«تجارة الحرب».. والدواعش

«تجارة الحرب».. والدواعش

«سماسرة الصراع» على الحدود السورية - التركية



[caption id="attachment_55260439" align="aligncenter" width="1642"]مقاتلو تنظيم داعش على استعداد لحرق السجائر المصادرة العام الماضي في الرقة (غيتي) مقاتلو تنظيم داعش على استعداد لحرق السجائر المصادرة العام الماضي في الرقة (غيتي) [/caption]

* شكلت الأراضي التركية نقاط عبور رئيسية من وإلى سوريا على مدى السنوات الخالية، وقد شملت هذه الحركة طيفاً واسعاً من المقاتلين الأتراك والعرب والأوروبيين والشيشانيين والأوزبك والقوقازيين.
* يعد المجتمع السوري «مجتمعاً جريحاً» بسبب وتيرة العمليات العسكرية التي تجعل من «تجارة الجرحى» تجارة رائجة لنقل المصابين وطالبي العلاج في تركيا.
* رغم تراجع اللجوء السوري إلى الأراضي التركية، فإن تمدد الصراع يجعل عبور الحدود إلى تركيا خياراً مفضلاً لدى قطاعات ليست هينة، سواء كدولة إقامة مؤقتة أو ترانزيت أو استقرار معيشي.
* تلعب بعض الحركات الجهادية أدواراً رئيسية في نقل الأموال عبر الحدود وذلك من خلال سماسرة يقومون بنقل الأموال بين المقاتلين وذويهم في تركيا أو عبر مؤسسات تركية إلى خارجها.
* الحركة بين الحدود لا تزال تشهد حتى الآن عمليات تهريب منظمة ليس وحسب للسلع والبضائع، وإنما أيضاً لعمليات بيع أسلحة وشحنات تشمل معدات عسكرية من الأراضي التركية تجاه المناطق السورية، وذلك أمام أعين الجنود والضباط الأتراك.
* اتُهمت تركيا منذ فترة طويلة بالتساهل، إن لم يكن بالتواطؤ التام مع «داعش»، بما أدى إلى تفاقم مشكلات أمنية نتجت عن سياسات «الأبواب المفتوحة».
* أفضى استمرار الصراع في سوريا على مدى السنوات الخالية إلى تصاعد ظاهرة تجارة المناطق الحدودية التي غدت أقرب إلى «الأسواق الحرة» التي يتم من خلالها شراء السلع والبضائع.
* تعد تركيا حسب كثير من التقديرات من أكثر البلدان التي تصدر مقاتلين لساحات الصراع في دول الجوار الجغرافي.
* داخل «الخلايا الداعشية» في تركيا يتم تعيين مجند محلي لديه معرفة بمجتمع المجندين، ومن ثم تتم دعوتهم لحضور الدورات التدريبية الدينية.
* رغم تراجع تنظيم داعش بعيداً نسبياً عن الحدود التركية، فإن ذلك أفضى إلى وجود شبكات تجارية تحاول أن تستغل الأوضاع الجديدة بـ«انتهازية»، بما يفضي إلى تحقيق مكاسب ضخمة.
* قد تتضاعف الإشكاليات الأمنية بالنسبة لتركيا، في ظل عدم توافر استراتيجية بعيداً عن المقاربات الأمنية، حيث تغيب «الاستراتيجية الناعمة» اللازمة لمواجهة تغلغل أفكار التنظيم في أوساط المجتمع التركي.



