكرية مع بقية دول منظمة شنغهاي من دون اتخاذ مقاربات لا تنسجم مع سياسات حلف الناتو، كون «شنغهاي» تمثل نظاماً أمنياً بديلاً، في مواجهة التهديدات المشتركة، ويتضمن ذلك توثيق التعاون الأمني والعسكري بين دول المنظمة. وفي هذا الإطار أشار رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي، فلاديمير جيرينوفسكي، إلى أن إردوغان طلب منه شخصياً دعم جهود تركيا للانضمام إلى منظمة شنغهاي، مؤكداً أن ثمة احتمالا لمغادرة تركيا لحلف الناتو. ويبدو أن إدراك بعض البلدان الأوروبية لنمط المواقف التركية دفع إلى تبني توجه يقضي بالعمل على منع انعقاد قمة الناتو المقبلة في تركيا.

وقد يمثل ذلك نجاحاً نسبياً لاستراتيجية روسيا، والتي غدت تعتبر أن تطور العلاقات مع تركيا من شأنه أن يُبعد أنقرة عن الناتو، وكذلك مخططاته حيال مناطق الجوار الروسي، كما أن الصفقة الروسية - التركية الأخيرة قد تمثل مقدمة لمزيد من الصفقات العسكرية، وذلك على نحو تأمل موسكو منه ارتباط تركيا بمصالح روسيا الاستراتيجية، خصوصاً أن ذلك قد يترتب عليه تقليص منسوب التعاون العسكري بين أنقرة ودول الناتو، في ظل سيادة التخوف من تسريب معلومات عسكرية حيوية إلى الجانب الروسي. وفي هذا الإطار، يقول فلاديمير كوزين Vladimir Kozhin، مساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، «إن جميع القرارات التي اتخذت فيما يخص العقد مع تركيا تمثل امتثالاً صارماً لمصالحنا الاستراتيجية، وفي هذا الصدد، فإن رد فعل بعض الدول الغربية ومحاولة الضغط على تركيا مفهومة تماماً لنا».
وفي مقابل ذلك، فقد أبدى نائب رئيس الوزراء التركي، ويسي قايناق، امتعاضه من عدم دعم حلف الناتو لتركيا، وعدم استخدام قاعدة إنجرليك التركية لما يحقق مصالح الجانبين، ليصبح وجودهم في القاعدة التركية محل تساؤل من الجميع داخل تركيا، مشيراً إلى أن هذه القضية وُضعت على جدول الحكومة التركية. هذا في الوقت الذي قال فيه أونلوهيسارسيكلي Ozgur Unluhisarcikli، مدير مكتب صندوق مارشال الألماني في أنقرة، إن «روسيا اكتشفت إمكانية التأثير في السياسة الخارجية التركية عبر دعم الصناعة العسكرية التركية... وإذا كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي غير راغبين في فعل الشيء نفسه، فإن تركيا قد تشعر في الواقع بأنها مضطرة للابتعاد عن المدار الغربي والاقتراب من روسيا، التي تمتلك بدورها استراتيجية واضحة تتمثل في دعم تركيا لتبني توجهات مستقلة حيال السياسات الغربية». وتتشارك روسيا الكثير من المشاريع الضخمة مع تركيا، منها خطط بشأن إنشاء مفاعلات نووية في تركيا، وإحياء المشروع المشترك بشأن خطوط أنابيب الغاز الطبيعي فيما يعرف بـ«خط السيل التركي».


