تقاليد بيت الحكم السعودي في تأسيس شرعية السلطة

تقاليد بيت الحكم السعودي في تأسيس شرعية السلطة

سلطة لا سلطان: ملكيات مستقرة على رمال متحركة



[caption id="attachment_55259962" align="aligncenter" width="1949"]ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان[/caption]

* السعودية تتحول بشكل كبير منذ لحظة صعود النخب السياسية الجديدة والشابّة التي أصبحت تعبر عن مبادرات أنتجت داخل البيت السعودي السياسي، وعبّرت في مخرجاتها عن سياسات استباقية تدعم الثابت السعودي.

* محور الاعتدال بقيادة السعودية الشابة أمام تحديات كبيرة تجاه إعادة ترتيب الحالة السياسية الإقليمية عبر التحالف والمشاريع الاقتصادية المشتركة في مقابل اتجاهات تغلّب سياسة التدخل وخلق الفتنة وتأزيم الحالة.



جدة: يوسف الديني

كيف يمكن قراءة الحدث السعودي الذي تصدر شاشات التلفزيون ومواقع الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي من زاوية سياسية.

في البدء يجب التقدمة بتمييز مفاهيمي ومنهجي مهم بين مفهومي السلطة والسلطان، في الحديث عن تقاليد الحكم في السعودية، وجزء من أزمة الفهم التي تصيب الكثير من الباحثين لا سيما الطارئين على المشهد السعودي الذي يبدو محيّراً للباحثين في العلوم السياسية في قراءاتهم المبتسرة.

شرعية السلطة



بالعودة إلى أطروحة «ميريام دالون» سلطان البدايات (بحث في السلطة) يجب التمييز بين مفهومي السلطة والسلطان، السلطان يشتغل في الحيّز المكاني ويستند إلى القوة التي تفرض طبيعة النظام القائم، بينما السلطة هي مصدر الشرعية ملازمة للزمن والحقبة التاريخية، ومن هنا وحدها السلطة قادرة على ضمان الديمومة لأنها قائمة على فعل «تأسيس» الحياة المشتركة بين المجتمع والسلطة على أساس المصلحة كمفهوم مفارق وعابر للمتغيرات الطارئة بسبب تلك الأسبقية الزمانية.

في السياق السعودي فإن التجربة التأسيسية للمملكة ما زالت حاضرة ضمن المفاهيم العمومية للبيعة والمشورة وتصوراتها للسلطة السياسية، ومن هنا لا تتم القطيعة التي عادة ما تتسم بها الأنظمة السياسية المرتبطة بالشكلانية الديمقراطية في الوطن العربي والتي رأينا محاولات التوريث فيها كاستجابة للحضور المجتمعي الذي أفرزه التعاقب الزمني المتكرر للدورات الانتخابية حتى غدت أشبه بملكيات مستترة مقنعة وهذا ما أظهرته التصدعات عقب الربيع العربي وانكشاف تلك الدول حتى ولد السؤال ليس في السياق العربي فحسب بل العالمي حول جدوى استنبات الديمقراطية في ظل بقاء الملكيات القائمة على عقد الرفاه والتطوير ورعاية الحقوق مستقرة رغم كل الرمال المتحركة التي تحيط بالمنطقة...

البيت السياسي



في السياق السعودي على وجه الخصوص، من الضروري أن نبعد كل المحاولات المؤدلجة التي ترافق الأحداث والتغيرات السياسية في المملكة، وهي تكهنات وتخرصات أحيانا تستجيب لما تمر به المنطقة من عواصف سياسية حادة لكنها لا تعبر بالضرورة عن قراءة معمقة للداخل السعودي.

في قراءة دولة بحجم السعودية كقبلة دينية وسياسية واقتصادية يتحتم عدم القفز على استحقاقات القرار السياسي بمحاولة عزله عن ظروف إنتاجه، إلى محاولات ربطه بتصورات متوهمة عن السياسة الخارجية السعودية من قبيل الحديث المكرور عن محافظتها وانضباطها... إلى آخر قائمة المسلمات السياسية، المصكوكة والتي تطرحها بعض وسائل الإعلام كحقائق لا تقبل الجدل.

السعودية تتحول بشكل كبير منذ لحظة صعود النخب السياسية الجديدة والشابّة التي أصبحت تعبر عن مبادرات أنتجت داخل البيت السعودي السياسي، وعبّرت في مخرجاتها عن سياسات استباقية تدعم الثابت السعودي منذ لحظة التأسيس للملك عبد العزيز بتحويل هذا التعاقد الاجتماعي القائم على رعاية مصالح العباد إلى دولة حديثة باقتصاد قوي ومجتمع متماسك ينظر إلى المستقبل عبر عيون النخب السياسية التي تفكّر في أمنه واستقراره دون ترقب لرياح الصدفة أو متغيرات السياق الإقليمي.

هيئة البيعة صمام الأمان



السياسة الاستباقية السعودية التي دشنها الراحل الكبير الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله في عام 2006 حين أسس لهيئة البيعة يرسي دعائمها اليوم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في تنصيبه لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بأغلبية كبيرة، وهي رسالة تعبر عن ثوابت سياسية أخلاقية تجاه الشعب أولا، وتجاه هذا «الإرث» للعائلة الحاكمة الذي يقضي بتكريس مصلحة البلاد متى ما دعت الحاجة لا تعبيراً عن قرار ملكي فحسب بل تأسيس على ما سبق دون قطيعة وليس عن قرار والبناء على ما سبق دون قطيعة على غرار بعض الدول التي أحدثت فجوة في رعاية التقاليد في الانتقال السلس.