أنقرة - محمد عبد القادر خليل

أنماط كثيرة للحركة عبر الحدود التركية – السورية لم تنقطع رغم تصاعد قضايا التوتر وملفات الصراع والعمل على تكثيف تمركز القوات العسكرية التركية والسعي إلى تدشين أسوار شاهقة فاصلة على طول خط الحدود مع سوريا، وذلك في مؤشر دال على رواج تجارة التهريب والتي تشمل أفراداً ومقاتلين وسلعاً وبضائع. وبينما شكلت مناطق تمركز تنظيم داعش بالقرب من الحدود التركية الجنوبية، منطلقات الحركة الكثيفة في الاتجاهين، فثمة مؤشرات تشير إلى أن هذه الحركة لم تتوقف رغم تراجع حضور التنظيم، وذلك عبر دروب وأدوات ووسائل تضمن سريان مجرى «طريق الحرير» بين تركيا وسوريا.
يطرح ذلك إشكاليات مركبة بالنسبة للجانبين التركي والسوري في آن واحد، كما أنه يثير تساؤلات في الوقت نفسه، حول أنماط هذه الحركة وطبيعة التجارة الحدودية بين الجانبين، والقائمين عليها من «تجار الحرب» و«أثرياء الصراعات»، وارتباط ذلك بعمليات التجنيد للمقاتلين الأتراك من قبل التنظيمات، كما يثير قضايا عالقة تتعلق باتجاهات حركة المقاتلين والإرهابيين بعد تراجع حضور تنظيم داعش، وإن كانت ستغدو عبر تذاكر «ذهاب وعودة» أم أن العودة إلى «الديار» ستأتي عبر «هجرة دائمة»، بما قد يمثل تحديات وتهديدات للأمن القومي التركي.

«الحدود الوعرة»... أنماط الحركة



يبلغ طول الحدود التركية مع سوريا نحو 911كم. وهو الأطول بالنسبة للجانبين مع أي من دول الجوار. وتشير الكثير من التقارير الدولية إلى أن عمليات تهريب البشر عبر الحدود المشتركة بين الجانبين لم تتوقف رغم المحاولات التي لم تتخذ إجراءات جادة إلا أخيراً، وذلك بعد أن تحولت من أداة في يد السلطات التركية تستهدف من خلالها دعم بعض الجماعات الراديكالية لإضعاف القوى الكردية وإسقاط النظام السوري، إلى منطلقات للكثير من العمليات الإرهابية التي «تضرب» العمق التركي ذاته، عبر عناصر ترتبط بتنظيم «داعش».

وعلى الرغم من قيام السلطات التركية بتكثيف وجودها العسكري في المناطق المحاذية لنطاقات التوتر السورية، والقيام بإغلاق الحدود المشتركة مع مدينتي حلب وإدلب تدريجياً، فإن دروب الحركة انتقلت إلى مناطق جديدة في الاتجاهين، وهو ما يمكن رصده على النحو التالي:

تجارة رسمية: لم تتوقف الصادرات التركية إلى الأراضي السورية، ليس وحسب تلك الخاضعة منها لقوى وميليشيا المعارضة السورية، وإنما أيضاً لمناطق سيطرة النظام السوري ذاته، ولتلك الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش، وكذلك المدن المسيطر عليها من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني PYD. وقد تركزت هذه الصادرات في السلع الاستهلاكية، والتي لقيت رواجاً في الأراضي السورية بسبب توقف حركة التجارة نسبياً مع الكثير من دول العالم، بفعل الاضطرابات الأمنية التي تعاني منها سوريا. وقد ترتب على ذلك أن ظهرت «تجارة حرب» انخرطت فيها «قوى شبه رسميه» عبر تمرير السلع والبضائع التركية من خلال طرق ودروب حدودية، وقد بدت بعض المدن التركية الحدودية منصات ومواقع معروفة لعقد الصفقات التجارية وإجراء المفاوضات بشأنها، وذلك بين شبكات اقتصادية وتجارية تشمل عناصر تابعة لـ«جهات مختلفة» تسعى لاستغلال هذه الأوضاع لتحقيق مكاسب تجارية.

وتشير تقديرات تركية في هذا الإطار إلى أن الصادرات التركية إلى سوريا بلغت مستويات ما قبل اندلاع الأزمة السورية في مارس (آذار) 2011. فوفقاً لمكتب الإحصاء التركي، بلغت الصادرات التركية نحو 1.8 مليار دولار في عام 2014، وهو نفس مستوى عام 2010، الذي كان عاماً استثنائياً لهذه الصادرات. وقد ارتفعت الصادرات التركية من 9 في المائة من إجمالي الواردات السورية في عام 2010 إلى 15 في المائة في عام 2014 ثم إلى 20 في المائة في عام 2015. وعلى الرغم من أن تأسيس الشركات السورية في تركيا لم يكن كبيراً حتى عام 2013، غير أنه قد تضاعف سريعاً ليصل إلى الحد الأقصى في بداية عام 2016، حيث مثلت الشراكات الاستثمارية السورية أكثر من 40 في المائة من مجموع رأسمال الاستثمارات الأجنبية في تركيا، وقد تجاوزت أعداد الشراكات السورية نظيرتها الإيرانية والألمانية.