وكانت أنقرة قد أقدمت منذ أوائل التسعينات على شراء معدات عسكرية من روسيا، كطائرات هليكوبتر وناقلات جنود مدرعة، غير أن تطور العلاقات في هذا الإطار اصطدم بتداعيات حرب روسيا عام 1994 في الشيشان. بيد أن نجاح موسكو في توقيع صفقة الصواريخ «S - 400» مع تركيا، التي تفتقد بدورها الخبرات البشرية والكوادر البشرية المؤهلة للتعامل مع مثل هذه المنظومات، قد يفتح الباب واسعاً للجانب الروسي لإرسال مدربين وكوادر ومستشارين عسكريين إلى تركيا، وهو الأمر الذي قد ينقل، حسب تقديرات غربية، مركز النفوذ العسكري تدريجياً من حلف الناتو إلى الجانب الروسي، الذي يعتبر بدوره أن هذه الصفقة تخدم مصالحه الاستراتيجية، ليس وحسب على الصعيد الثنائي مع أنقرة، وإنما أيضاً على الصعيد الدولي، فيما يخص مواجهة تحركات الناتو في مناطق الجوار الروسي.
وفي مقابل ذلك، فقد حذرت بعض الأصوات التركية من امتلاك منظومة «S - 400»، بسبب تحفظات تقنية وسياسية. فقد رأى دنيز زيريك، محلل الشؤون الدفاعية بصحيفة «حرييت»، أن اختيار تركيا لـ«S - 400»، يمثل خطوة محفوفة بالمخاطر من شأنها أن تقوض استراتيجية «الدفاع الجماعي» التي وضعها الناتو في ميثاقه، وأنها قد تزيد الاعتماد على روسيا. وقال محلل الشؤون الدفاعية: ثمة مخاطر قد تواجهها الصناعات الوطنية العسكرية، بسبب الاعتماد على التكنولوجيا الروسية. أما الخبير هاكان كيليتش الذي يعارض شراء تركيا لنظام «S - 400»، فقد تشكك في توجه روسيا حيال تركيا، معتبراً أنها تستهدف بالأساس إبعاد تركيا عن الناتو من دون ضمانات قاطعة بأنها ستمد تركيا بتكنولوجيا الرادارات المتقدمة والبرمجيات ونظم التوجيه، وذلك على الرغم من إنفاق تركيا مليارات الدولارات لشراء النظام الصاروخي.

ويعتقد هاس وبارابانوف أن روسيا تعتبر أن صواريخ «S - 400» يمكن أن تؤدي إلى تصدع الناتو باعتباره «عدوها الجيوسياسي الأول»، مضيفاً: «قد يكون الانفصال المحتمل في العلاقات بين الناتو وتركيا أكبر مكسب استراتيجي لموسكو في القرن الحادي والعشرين، سيما أن إظهار قدرة موسكو على بيع مثل هذه الأنظمة لبلد عضو في الناتو من شأنه أن يعزز من مكانتها في سوق الأسلحة العالمية». ويرى بارابانوف أن روسيا لن تنقل بالفعل تكنولوجيا الدفاع الجوى إلى تركيا. وقال: «حجم الطلب التركي صغير للغاية. ويحتاج استيراد التكنولوجيا إلى اتفاق طويل الأجل، وهو أمر ليس واضحا في الاتفاق الحالي، وهو ما يفهمه الجانب التركي جيدا».