اليوم يجب الكف عن الحديث عن الدولة السعودية باعتبارها امتدادا لحكم أفراد محكومين بإطار زمني وجودي، وعلينا استشعار ملامح المرحلة التي دشنها العهد السعودي الجديد بإعطاء الثقة لجيل الأحفاد في تأسيس لثبات سياسي بإطار زمني يمتد لعقود، وهو ما يعني أن ثمن الاستقرار السعودي ليس مجانيا بقدر ما أنه انعكاس لفهم حساسية المرحلة والتوقيت وإعادة موضعة المملكة بوصفها نموذجا لدولة الاستقرار والرفاه رغم الكثير من التحديات التي على عاتقها وأبرزها التحديات الأمنية وأزمات المنطقة المتراكمة والمعقدة.

جيل الأحفاد



اختيار جيل الأحفاد تدعيم حالة الاستقرار السياسي في السعودية باستراتيجية طويلة الأمد من شأنها قطع الطريق على كل التخرصات التي تبنتها أقلام خارجية وداخلية على سبيل القراءة الاستشرافية لكن دون معطيات على الواقع، فهي مزيج من انطباعات وصور نمطية عن الحكم السعودي، إضافة إلى تشغيبات مواقع التواصل الاجتماعي وبعض التقارير الصحافية التي تحاول التكهن على طريقة قراءة الطالع.
رغم كل حجم المفاجأة والدهشة الذي تعكسه تحليلات السياسيين الغربيين الآن، فإن «السياسة الاستباقية» كانت لها مقدمات تجعل من القرار ذروة تصعيد سياسي، فاستحداث نظام البيعة، إضافة إلى تدعيم الوزراء الشباب، وأمراء المناطق من جيل الأحفاد، كانت رسالة استباقية واضحة بأن الإرث السياسي لبيت الحكم السعودي قائم على البناء على ما سبق وتطويره.

تلاحم القيادة والشعب



وفي السياق رأينا على شاشات التلفزة تطبيقاً عملياً للشرعية السياسية المستمدة من المجتمع السعودي عبر مبايعة النخب الدينية والسياسية والاقتصادية والتي رأيناها عبر أفواج المهنئين لولي العهد الشاب بدءاً بمفتي المملكة ومروراً بالأمراء والعلماء وكوكبة من التكنوقراط ورجال أعمال وإنتلجينسيا وعموم المواطنين الذين جاءوا ليساهموا في عملية سلاسة الانتقال للمناصب القيادية في الدولة التي تنعكس سريعاً على عموم فئات الشعب على طريقة الملكيات العريقة في تلاحم القيادة والناس.

القيادة السعودية منذ إطلاق يد كفاءات الشباب للمساهمة في التغيير تحولت كثيراً على مستوى السياسة الخارجية وهو الأمر الذي لاحظه الجميع في الداخل والخارج، حيث بدت أكثر جرأة وشجاعة في التدخل الناعم والحازم في ملفات المنطقة بروح الشباب المبادر لا سيما على مستوى السياسة الخارجية التي تمثلت في تقديم حلول سياسية لأزمات المنطقة الكبرى من تعضيد التحالفات مع دول الاعتدال وصولاً إلى ملف الحرب في اليمن إلى الملف الأكثر أهمية وهو الحرب على الإرهاب ومكافحة التطرف وكان من ثمارها مركز «اعتدال» الذي جذب أنظار العالم إلى سعودية جديدة شابة ومختلفة تستمد من التقنية وفي ذات الوقت تطمح إلى تدعيم مفاهيم التسامح برؤى عالمية.

النخب الشابة



وفي ذات الملفات العالقة والشائكة يتوقع أن تأخذ النخب الشابة على مستوى القيادة السياسية بأوراقها التفاوضية إلى اجتراح حلول ومقترحات على مستوى التحالف مع القوة الدولية بعد النجاحات الكبيرة في استعادة دفء العلاقة مع الولايات المتحدة وتدعيم استقرار مصر والوقوف ضد استهداف البحرين. الرياض الشابة اليوم تطرح مبدأ الاستقرار والرخاء والرفاه كما رأينا مع رؤية 2030 ضد كل نزعات الانفصال والتأليب والتدخلات السياسية للمواقف المراهقة من بعض الدول.

دولة الاعتدال



محور الاعتدال بقيادة السعودية الشابة أمام تحديات كبيرة تجاه إعادة ترتيب الحالة السياسية الإقليمية عبر التحالف والمشاريع الاقتصادية المشتركة في مقابل اتجاهات تغلب سياسة التدخل وخلق الفتنة وتأزيم الحالة، ولذلك فإن المتوقع أن تقوم هذه النخبة الشابة بقيادة ولي العهد إلى تدشين أولوية المرحلة القادمة عبر رفع استقرار وأمن الخليج ودول الاعتدال كأولوية قصوى عبر تعزيز استراتيجيات الأمن المستدامة بقيادة وزير الداخلية ذي الخلفية القانونية والذي استقى ثقافته من سلفه إضافة إلى ملازمته لرمز الأمن السعودي الراحل الأمير نايف بن عبد العزيز الذي أسس لمدرسة أمنية يعرفها وزراء الداخلية العرب ويقدرونها في ظل التحديات التي يطرحها داء العالم (الإرهاب) الذي يواجهه السعوديون كعادتهم بالمزيد من التلاحم.
font change