المقاتلون الأجانب: شكلت الأراضي التركية نقاط عبور رئيسية من وإلى الأراضي السورية على مدى السنوات الخالية، وقد شملت هذه الحركة طيفاً واسعاً من المقاتلين الأتراك والعرب والأوروبيين والشيشانيين والأوزبك والقوقازيين، الذين دخلوا بعلم السلطات التركية إلى الداخل التركي، ووفقاً لتحليل الأكاديمية العسكرية الأميركية «ويست بوينت» (West Point) لأكثر من 4.600 من تسجيلات عناصر «داعش»، والتي تمت كتابتها بين أوائل 2013 وأواخر عام 2014، فإن 93 في المائة من المقاتلين الأجانب المسجلين قد دخلوا إلى سوريا عن طريق 6 مدن حدودية مختلفة وهي: يايلاداغي، أتميا، أعزاز، الرعي، جرابلس، تل أبيض. وبالنسبة لكثير من المقاتلين الأجانب، كانت مدينة إسطنبول هي المحطة الأولى للدخول، قبل أن يقوم أفراد «داعش» بتقديم التسهيلات وترتيب السفر إلى مدينتين رئيسيتين بالقرب من الحدود هما «شانلي أورفا وغازي عنتاب»، ومن هاتين المدينتين ينتقل مقاتلو «داعش» إلى كِلِّز أو البيلي أو كركميش أو أكاكالي.

المقاتلون الأتراك: ثمة مجموعات من المواطنين الأتراك انخرطوا سابقاً في ميادين الصراع في أفغانستان والبوسنة والعراق، وقد تحولت قطاعات ليست قليلة من هؤلاء لاحقاً إلى الميدان السوري مع تصاعد حضور الجماعات الجهادية، ومثلوا عناصر جذب وتجنيد لمجموعات أخرى للقتال في ميادين القتال القريبة. ومع تزايد وتيرة تراجع حضور تنظيم داعش والكثير من التنظيمات الجهادية الأخرى، ثمة مؤشرات أوضحت تصاعد ظاهرة «الهجرة العكسية» إلى الموطن الأصلي في الكثير من المدن التركية، بما يطرح مشكلات أكبر تتعلق بعدم إمكانية إحكام السيطرة على هؤلاء كونهم يتوزعون على خريطة واسعة من الجغرافيا التركية، سيما أن قطاعات ليست هينة منهم غابت عن الساحة التركية لمدد ليست بالقصيرة، ولا تمتلك الأجهزة الأمنية بحقها سجالات تاريخية تثبت أو تثير شبهة الانخراط في صفوف جماعات إرهابية.

العلاج الطبي: يعد المجتمع السوري «مجتمعاً جريحاً» بسبب وتيرة العمليات العسكرية التي تجعل من «تجارة الجرحى» تجارة رائجة لنقل المصابين وطالبي العلاج في تركيا. وفي هذا السياق اشتهرت الكثير من المستشفيات في المدن الحدودية التركية بالتخصص النسبي في علاج الجرحى من المواطنين والمقاتلين السوريين، واحد من هذه المستشفيات يقع في مدينة الريحانية، حيث أشار تقرير صادر عن «Atlantic council»، إلى أن المخابرات التركية تقوم بإعطاء المصابين من المقاتلين الأجانب هويات خاصة كالتي تمنحها للسوريين (الكملك) على الرغم من شكلهم غير السوري، عدا عن أنهم لا يتكلمون العربية.

وأشار التقرير إلى أنهم يمضون بعض الوقت في مراكز العلاج التركية، ثم يتوجهون مرة أخرى إلى الأراضي السورية، وهنا تزداد متانة العلاقات مع الجنود والجنرالات العاملين على الحدود. وتبدو أهمية ذلك بالنسبة لقوات الأمن التركية أنها لا ترتبط وحسب بتعزيز العلاقة مع التنظيمات المدعومة مالياً وعسكرياً من تركيا، وإنما أيضاً لأهمية ذلك في نسج خطوط الاتصال وصوغ قنوات التواصل لجمع المعلومات وخدمة السياسات التركية في الأراضي السورية.

