رشيد الخيُّون
وقف أحد شيوخ شمر الجربا الموصليين، فيصل الجربا، وسط قاعدة انعقاد منتدى التَّطرف والإرهاب مِن قبل مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث بالرياض؛ عارضاً صورة مسجده المغتصب والمهدم مِن قِبل جماعة تنظيم داعش، وشارحاً ما حصل له ولأسرته ولأقربائه، مِن إذلال وقتل وتهجير، مشيراً إلى أن دخول «داعش» إلى الموصل كانت له مقدمات، وأن أفراد هذا التَّنظيم، ومِن قبلهم تنظيم القاعدة كانوا يهيمنون على المراكز الحساسة بالموصل، يأخذون الإتاوات نهاراً جهاراً، ويُشكلون شبه حكومة، ولا تُسمع أصوات المستجيرين، ناهيك بالتعسف الذي يسومون به أهل الموصل.
بعد أن وضح الجربا مقدمات اجتياح الموصل مِن قِبل تنظيم داعش؛ أثنى على الجيش العراقي ثناءً منقطع النَّظير، قائلاً: «أقولها بصراحة وصدق إن ما يُنقل في وسائل الإعلام عن الجيش العراقي، بأنه يُمارس الطائفية ضدنا أهل السُّنة، لا صحة له، إنما الجيش الذي جنوده وضباطه مِن العراق كافة، ومِن أهل الجنوب والوسط خاصة، أي الغالب منهم مِن الشيعة العراقيين، قد قاتل بشجاعة ضد هذا التَّنظيم، وحفظ كرامة الموصليين، وأن معارك التحرير جارية مِن قِبله، ولم يُلاحظ منه أهلنا غير الموقف الوطني العراقي».
دنوتُ مِن الشَّيخ الجربا، وتعرفتُ عليه، فسألني أنت مِن الخيُّون أهلنا بالجنوب، خيون بني أسد؟! وكان يظن بأنني مِن بلد آخر؟ فأخذ يُحدثني عن الموقف الوطني للجيش العراقي سواء مِن جنوده وضباطه القادمين مِن النجف أو البصرة، أو أي مكان آخر مِن العِراق. لم ألحظ على الرَّجل، وهو في مكان غير ملزم بهذا الاعتراف، أي عاطفة طائفية. كان حديثه المفاجئ وبهذه الصراحة، فهو لم يكن مِن بين المتحدثين على المنصة، محط دهشة البعض، وذلك لعظمة ما تتناقله وسائل الإعلام الطائفية، بل وما يُحسب لغير الجيش العراقي مِن انتصارات وتضحيات، مع عدم التقليل مِن المتطوعين، وتحت أي عناوين كانت، ونقصد المتطوعين الذي لم ينتظروا مناصب سياسية أو عسكرية.
كانت المرجعية الدينية، التي أصدرت فتوى «الجهاد الكفائي» (يونيو/ حزيران 2014)، قد قصدت بفتواها التَّطوع داخل الجيش العراقي وقواته الأمنية، لكن الفتوى حُرف تطبيقها فتأسست بظلها حشود وجيوش، ثم خرجت المرجعية ووضحت الأمر مكررة أن التطوع ليس خارج القوات المسلحة الرَّسمية.
على أي حال، انتهت معركة الموصل، ولم يبق منها إلا القليل جداً، وقدمت المرجعية الدينية بالنَّجف التهاني، مؤخراً، لكنها لم تذكر ما تشكل خلاف القصد المطلوب من تلك الفتوى، فعددت الجيش العراقي والمتطوعين والقوى الأمنية، بلا تسميات أُخر، ومِن دون شك فإن لقوات التحالف الدَّولي دوراً مشهوداً، فالمعركة كانت دقيقة جداً، فمَن جاء لينتحر ليس بالخصم السّهل، مع وجود آلاف المدنيين تحت سيطرته، ولا يتردد في ممارسة مقولة «عليَّ وعلى أعدائي»! إلا أن السؤال الكبير: تحررت الموصل... وماذا بعدها؟!
