[/caption]
* أين مكانة لبنان وقيمته في مخطط إيران الإقليمي الذي يتضمن العراق وسوريا ولبنان، ويمتد إلى اليمن .
واشنطن - حنين غدار*
عقب توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب سوريا بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن بأيام قليلة، حرَّك «حزب الله» قواته إلى جبال عرسال، على الحدود الشمالية بين لبنان وسوريا، وشن هجوماً على المسلحين الذين كانوا هناك منذ أعوام.
وفي غضون أقل من أسبوع، وافقت جبهة النصرة على إخلاء المدينة والانتقال إلى إدلب إلى جانب 9 آلاف مسلح وعائلاتهم. وفي حين أصدر «حزب الله» أمراً بتوقيت هذا الهجوم وسياقه، لا يمكن التعجب من دور الحكومة اللبنانية في هذه العملية، التي تشمل كلا من الحرب والصفقة التي تم التوصل إليها بين «حزب الله» وأبو مالك التلّي زعيم جبهة النصرة في عرسال.
ووفقاً لـ«واشنطن بوست»، التي شارك مراسلها في جولة نظمها «حزب الله» للصحافيين في جبال عرسال بعد التوصل إلى الاتفاق، لم يكن هناك ما يشير إلى الدولة اللبنانية، بمعنى أن الجيش اللبناني لم يكن حاضراً والحكومة اللبنانية لم تكن مشتركة في المعركة أو مناقشات الاتفاق. ولم يكن هذا بالطبع مفاجئاً لمن يعرف مستوى السيطرة التي يحظى بها «حزب الله» في لبنان. عندما تملك ميليشيا أسستها إيران، وتزودها بالتمويل وتُصدر لها أوامر، قرارات الحرب والسلام في لبنان، نجد دلالة كبيرة على سيادة الدولة وضعف مؤسساتها. بل ويطرح ذلك أيضاً سؤالاً عن مكانة لبنان وقيمته بالنسبة لمخطط إيران الإقليمي الذي يتضمن كلا من العراق وسوريا ولبنان، ويمتد أيضاً إلى اليمن ومناطق أخرى بها سكان شيعة.
اكتساب شرعية
أبرز ما في الهجوم وما وقع في أعقابه هو أنه على الرغم من الخطاب المنتصر الذي يتبناه إعلام «حزب الله» وشعبه، لم يعارض أغلب القادة السياسيين في لبنان، بما فيهم من يُعدون معارضين لـ«حزب الله»، حقيقة أن «حزب الله» بدأ حرباً في لبنان. وفيما عدا عدة تصريحات صدرت إلى الإعلام، بدت مؤسسات الدولة عاجزة تماماً. حتى إن وسائل الإعلام السائدة غير التابعة لـ«حزب الله» وقعت في فخ الهتاف للحزب بسبب «دفاعه عن لبنان ضد الإرهابيين». ويبدو أن أحداً لم يتكلف عناء النظر إلى الصورة الأكبر أو إدراك الثمن السياسي الذي سيكون على لبنان أن يسدده مقابل انتصار «حزب الله» المزعوم. وكأنه تم الصفح عن تورط «حزب الله» في جرائم وقعت في لبنان وسوريا منذ عام 2005.
كيف حدث ذلك؟
خسر «حزب الله» شرعيته بين اللبنانيين وتحديدا بين ناخبيه من الشيعة منذ أن قرر الذهاب إلى سوريا ودعم نظام بشار الأسد. وقد تعرض «حزب الله» بسبب تورطه في الحرب السورية الطويلة وفقدانه لكثير من المقاتلين الشباب والقادة على مدار خمسة أعوام لخسارة التأييد الشعبي الذي كان يتمتع به بين المجتمع الشيعي. بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت الميزانية العسكرية، مما أجبر «حزب الله» على تخفيض ميزانية الخدمات الاجتماعية، وهو ما أدى إلى زيادة الشكاوى، وإن كانت متحفظة، بين المجتمع الشيعي. ومع أن اللبنانيين منقسمون حول «حزب الله»، فإنهم لا يستطيعون فعل أي شيء حيال معركته في سوريا، ولكن الكثير من القادة السياسيين والصحافيين أعربوا عن عدم موافقتهم وعارضوا في بعض الأحيان تدخل «حزب الله» في سوريا والمنطقة.
دائماً ما كان «حزب الله» يجيد التلاعب بعامل الخوف، وكما فعل في سوريا، استغل «التهديد الإرهابي السني» لإثارة الخوف بين المجتمعين الشيعي والمسيحي في لبنان. واستطاع أيضاً - من خلال حملة إعلامية ودعائية استراتيجية دقيقة للغاية - أن يجعل اللبنانيين يربطون الإرهاب باللاجئين السوريين. وعندما داهم الجيش اللبناني بلدة عرسال قبل شن «حزب الله» لهجومه بأيام قليلة، ليعتقل 350 لاجئاً ويعذب منهم أربعة حتى الموت، أطلقت حملة هائلة عبر الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي لدعم تصرفات الجيش اللبناني ضد اللاجئين.