اللاجئون السوريون: على الرغم من تراجع حركة اللجوء السوري إلى الأراضي التركية، في أعقاب الموجات الكثيفة التي شهدتها مناطق الحدود السابقة، فإن تمدد الصراع وعدم خفوت حدته يجعل من خيار عبور الحدود إلى تركيا خياراً مفضلاً لدى قطاعات ليست هينة، سواء كدولة إقامة مؤقتة أو ترانزيت أو استقرار معيشي، ويبدو ذلك من وجهة نظر بعض الجماعات والأفراد وسيلة النجاة الوحيدة من حروب قائمة أو تخوفاً من حروب أشد شراسة محتملة في ظل تصاعد نذر المواجهة الكردية - التركية في أكثر من منطقة سيما تل أبيض وعرفين وتل رفعت، كما يرتبط ذلك حسب بعض الاتجاهات بسبب الانتهاكات التي باتت ترصدها الكثير من التقارير الدولية، وترتبط بممارسات كردية حيال العوائل العربية التي تقيم في مناطق سيطرتها بعد تحريرها من قبضة تنظيم داعش.

حركة الأموال: تلعب بعض الحركات الجهادية أدواراً رئيسية في نقل الأموال عبر الحدود وذلك من خلال سماسرة يقومون بنقل الأموال بين المقاتلين وذويهم في تركيا أو عبر مؤسسات تركيا إلى خارجها. وفي هذا السياق يشكل المقابل المادي المحدد الرئيسي في حركة عدد غير قليل من مصابي الحرب سواء من المواطنين أو المقاتلين. ففي ظل تراجع المحدد الإنساني أو المحفز الأخلاقي، غدت «البارا» (para) أو الأموال المتحكم في طبيعة الحركة إن كانت ستأتي عبر الطرق الممهدة والخطط المحكمة أم عبر الطرق والدروب الوعرة والخطرة، والتي تشهد في العادة توترات بين العابرين و«الجندرما» التركية (قوات الأمن الحدودية)، بما يفضي في كثير من الأحيان إلى سقوط قتلى، بسبب استهداف العابرين بواسطة الجنود الأتراك. ويتم تحصيل أموال مقابل تهريب اللاجئين والمقاتلين الأجانب والسوريين، وتسلم الحوالات المالية في تركيا.

وفي هذا الإطار ثمة قصص كثيرة بشأن إطلاق «الجندرما» النار على العابرين، وعن عائلات تفقد أطفالها خلال عملية العبور غير الشرعية، هذا في حين لا يجد المقاتل الأجنبي أي صعوبة في عبور الجدار الذي أقامته السلطات التركية على مساحات واسعة من خط الحدود الجنوبي، بما أنه يمكنه بيع عدة بنادق آلية (كلاشينكوف مثلا) في السوق السوداء، ليدفعوا للضباط الأتراك رسوم عبور (رشوة)، وينفقوا الباقي في تركيا إما بهدف التسوق أو السياحة العلاجية. وقد أشارت تقديرات أمنية لـ«ويست بوينت» إلى أن تنظيم داعش على سبيل المثال استطاع أن يهرب يومياً في الفترة ما بين عامي 2013 و2015 ما لا يقل عن 1.229 شخصاً إلى سوريا عبر مدينة تل أبيض، وذلك قبل أن يسيطر عليها من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني في أوائل عام 2015.

تجارة الأسلحة: أشار تقرير «Atlantic council»، إلى أن الحركة بين الحدود لا تزال تشهد حتى الآن عمليات تهريب منظمة ليس وحسب للسلع والبضائع، وإنما أيضاً تشهد هذه الحدود حركة واضحة لعمليات بيع لأسلحة وشحنات تشمل معدات عسكرية من الأراضي التركية تجاه المناطق السورية، وذلك أمام أعين الجنود والضباط الأتراك. ويشير في هذا الإطار إلى أنه يبدو أن المقاتلين الأجانب يمتلكون امتيازاً على نظرائهم السوريين، لأنهم يتسلمون حوالات من أقاربهم في تركيا، ويشير المقاتلون السوريون إلى التباين في معداتهم ومعدات المقاتلين الأجانب، وقد وُثِّق استخدام ناطقي اللغات التركية علاقاتهم بتركيا للدخول إلى سوريا.



