الأزبكية... أطلال حديقة وسوق وراقة!
كنتُ متحمساً، في زيارة القاهرة ليومين، في الشَّهر الماضي، أن أقضي أكثر ساعاتها بين أكشاك ومكتبات سوق الأزبكية، محملاً بما قرأتُ عن تاريخها، وما كتبه الأدباء والباحثون عن المعرض الدائم للكتب القديمة، وماذا حازوا منها، بين كتاب نادر وآخر ممنوع مِن التداول، إلى جانب المجلات القديمة، مع أسعار زهيدة، ولُقى ليست على البال.
لكن ما إن وصلتُ إلى بقايا السُّور لم أجد شيئاً مِن ذلك التَّاريخ، فالمكان تحول إلى بضائع أُخر، فملتُ على كشك يعرض بضاعة متنوعة ويخلط معها الكتب، فقلتُ ربما أخطأتُ المكان، وسألنا أكثر مِن صاحب دكان فقالوا: هذه هي الأزبكية! لكنكما تبحثان عن ماضٍ لم يبق منه سوى ما ترون.
سألنا عن سوق وراقة الأزبكية، الذي سارت بسمعته الركبان، وما زال يرن في آذاننا، وكأننا مِن أهل الكهف، ضجيج لا يتوقف، ومناداة على بضائع تبدأ بالحلوى والعلك وتنتهي بالأواني البلاستكية، وأرصفة حجزتها العربات بلا نظام، إلى جانب سور متهالك، قد تجد مجلات وكتباً أوراقها صفراء مِن شدة الشَّمس، لكن ليست هي الأزبكية، التي تأملنا رؤيتها، فعدم النِّظام والصراخ، وكثرة الباعة الجائلين، حلت محل عقب الذِّكرى.
تحت ضغط مَن ظل متعلقاً بالمكان، كسوق وراقة وثقافة، حُجز ركن من أركان معرض القاهرة للكتاب لوراقي الأزبكية، وكانت خطوة مع إيجابيتها، لكنها ساهمت بمحو أثرٍ مِن أرقى آثار القاهرة الثَّقافية، وهي مدينة على الرَّغم من أنها ربت على العشرين مليون نسمة، ويُعيق الأزدحام الحركة في أسواقها وطرقاتها، فإنها تبقى مدينة عُظمى بماضيها وحاضرها، بأدبها وثقافتها، لهذا يكون الحزن على وراقة سور الأزبكية مضاعفاً.
عندما يرد اسم الأزبكية يذهب الفكر إلى أزبكيتين، أزبكية دمشق وأزبكية القاهرة، والأصل الثَّانية، فالأولى حي من أحياء وسط دمشق، يقع على جانب شارع بغداد، الذي افتتح العام (1925)، والأصل كان اسماً لمقهى قديم، وحسب ما جاء في «الموسوعة العربية» أن عين ماء عذب كانت تتدفق مِن ذلك المكان، وظلت حتى جفافها في السبعينات مِن القرن الماضي. ذاع صيت أزبكية دمشق السَّنة (1981) بالتفجير الهائل الذي اتُهم في تدبيره وتنفيذه جماعة الإخوان المسلمين السورية، وقد غطى هذا الحدث على تاريخ المقهى والحيّ، فالبحث لا يعطي أكثر مما ارتبط بهذا الحدث الجسيم. وعلى العموم، يبقى الاسم مرتبطاً بأزبكية القاهرة، الذي يبدأ بعهد المماليك.