لقد عمَّ الخراب المدينة تماماً، ولم يبق حائطٌ غير منخور، ولا بيتٌ لم يُخسف سقفه، أو تشوهت عمارته، ناهيك، وهذا هو الأهم، بهدم النُّفوس، وتراكم الكراهيات، والحياة البائسة لنحو ثلاث سنوات في مخيمات اللجوء، مع المحنة الإنسانية التي تعرض لها الجميع، والإيزيديون بوجه خاص، فقد سُبيت النِّساء، وحُكم على الطَّائفة بكاملها بالكفر، ومورس التَّعسف ضد المسيحيين، بتخييرهم بين الجزية أو القتل أو التهجير.
فأول ما تحتاج إليه الموصل إعادة الإعمار، بخطة سريعة الإنجاز، يُختار لتنفيذها أكفاء ونزهاء، مع صعوبة مثل هذا المطلب في هذه الأيام. كذلك كيف يمكن إبعاد شبح الانتقام والسلوك الطائفي، فـ«داعش» نفسها شُيدت على أساس الكراهية والطائفية معاً، لذا فتداول خبر الجندي الذي ذبح خمسين مِن العناصر التي كانت تُقاتل مع «داعش»، ثأراً لإخوته، يأتي في ذروة هستيريا الانتقام. إن صدق الخبر، فهو انتهاك وعرقلة لإعادة الإعمار وعودة الموصل وأهلها إلى العراق، وإذا لم يصدق، وكان مجرد إشاعة، فهو تذكير بالانتقام.
لا يكفي تحرير الموصل وقفاً للآلام والمآسي، التي عاشها الموصليون والمناطق المجاورة، إذا لم تبحث أوليات وأسباب الكارثة، وكيف تم سحب القوات المسلحة المرابطة هناك، وهي أكثر عدداً وعدةً من «داعش» بكثير! فحتى هذه اللحظة لم تُفتح الملفات، ولم يحضر المسؤولون، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء آنذاك، للتحقيق والمحاسبة.
أراه رأياً ساذجاً أن يُقال لتبرئة المسؤول: هل يتحمل النَّبي الخسارة في معركة أُحد؟! وآخر يقول: هل يتحمل علي بن أبي طالب (خلال 35-40هـ) قطع أطراف من دولة الخلافة الإسلامية، كما حصل لدمشق ومصر؟! أولاً، لا عُذر لمن سلّم الموصل لـ«داعش»، ويكاد يكون تسليم يد، بتبرير أن المسلمين خسروا في أُحد، أو انفصلت ولايات عن الخلافة في عهد عليِّ بن أبي طالب، فالربط بين الشَّخصيات والأزمنة يضفي قدسيةً على المتهمين، فما وجه التَّشابه بين الأحداث، وبين الشَّخصيات أيضاً؟!
نقول: قطاعات الجيش العراقي انسحبت، ولم تطلق طلقة واحدة، فمَن المسؤول عن انسحابها مِن الموصل أمام «داعش»؟! هذه كلُّ القضية؟! فلا بد مِن التحقيق، ولا بد مِن الحِساب! لكائن مَن كان. فقد كانت الخسارة فادحة وعلى مدى ثلاث سنوات عجاف عاشتها الموصل.
في لحظة غابرةٍ مِن الزَّمن، كان يُنتظر فيها إزالة الحيف وإتمام النَّصر، حسب ما يُفهم مِن الأبيات التالية، المنسوبة لابن تمار الواسطي، حسب رواية أبي منصور عبد الملك الثَّعالبي (ت 429هـ) في «يتيمة الدَّهر في محاسن أهل العصر»:
قمْ فانتصف مِن صروف الدَّهر والنُّوَبِ
واجمع بكأسك شملَ اللهو والطَّربِ
أما ترى اللَّيل قد ولت عساكره
مهزومةً وجيوش الصّبحِ بالطَّلبِ
والبدرُ في الجانبِ الغربيّ تحسبه
قد مدَّ جسراً على الشَّطين مِن ذهبِ
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.