أسباب استمرار الحركة عبر الحدود



تتعدد الأسباب وتتنوع المحركات الدافعة للحركة الكثيفة عبر الحدود التركية السورية، ويأتي في مقدمتها:

تأخر الاستجابة الحكومية: لم تبدأ السلطات التركية في شن هجمات على شبكات «داعش» داخل تركيا حتى مارس (آذار) 2015، كما تأخر التحاق السلطات التركية بالتحالف الدولي لمحاربة «داعش»، ولم تفتح قاعدة إنجرليك الجوية لقوات التحالف ضد تنظيم داعش حتى يونيو (حزيران) 2015. وقد ترتب على هذا التأخر أن استطاعت بعض الجماعات أن تخلق نطاقات لتحقيق الربح عبر التجارة مع هذه المناطق الحدودية في تجارة النفط والآثار وعمليات الإحلال والتبديل وصيانة المعدات العسكرية.

وقد اتُهمت تركيا منذ فترة طويلة بالتساهل، إن لم يكن بالتواطؤ التام مع تنظيم داعش خلال الفترة السابقة على أغسطس (آب) 2016، بما أدى إلى تفاقم مشكلات أمنية نتجت عن سياسات «الأبواب المفتوحة»، التي سمحت للمقاتلين والإرهابيين بالتحرك بحرية نسبية عبر الحدود، وتنامي تجارة التهريب. وقد انضمت تركيا رسمياً إلى الحملة العسكرية ضد «داعش» في أغسطس 2016، حيث تدخلت القوات التركية مباشرة في سوريا في أغسطس 2016، من أجل السيطرة على طول الشريط الحدودي التركي في العمق السوري وصولا إلى مدينة الباب. وقد ترتب على ذلك أن قُتل أكثر من 70 جندياً تركياً. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2016، أحرق جنديان تركيان كانا محتجزين لدى تنظيم داعش، بما أضعف من صورة الجيش التركي الذي احتاج نحو 184 يوماً لكي يسيطر على مدينة الباب السورية.

البنية التحتية السابقة: على الرغم من المجهودات التركية لبناء سور على الحدود التركية - السورية، والتي باتت تشهد تكثيف عمليات التمركز الأمني، والسعي إلى توسعة مناطق السيطرة والتحكم فيما تطلق عليه تركيا «منطقة آمنة» والتي تبلغ مساحتها نحو 3 آلاف كيلومتر، غير أن هذه السياسات لا تزال تصطدم بحجم البنية التحتية التي أرساها الكثير من التنظيمات الجهادية على الحدود المشتركة مع سوريا، وتستخدم في نقل المقاتلين والإمدادات إلى مناطق التمركز والوجود. وهذه البنية التحتية رغم ما شهدته من تطورات غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة، فإنها كانت قد دشنت منذ سنوات خالية بواسطة مجموعات مرتبطة بتنظيم القاعدة، ذلك أن شبكات الجهاديين الموجودة في الكثير من المدن التركية، استخدمت سابقاً كطريق ثانوية للجهاديين الذين التحقوا بالصراع في العراق خلال «الاحتلال الأميركي» بين عامي 2003 و2011.

وقد أدت أيضاً العصابات المنظمة أدواراً مركزية في توسع تجارة الحدود بين سوريا وتركيا. وشهدت الفترة الأخيرة بروز أدوار لاعبين جدد، يأتي في مقدمتهم، تنظيم «هيئة تحرير الشام»، حيث أوضحت تقديرات إلى أن مجموعات مرتبطة بـ«الهيئة» أقامت مكاتب في كل من سلقين وحارم ودركوش وسرمدا، بهدف نقل اللاجئين السوريين إلى القرى التركية. وتلعب الحركة أيضاً بعد فرض رسوم محددة سلفاً أدواراً رئيسية في نقل الأموال بين تركيا وسوريا.

توقف المعابر الحدودية: بات التحرك عبر المعابر الحدودية الرسمية شبه متوقف بسبب السياسات التركية التي غدت تتخذ إجراءات أكثر تشدداً بشأن عمليات العبور من وإلى ميادين القتال في سوريا، وذلك بعد أن كانت مطارات تركيا ومعابرها طيلة سنوات الحرب في سوريا تشكل محطات رئيسية للمقاتلين، حيث يتدربون في دول كثيرة ثم يتنقلون عبر الأراضي التركية لتنفيذ عمليات إرهابية في دول عدة، ثم يعودون إلى أنقرة، لينتقلوا منها إلى ما أطلقوا عليه «أرض الخلافة».