نجح «حزب الله» في استعادة قدر كبير من شرعيته المفقودة باستغلال عاملي الجيش اللبناني واللاجئين، مع نشر الخوف من الإرهاب بين الشعب اللبناني. بطريقة ما ينظر كثيرون في لبنان اليوم إلى معركة عرسال على اعتبار أن «حزب الله» يدافع عن لبنان ضد اللاجئين، وأن البديل قد يكون وقوع هجمات إرهابية في لبنان. ومرة أخرى، استخدم «حزب الله» بطاقة الإرهاب ليوضح أنه على الرغم من عيوبه، فإنه لا يزال يدافع عن لبنان ضد الإرهابيين، وبهذه الطريقة يكون هو البديل الأفضل.
غياب كامل للدولة
أعلن «حزب الله» انتصاره، بيد أن الواقع يبدو أكثر تعقيداً من إلحاق هزيمة نكراء بالمسلحين. خسر «حزب الله» 32 مقاتلا ووقع له ثلاثة أسرى، وهو ما أدى بقادة جبهة النصرة إلى البدء بالتفاوض وفرض شروطهم للانسحاب من عرسال. في المعتاد، لا يفرض أي طرف منهزم شروطه، ولا يدخل الطرف المنتصر في مفاوضات مع من لحقت بهم الهزيمة.
دائماً ما تكون الحقيقة أكثر تعقيداً من الخطابة. فعلى نحو مفاجئ، قبلت الحكومة اللبنانية بالإفراج عن عدد من الإسلاميين المحتجزين لديها (ويُقدر عددهم بعشرة) في سجن رومية، في مقابل الإفراج عن أسرى «حزب الله» لدى النصرة، وليس في مقابل الإفراج عن جنود الجيش اللبناني المحتجزين لدى «داعش» في عرسال. وبالطبع، يُقدر «حزب الله» أسراه، ولكن المشكلة هنا هي أن الحكومة اللبنانية ومؤسسات الدولة لم تسعَ حتى إلى المطالبة بأسراها أثناء مفاوضات التبادل. وإن دل ذلك على شيء، فعلى سيطرة «حزب الله» الكاملة والتامة على جميع مظاهر الدولة ومؤسساتها التي تحولت إلى أدوات في يد «حزب الله» وإيران.
وفي حين يظل الجيش اللبناني الكيان الوحيد الذي لا يمكن المساس به أو انتقاده في هذه العملية، على الرغم من أنه لم يفعل أي شيء فيما عدا التنسيق مع «حزب الله» في عرسال، بدت بقية مؤسسات الدولة أكثر ضعفاً وهشاشة من ذي قبل، وأصبحت صيغة «حزب الله» (الجيش. المقاومة. الشعب) حقيقة راسخة.
ثمن باهظ
من المؤكد أن «حزب الله» ربح في لبنان في العام الماضي وإن كان حقق ذلك ببطء. لقد فرض قانوناً انتخابياً جديداً سيضمن سيطرة غير مسبوقة على الحكومة، ووصَّل مرشحه ميشال عون إلى رئاسة لبنان، وزاد تهميش مؤسسات الدولة، ويصنع الآن وحشاً في عرسال ليكتسب شرعية من خلال هزيمته. وأصبح أي شخص يجرؤ على انتقاد المقاومة «المقدسة» وقراراتها يوصف على الفور بالخائن ويتم تهديده بالاضطهاد والقتل، بينما تغض المؤسسات التي من المفترض أن تحمي مواطنيها وحرياتهم الطرف عن كل تهديدات «حزب الله» وجرائمه.
ولكن ذلك ليس بجديد، حيث أذعن لبنان لـ«حزب الله» منذ فترة طويلة. ومع ذلك يفيد الخطاب السائد في الفترة الأخيرة في لبنان والذي جاء عقب عرسال بواقع جديد، واقع يوضح أن الرأي العام اللبناني، ومؤسساته الإعلامية، والشعب الذي وقف ضد النظام السوري في عام 2005، قرروا جميعا إعطاء «حزب الله» الشرعية التي يحتاج إليها بشدة وهو يبتلع لبنان. وسوف يكون ثمن ذلك أكبر من أن يتم احتواؤه بمجرد فوز إيران بالمنطقة وإقامة إمبراطوريتها الفارسية. وحينها سيكون لبنان قد تحلل تماما، ولن يجد اللبنانيون سوى أن يلوموا أنفسهم.
* حنين غدّار: زميلة زائرة في زمالة «فريدمان» الافتتاحية في معهد واشنطن.