واشنطن وتحركات أنقرة إزاء موسكو




يبدو أن نمط العلاقات الأميركية – التركية غدت محدداً رئيسياً لطبيعة علاقة أنقرة مع حلف الناتو من ناحية، ونمط روابطها مع موسكو من ناحية أخرى، فقد جاء إعلان الرئيس التركي بشأن صفقة الصواريخ الروسية على خلفية قضيتين أعلنتا أخيرا في الولايات المتحدة: واحدة منها ضد حراسه الرئاسيين، الذين اتهموا بالاعتداء على المتظاهرين خلال زيارة إردوغان إلى واشنطن. والأخرى ضد مجموعة من الأتراك، بمن فيهم وزير مالية سابق، متهم بخرق عقوبات الولايات المتحدة ضد إيران. وقد انتقد إردوغان كلتا الحالتين. وقال: «إن الولايات المتحدة لم تساعد تركيا في الحصول على نظام الدفاع الصاروخي الذي تحتاج إليه. ولهذا السبب كان على تركيا أن تبحث عن بدائل، ووقعت اتفاقا عسكريا مع روسيا لهذا السبب».
هذا على الرغم من تحذير واشنطن من الصفقة الروسية - التركية، حيث قال، بن كاردان، كبير الديمقراطيين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، إن الصفقة قد تنتهك العقوبات الأميركية ضد روسيا. فيما قال مارك بييرينى Marc Pierini، الدبلوماسي في الاتحاد الأوروبي سابقاً، والمحلل في مركز كارنيغي: إن «نظام الدفاع الصاروخي الذي ستستضيفه القوات الجوية التركية لا يمتلك سلاح الجو التركي خبرة في استخدامه».
وعلى الرغم من التصريحات الأميركية بخصوص عدم توافق منظومة الصواريخ الروسية مع الأنظمة الدفاعية لحلف الناتو، فإن ماهر أونال، المتحدث باسم حزب «العدالة والتنمية»، أعرب عن انزعاج بلاده من اعتبار شرائها لمنظومة صواريخ «S - 400» الروسية، يمثل تهديداً لحلف الناتو. وقد جاء ذلك في كلمة له خلال مشاركته في ندوة حول العلاقات التركية - الروسية، في موسكو. وفي رده على سؤال حول صفقة شراء بلاده المنظومة الصاروخية، قال أونال، الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس الحزب، «نحن منزعجون من اعتبار أن عملية الشراء تشكل تهديداً لحلف الناتو». وتابع: «هذا القرار اتخذته تركيا بشكل مستقل، وكان بإمكاننا شراء منظومة الدفاع الجوي من فرنسا، أو ألمانيا، أو الصين، إلا أننا بعد تقييم المفاوضات، قررنا شراءها من روسيا، لأننا حققنا الصفقة الأنسب معها».

وفي هذا السياق، ثمة اتجاه يتشكك في مستقبل عضوية تركيا في حلف الناتو، ومن ضمن هؤلاء ضباط كبار سابقون في الجيش التركي، على غرار الأميرال المتقاعد جيم غوردنيز، والذي أشار إلى أن الحلف دعم محاولة الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية، وأن نجاح هذه المحاولة كان من شأنه أن «يفضي إلى إعلان استقلال كردستان، والحكم الذاتي للأكراد في جنوبي شرق الأناضول، وخسارة قبرص». ولفت غوردنيز إلى أنه على تركيا أن «تؤدي دوراً يسهم في تحقيق التوازن بين الأطلسي وأوراسيا»، معتبراً أنه من الواضح تماماً أن الناتو لم يعد يخدم مصالح تركيا. وسأل إذا ما كانت أنظمة الرادار المتطورة، التابعة لحلف الناتو في كورجيك في شرقي تركيا، التي تم نشرها بموجب برنامج الدفاع الصاروخي الباليستي، تخدم مصالح تركيا. وتساءل غوردنيز أيضاً عن أسباب حرص الناتو على إجراء تدريبات عسكرية في البحر الأسود وممارسته ضغوطاً على تركيا من أجل أن يكون له وجود دائم هناك، مشيراً إلى أنه حتى خلال الحرب الباردة لم يفعل الناتو ذلك.
وقد يعكس نمط وطبيعة هذه التصريحات حجم التحول الذي شهدته المواقف التركية، ذلك أنه سبق للرئيس التركي ذاته، خلال قمة الناتو في وارسو، أن دعا حلف الناتو إلى تعزيز حضوره في البحر الأسود، كي لا يتحول إلى «بحيرة روسية».