وقد أشارت تقديرات أمنية إلى أن تونس على سبيل المثال كانت قد شهدت عمليات إرهابية نفذها عناصر إرهابية، ثم فروا إلى ليبيا، ومنها إلى أنقرة التي سهلت عودتهم، كذلك حدث الأمر نفسه في العمليات الإرهابية في أوروبا، حيث غالباً ما كانت ترد في السيرة الذاتية التي تنشر عنهم: «ترددهم على تركيا». وعلى الرغم من بقاء بعد المعابر القليلة التي تعمل بانتظام بين الجانبين، غير أن سياسات التشدد في المرور عبر هذه المعابر قد دفع إلى المهربين واللاجئين إلى اللجوء للتحركات عبر الطرق والدروب غير الرسمية، كما رفع من رسوم (الرشوة) المرور عبر المنافذ الرسمية.

تجارة المدن الحدودية: أفضى استمرار الصراع في سوريا على مدى السنوات الخالية إلى تصاعد ظاهرة تجارة المناطق الحدودية التي غدت أقرب إلى «الأسواق الحرة» التي يتم من خلالها شراء السلع والبضائع، وذلك بدلا من المناطق الغربية بتركيا وكذلك مدينة إسطنبول التي حظيت بنصيب الأسد في التصدير إلى سوريا قبيل اندلاع الأزمة السورية، ويبرز في هذا السياق مدن رئيسية مثل غازي عنتاب وهاتاي وأضنة ومرسين. وقد ارتفعت حصة هذه المناطق الجنوبية من تركيا من 20 إلى 60 في المائة من إجمالي الصادرات إلى سوريا.

ومع ذلك، فالمناطق التي تقع في شرق تركيا، ذات الوجود الكردي القوي، لم تؤدِ أدواراً في الصادرات إلى سوريا، في حين كان من المتوقع أن تخدم على الأقل المناطق التي تسيطر عليها القوات الديمقراطية السورية. وقد ارتبط انتشار تجارة المدن الحدودية بسبب قدرة الجماعات القائمة عليها على تهريب السلع والبضائع عبرها إلى الداخل السوري.

جمعيات أهلية: تلعب بعض الجمعيات الأهلية التركية أدواراً رئيسية في تهريب المقاتلين من تركيا إلى سوريا، وقد أشارت إحصاءات تركية إلى وجود نحو 1200 تركي يقاتلون في صفوف تنظيم داعش. وتعد تركيا حسب الكثير من التقديرات واحدة من أكثر البلدان التي تصدر مقاتلين لساحات الصراع في دول الجوار الجغرافي، وأشارت صحيفة «دوفار» التركية أخيراً إلى وجود نحو مائتي سيدة تركية فقدن أزواجهن في القتال الدائر في سوريا، ونحو 600 طفل تركي تتراوح أعمارهم بين عامين و12 عاماً يعيشون في مناطق خاضعة لسيطرة التنظيم الإرهابي في سوريا.

وثمة العشرات من الخلايا الموجودة في تركيا وترتبط بتنظيم داعش، وتعتمد على هذه الجمعيات في مدن كثيرة كمدينة أديامان، وقد تمت مساعدة خلايا «داعش» في المدينة من قبل مؤسسة المساعدات الإنسانية (IHH)، وهي منظمة إسلامية غير حكومية تسيطر على جزء كبير من المساعدات التركية المقدمة إلى سوريا، وبعض العناصر المرتبطة بهذه الجمعيات كانت تعمل سابقاً مع تنظيم القاعدة، كما أن ثمة عناصر من ضمن هؤلاء الأفراد انفصلوا عن الخلايا التي كانت تربطهم بالتنظيمات الجهادية لإنشاء خلايا مستقلة.