كان السلطان المملوكي أبو النصر سيف الدِّين قايتباي (ت 1496م)، صاحب القلعة المشهورة المطلة على البحر بالإسكندرية، سبباً ببداية الأزبكية وحديقتها وسورها ثم أسواق وراقتها، وذلك عندما أهدى أرضا خالية فيها بركة ماء، لأبرز قادة جيشه سيف الدِّين بن أزبك، فشيّد عليها رصيفاً للمشاة، ومتنزهاً حول البركة، ومسجداً وحمامات وأفراناً، وجعل لهذه المناسبة عيداً سنوياً، وما إن حلّ العام (1495م) إلا وغدت الأزبكية عامرة وسط القاهرة، ثم زاد عمرانها في العهد العثماني، وظلت منسوبة لاسمه على الرغم مِن تبدل الأزمان وتوالي الانقلابات والثَّورات.
قيل كان نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية إلى مصر (1798م)، يتردد عليها لتعلم الإسلام، واتخذ فيها داراً له، ومن ميدانها نودي بالوالي العثماني محمد علي باشا أميراً عليها، خارج سلطة العثمانيين، وذلك العام (1805م)، فجعلها محمد علي مركزاً للعاصمة المصرية القاهرة، ومقاماً للذوات من كبار الموظفين والأغنياء، وصارت مركزاً للتعليم لكثرة المدارس ووجود إدارة المعارف فيها. بعدها، وتأثراً بما شاهده الخديوي إسماعيل بباريس، أُعيد تخطيطها وإعمارها (1867م)، وبعد حريق القاهرة (1952م) بدأ الحي بالتغير، فقد نُقلت الدوائر التي دمرها الحريق من ميدان التحرير إليه.
غير أن ما يعنينا مِن هذا التَّاريخ، أنه كيف غدت الأزبكية سوقاً لبيع الكتب وتبادلها، وبالتالي أصبحت مَعلماً مِن معالم الثَّقافة، ومناراً لها، يُضيء المكان وإشعاعه إلى داخل مصر وخارجها؟! يذكر المهتمون بتاريخ المكان أن باعة الكتب الجائلين والطائفين على مقاهيها، أرهقهم الطواف ببضاعتهم، فاتخذوا من سور حديقة الأزبكية محط قدم، يعرضون الكتب على السّور، فتعرف الزبائن إليهم، وغدا السور سوقاً للوراقين، ولم تثنهم مطاردة الشُّرطة، كونهم شكلوا سوقاً غير قانونية، وسط القاهرة، وكانت الأخيرة آنذاك معروفة بتنظيمها ونظافتها وجمال طرقاتها، هذا ما تعكسه لنا الأفلام المصرية قبل الخمسينات، مِن القرن الماضي، وأثناءها. حتى حصلوا (1949م) بعد مطالبات على إفساح المجال، وبعد نحو عشرة أعوام أُقيمت لهم أكشاك لبيع الكتب، فتحول اسم الأزبكية مِن دار لقائد جيش ومكان لبركة وحديقة زاهية إلى سوق وراقة، يباع فيها الكتاب ويُشترى، حيث يعرض ورثة كبار الأدباء والكُتاب والمثقفين مكتبات ذويهم بأسعار رخيصة، ومكتبات مَن ضاقت بكتبهم دورهم، أو استغنوا عن الكتاب.
كانت عبارة أبو حيان التَّوحيدي (ت 414ه) في شأن رسائل إخوان الصفا: «وبثوها في الوراقين» (الإمتاع والمؤانسة)، حافزاً لكتابة هذه الكلمة، فالأزبكية كانت إحياء لدكاكين الوراقة ببغداد والقاهرة والأندلس وغيرها من الأمكنة ذات التاريخ الثَّقافي الثَّري، ألا تستحق وقف خرابها، وتجديد أطلالها كحديقة زاهية وسوق وراقة، فاسمٌ في ركن مِن أركان معرض الكتاب، لا يُفتتح إلا كل عام، لا يكفي الأزبكية كي تبقى حيَّةً. أخيراً، ومع الخذلان بما رأيت مِن أمر الأزبكية إلا أنني عثرت على كتاب «تاريخ العرب الحديث والمعاصر: انتقال العراق إلى المعاصرة»، طبع قبل ثمانية عشر عاماً.