حلف الناتو ومسارات العلاقة مع تركيا




إن الموقف الأميركي بدا متحفظاً حيال التوجهات التركية، على النحو الذي دفع المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، هيذر نويرت، إلى محض التأكيد على أهمية أن تتوافق النظم التسليحية للدول الأعضاء في الناتو مع أنظمة الحلف، وعلى الرغم من ذلك، تدرك واشنطن وبقية دول الحلف تداعيات التوجهات التركية، إن اكتملت بالانضمام لمنظمة شنغهاي أو تعددت الصفقات العسكرية مع الجانب الروسي، ذلك أن الأدوار الأميركية هي رئيسية في تأسيس الناتو بعد الحرب العالمية الثانية.
ويبدو واضحا أن ميثاق الحلف لم يضع سيناريوهات تتعلق باتجاه أحد الأعضاء لتوثيق العلاقات وبناء تحالفات مع دولة يقوم الناتو ذاته على مواجهة سياساتها. وحسب تصريحات أخيرة لثيودور أخيلس Theodore Achilles، والذي اضطلع بدور رائد في صياغة ميثاق الحلف الذي هدف إلى ردع الاتحاد السوفياتي من الانخراط في هجوم مسلح على أوروبا الغربية - فإن التصرفات المعاكسة التي تتبناها تركيا تمثل «كابوساً» لم يكن متصوراً حدوثه، سيما أن ذلك يترافق مع توجه لتبني قيم غير التي تسود لدى دول الناتو، فيما يخص الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي هذا الإطار، تشير الكثير من الاتجاهات الصحافية والكتابات الأكاديمية إلى أن تركيا باتت عضواً غير متجانس داخل الناتو، على النحو الذي يستجلب اتخاذ موقف حاسم من عضويتها المثيرة للمشكلات داخل الحلف. ويشير ستانيل وييز، في موقع «the world post»، إلى أنه على دول الناتو أن لا تذهب للدفاع عن تركيا، بل ينبغي أن تبدأ فوراً في التحقيق الجاد واتخاذ موقف نهائي من الانتهاكات التي شكلتها سياسات تركيا لمبادئ الحلف، سيما فيما يخص دعم الجماعات الإرهابية، والتي تستدعي من الهيئة العليا في الحلف، ومجلس شمال الأطلسي أن «تطيح بتركيا خارج الناتو» باعتبار ذلك عملا طال انتظاره، وتأسيسا على أن الرئيس التركي غدا «زعيماً مستبداً» أمضى سنوات حكمه في تغيير هوية دولته والابتعاد عن القيم الديمقراطية.

ويستدعي ستانيلي في هذا الإطار مقولة كارولين غليك، الخبيرة في مركز السياسة الأمنية، من خلال الإشارة إلى أن إردوغان يمثل «مزيجاً من الاستبداد البوتيني والثيوقراطية الإيرانية». وقد أشارت غليك إلى أن إردوغان «في إحدى المناسبات ذهب إلى حد الإشادة بالصلاحيات التنفيذية التي منحت لأدولف هتلر». ولا ينفصل ذلك عن بعض التقارير الغربية التي تكشف عن تزايد نطاق القلق داخل أروقة الناتو من تراجع القدرات القتالية للجيش التركي. وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة «فيلت آم زونتاج» الألمانية إلى أن هناك شكوكاً متزايدة داخل حلف الناتو حيال القدرات العسكرية لتركيا. وقالت الصحيفة، استنادا إلى دبلوماسيين في الناتو: «القدرات القيادية والإمكانيات التشغيلية للقوات المسلحة التركية ضعيفة، هذا ينطبق على وجه الخصوص، على البحرية وقوات الدفاع الجوي».