وقد أشارت تحقيقات إلى أن هناك العشرات من مسؤولي عمليات التجنيد للتنظيمات الجهادية في الكثير من المدن التركية، حيث يتم استهدف الشباب التركي من خلال إنشاء المراكز الدينية والصلاة بطريقة غير قانونية. وذكرت شبكة «سي إن إن ترك» أن قدامى المحاربين من المجاهدين الأفغان والأتراك الذين كانوا في باكستان في السابق قد شاركوا في الكثير من الخلايا الجهادية في تركيا. وقد ضبطت خلية كبيرة تنتمي لـ«داعش»، مقرها أديامان، تورطت بصورة مباشرة في تنفيذ 8 هجمات من بين 10 هجمات باستخدام القنابل في تركيا، فضلا عن هجومين فاشلين على الأقل. وتكونت المجموعة من نحو 31 عضواً أساسياً من بلدين مختلفين هما تركيا وألمانيا. وعكست بنية القيادة في الجماعة نفسها المجموعات الفرعية التركية لـ«داعش» داخل سوريا.

وقد أوضحت تقديرات أمنية أنه داخل «الخلايا الداعشية» في تركيا يتم تعيين مجند محلي لديه معرفة بمجتمع المجندين، ومن ثم تتم دعوتهم لحضور الدورات التدريبية الدينية. وبعد ذلك يحضر المجندون هذه الدورات لمدة أربعة أشهر، قبل أن يعلنوا رسمياً الولاء لـ«داعش». ثم يتم إرسال المجندين إلى سوريا إما عن طريق «غازي عنتاب» أو «شانلي أورفا»، قبل أن يلتقي عضو «داعش» بهم على الجانب الآخر من الحدود، وبعد ذلك يوضع المجندون في الوحدات الناطقة بالتركية، لاستكمال التدريب العسكري والروحي، ويستكمل المجندون التدريب الذي بدأ في تركيا قبل إرسال بعضهم للقتال في سوريا.

ولم يتعلق ذلك بتنظيم داعش وحسب، وإنما نشط أيضاً مقاتلو جبهة فتح الشام التابعة لتنظيم القاعدة وحركة أحرار الشام عبر جمعيات أهلية تركية في استقطاب المجندين للقتال في الميدان السوري، وقد توسعت وتنوعت مهام العناصر التابعة لهذه المنظمات، فثمة من تخصص في عمليات الدعم اللوجيستي ونقل المواد وتهريب الأفراد على جانبي الحدود، فيما نشط البعض الأخر في تلقي تدريبات في سوريا ثم العودة لتركيا للقيام بعمليات التجنيد وإلقاء الدروس الدينية، وقد تراوحت الفئة العمرية لهؤلاء ما بين 16 إلى 40 عاماً.

[caption id="attachment_55260441" align="aligncenter" width="1617"]جرحى سوريون يجلسون على الخط الأمامي في الرقة الشرقية خلال هجوم لاستعادة المدينة من مقاتلي تنظيم داعش (غيتي) جرحى سوريون يجلسون على الخط الأمامي في الرقة الشرقية خلال هجوم لاستعادة المدينة من مقاتلي تنظيم داعش (غيتي)
[/caption]

مسارات محتملة



يشير مسار التطورات في الأراضي السورية إلى احتمالات تصاعد تجارة الحدود على نحو أكبر خلال المرحلة المقبلة، سيما في ظل توجه الفاعلين الدوليين والإقليمين إلى تقاسم مساحات النفوذ والسيطرة، بما يجعل خيار الرواج التجاري مطروحاً بشدة. وعلى الرغم من تراجع تنظيم داعش بعيداً نسبياً عن الحدود التركية، فإن ذلك أفضى إلى وجود شبكات تجارية تحاول أن تستغل الأوضاع الجديدة بـ«انتهازية»، بما يفضي إلى تحقيق مكاسب ضخمة. فيما احتمالات التصعيد على الحدود التركية – السورية بفعل التصعيد من قبل السلطات التركية حيال مناطق تمركز الأكراد، قد تخلق رواجاً من نوع آخر، يقوم على حركة المقاتلين الأكراد الذين سيستهدفون العمق التركي، وكذلك استغلال بعض التنظيمات الجهادية للحالة الأمنية التي قد تنتج عن ذلك للنفاذ من وإلى الأراضي التركية، هذا فضلا عما قد يصاحب ذلك من حركة واسعة للاجئين إلى داخل الحدود التركية عبر مسارات غير رسمية في ظل غلق أنقرة الحدود في وجه اللاجئين منذ شهور خلت.

ومع تزايد احتمالات عودة المئات من عناصر التنظيمات الجهادية إلى تركيا، فقد يدفع ذلك بخلق توترات عرقية وإثنية، بسبب تصاعد احتمالات استهداف تجمعات الأقليات، وقد يفسر ذلك التشديد الأمني حول «مسيرة العدالة» التي سيرتها المعارضة التركية من مدينة أنقرة إلى إسطنبول. وفي السنوات الأخيرة اشتبكت عناصر حزب العمال الكردستاني مع حزب «هدى بار» (وهو حزب ديني محافظ ويعتبر الجناح السياسي لـ«حزب الله الكردستاني التركي»). وقد وقعت أكبر هذه الاشتباكات في أكتوبر (تشرين الأول) 2015، خلال الحرب بين «داعش» وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) حول «كوباني». وعلى مدار يومين من أعمال الشغب، قام حزب العمال الكردستاني (PKK) وحركة الشباب الثوري الوطني (YDG - H)، الجناح الشبابي التابع لحزب العمال الكردستاني، بقتل عشرات الأفراد من مؤيدي حزب «هدى بار» في جنوب شرقي البلاد. وقد عكست هذه المواجهات التوترات في سوريا، حيث اتهم أعضاء حركة الشباب الثوري الوطني حزب «هدى بار» بتجنيد أفراد وتقديم الدعم لتنظيم داعش.

وقد يفضي هذا الوضع على جانب آخر إلى محاولة استهداف المناطق الحيوية، بما قد يؤثر على معدلات السياحة والاقتصاد التركي. وفي هذا السياق ذكر تقرير صادر عن وزارة الداخلية التركية أخيراً أوضح أنه تم القبض على 9500 إرهابي منذ عام 2011، في مجهود أمني ارتبط بإنشاء نحو 66 موقعاً أمنياً لمراقبة الحدود التركية - السورية، عبر 33 مدينة تركية مختلفة. وفي عام 2016، حالت جهود مكافحة الإرهاب دون تنفيذ 22 هجمة من عناصر ترتبط بتنظيمات. ويشير التقرير إلى أن تركيا قد تعرضت إلى نحو 14 هجوماً على مواقع مختلفة في تركيا بواسطة تنظيم داعش 10 منها جاءت عبر عمليات انتحارية وثلاث هجمات ارتبطت بعمليات إطلاق نار، بما أفضى إلى مقتل نحو 304 أشخاص وإصابة نحو 1.338 شخصاً.

وقد تتضاعف الإشكاليات والتحديات الأمنية بالنسبة لتركيا خلال المرحلة المقبلة، في ظل عدم توافر استراتيجية للتعاطي مع هذا التحدي بعيداً عن المقاربات الأمنية، حيث تغيب «الاستراتيجية الناعمة» اللازمة لمواجهة تغلغل أفكار التنظيم في أوساط المجتمع التركي، حيث يتركز الجهد التركي الآن فيما يخص الأمن الفكري لمكافحة التطرف على إدارة الشؤون الدينية من خلال نشر الخطب والتقارير التي تهاجم التنظيمات الجهادية، وليس هناك تأكيد بشأن فاعلية هذه الجهود وتأثيرها.

وعلى المستوى العملياتي بدأت الحكومة التركية منذ مارس 2015 في حملة للقضاء على الشبكات الجهادية في تركيا، واعتقلت الكثير من أعضاء «داعش»، بما أفضى إلى إجبار الإرهابي على العمل تحت الأرض. بالإضافة إلى ذلك، قد يشكل العدد المتزايد من أعضاء «داعش» الأتراك المحتجزين حالياً في السجون التركية مشكلة أخرى، إذ إنه من الممكن أن تستمر عمليات التجنيد في السجون، كما يمكن لأعضاء «داعش» المسجونين مواصلة استخدام تقنيات مماثلة لتلك التي يتم استخدامها في مجتمعاتهم الأصلية، ارتباطاً بأن نجاح «داعش» سابقاً قد ارتبط على سبيل المثال بسجن الأفراد الرئيسيين في معسكر بوكا، وهو سجن عسكري أميركي أنشئ أثناء احتلال العراق.
font change