وذكرت الصحيفة، في تقريرها، أن فصل الكثير من الدبلوماسيين الأتراك من المركز الرئيسي للناتو في بروكسل تسبب في تراجع ملحوظ في قدرات تركيا القتالية، موضحة أن «الكثير من القيادات الجديدة الذين حلوا مكان زملائهم المفصولين من قبل الحكومة التركية أظهروا قصوراً جزئياً في اللغة الإنجليزية، كما تنقصهم المعرفة الأساسية بالناتو والقضايا الأمنية». وقد تنسجم هذه المقاربات مع تصريحات القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا، الجنرال الأميركي كورتيس سكاباروتي، والذي أشار إلى أن محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا خلفت تأثيرات كبيرة في الهياكل القيادية للحلف، قائلا: «تركيا سحبت منذ محاولة الانقلاب في 15 يوليو 2016 العشرات من العسكريين، بعضهم يمتلك خبرة كبيرة من المقار العسكرية للناتو».
وعلى الرغم مما تشير إليه المعطيات الحالية من اتساع نطاق التباينات بين تركيا و«شركاء الأطلسي»، فإن التحولات الأمنية التي يشهدها الشرق الأوسط، وتعاظم التهديدات التي تواجهها تركيا، والتخوف من أن يكون التحول الروسي يستهدف محض «ضرب» قدرات الناتو، وإبعاد تركيا عن حلفائها التقليديين - كل ذلك قد يمثل مدخلاً لتجميد مساحات التوتر ومحاولة تخفيض منسوب التباين.

وفي هذا السياق اعتبر السفير المتقاعد أونال أونسال، مندوب تركيا الدائم لدى الناتو سابقاً، أنه من الصعب على الحلف أن يدير ظهره لتركيا في خضم الاضطرابات التي يشهدها الشرق الأوسط ومنطقة البحر الأسود، وعلى ضوء تصاعد التوتر داخل الناتو بين الدول الأوروبية من جهة، والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، هذا إضافة إلى تخبُّط الاتحاد الأوروبي بعد «الهزيمة» التي لحقت به في استفتاء Preexist. وقال أونسال في تصريحات له لموقع «المونيتور»: «ربما لا تجري الأمور على ما يرام في تركيا، لكن من شأن خروجها من الناتو أن يتسبّب بتعقيدات أكبر، لا سيما إذا مالت أنقرة باتجاه روسيا». إلا أن أونسال، الذي أقر بأن ميثاق الناتو يتضمن شروطاً بشأن الديمقراطية في الدول الأعضاء، لفت إلى أن ذلك لم يمنع البرتغال من أن تصبح عضواً مؤسساً في الحلف في عام 1949، على الرغم من أنها كانت تخضع لحكم الرئيس السلطوي أنطونيو دو أوليفيرا سالازار.
وأضاف أونسال أن ما يُقال اليوم عن العضوية في الناتو، وارتباطها بالديمقراطية، وسيادة القانون في تركيا، لا يُقال إلا حفاظاً على الشكليات، مشيراً إلى أن طرد بلد ما من الحلف يقتضي التوصل إلى إجماع في مجلس شمال الأطلسي، وهو أمر صعب التحقيق في ظل الظروف الراهنة. بيد أن أونسال لم يُسقط احتمال أن إردوغان «قد يقرر في إحدى نوبات غضبه الكثيرة، سحب تركيا من الناتو»، ملمحاً إلى أن التداعيات لن تكون كارثية بالنسبة إلى تركيا، كما يبدو للوهلة الأولى. وأضاف: «الحفاظ على علاقات تركيا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة هو ما سيبقى أساسياً بالنسبة إلى أنقرة، بدلاً من روابطها مع الناتو، والجميع يعلم أن الولايات المتحدة مرادف للناتو».

ويبدو أن أونسال يُعبر عن تيار يعتبر أن تركيا، بسلوكياتها وتوجهات سياساتها خلال السنوات الأخيرة، باتت لا تُعنى كثيراً بنمط مواقف الناتو، سواء حيالها أو إزاء المناطق المجاورة لها، وذلك على النحو الذي غدا يشكل تحدياً أمنياً غير مسبوق لدول الحلف، والتي باتت تجري بدورها حسابات دقيقة بشأن ما يحمله وجود تركيا في الناتو من تهديدات، وما قد يمثله احتمال حلول وقت الرحيل التركي من تحديات للجانبين في الوقت نفسه.

* مدير برنامج تركيا والمشرق العربي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

font change