العراقيون بين «داعش» و«الحشد»

العراقيون بين «داعش» و«الحشد»

ميليشيا تصنع التطرف... أم جماعة تمارس الإرهاب؟



[caption id="attachment_55259947" align="aligncenter" width="5184"]الميليشيات التابعة لـ«حركة الحشد الشعبي» في مسيرة عسكرية خلال «يوم القدس» في بغداد (غيتي) الميليشيات التابعة لـ«حركة الحشد الشعبي» في مسيرة عسكرية خلال «يوم القدس» في بغداد (غيتي)[/caption]

* تم الكشف عن وجود ما يزيد على 50 ألف جندي، أطلق عليهم البعض «الجنود الشبح»، وذلك على لوائح رواتب الجيش دون أن يكون لهم أي وجود فعلي داخل صفوف الجيش.
 
* شملت عمليات التجنيد، إلى جانب المتطوعين، الموالين للأحزاب الشيعية - حسب قيادات الحشد - متطوعين من المسيحيين والعرب السنة والتركمان الشيعة.
 
* استغلت الأحزاب الشيعية انتشار معدلات البطالة، وتراجع الأوضاع الاقتصادية في المناطق التي يتمركز أقليات فيها من أجل جذب مجموعات منها، ولو هامشية، إلى صفوفها، لكي تضفي قدرا من «التوازن الشكلي» على مكوناتها.
 
* تتلقى فصائل الحشد الشعبي طيفاً متنوعاً من الأسلحة والذخيرة والمعدات من الجيش العراقي، وكذلك من السلطات الإيرانية، وهذا الدعم تعتبره السلطات العراقية مشروعاً، بل وترى أنه يمثل أحد محركات التقدم الميداني الذي حققته العمليات العسكرية.
 
* إلى جانب العوامل الدينية الحاكمة في ولاء كثير من المجموعات داخل ميليشيا الحشد، يعد الدعم القتالي عنصراً حاسماً في تعزيز حضور هذه المجموعات على المستوى الميداني.
 
* غالبية المجموعات المسلحة المنضوية تحت لواء ميليشيا الحشد تدين بالولاء للمرجعيات الدينية، سواء داخل العراق أو في إيران. وهذه المجموعات تمثل في معظمها أذرعاً عسكرية.
 
* أدانت منظمة العفو الدولية ارتكاب الميليشيات الشيعية جرائم حرب وممارسة عنف حيال المواطنين السنة، وتضمّن ذلك تنفيذ عمليات تعذيب وإعدام خارج نطاق القضاء، وأعمالاً أفضت لاختفاء قسرى لمجموعات ليست بالقليلة، وتدمير منازل وممتلكات.
 
* اتهم تقرير للأمم المتحدة ميليشيا الحشد الشعبي والقوات العراقية بارتكاب جرائم حرب، وذكر التقرير أن المجلس توصل إلى «معلومات تشير إلى إبادة جماعية، وجرائم حرب ضد الإنسانية»، وأن مجلس الأمن الدولي يجب أن «يبحث إحالة الوضع في العراق إلى المحكمة الجنائية الدولية».
 
* زودت أكثر من 20 دولة العراق بالأسلحة والذخائر على مدار السنوات الخمس الأخيرة، هذا في وقت يعد العراق فيه سادس أكبر مستورد للأسلحة الثقيلة في العالم.
 
* الاشتباك بين الحشد الشعبي والبيشمركة في المناطق المتنازع عليها بعد «داعش» احتمال وارد، سيما أن التحاق مواطني الإقليم بالحشد يزيد هذا الاحتمال أكثر.
 
* بدا موقف الولايات المتحدة حيال ميليشيا الحشد الشعبي خلال الفترات الماضية أقرب إلى حالة الارتباك منه إلى وضعية وضوح التوجه والسياسات.
 
* اعترفت قيادات عسكرية أميركية، من بينها الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأميركية، الجنرال مارتن ديمبسي، بأن واشنطن لم تمانع في مشاركة قوات الحشد في عمليات استعادة الكثير من المدن، رغم علمها بما يطرحه ذلك من توترات طائفية.
 
* من الواضح أن قوات الحشد الشعبي استفادت من الصمت التركي، أخيراً، والذي تم تفسيره على أنه بمنزلة ضوء أخضر لاختراق قضاء سنجار (موضع سيطرة البيشمركة الكردية)، وأيضاً موضع تمركز قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني، والذي تعتبره تركيا تنظيماً إرهابيّاً.
 
* سواء أُدمجت ميليشيا الحشد في الجيش العراقي، أو ظلت قوة رديفة، سيكون لذلك تبعات مباشرة ليس على أمن العراق وحسب، وإنما أيضاً على جميع أرجاء الإقليم، سيما في ظل التوجه الإيراني لتوظيفها.




 
 أنقرة: محمد عبد القادر خليل*
 
تتراوح خيارات العراق بين السيئ والأسوأ. فقد بزغت ظواهر عنف طائفي واحتراب أهلي جعلت الميليشيات الإرهابية والمجموعات المسلحة أداة لجلب الأمن وتهديده في آن، وممارسة العنف ومكافحته في ذات الوقت. فدعمت الحكومات العراقية الخيار الأميركي بإنشاء «قوات الصحوات» لمكافحة التنظيمات الراديكالية، ومن بعدها شرع رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، في موازنة أدوار هذه القوات بإنشاء «قوات الإسناد» الشيعية. ومع تراجع «الصحوات» بفعل استراتيجيات التهميش الحكومي، والحرمان من «الدمج الوظيفي»، وتصاعد سياسات الإقصاء الطائفي، تفاقمت عمليات التجنيد والاستقطاب للطيف الجهادي ليظهر «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش)، ويسيطر في صيف 2014، على ما يزيد على ثلث مساحة العراق، بما دفع الحكومة، ووفق النهج التقليدي، إلى محاولة إعادة إحياء «قوات الإسناد» بصيغة مغايرة لتمثل مختلف القوى المسلحة الشيعية، وذلك لخوض صراع مرير كلف العراق حتى الآن نحو 35 مليار دولار، وأنتج فصولاً دراماتيكية أشد ألماً من العنف والتهجير على الهوية، وفق معادلة سمَّاها البعض «حروب الإرهاب ضد الإرهاب».

ففي وقت تصاعدت فيه المخاوف من إطباق عناصر «داعش»، على مدينة بغداد واحتلالها، عقب اجتياح التنظيم مدينة الموصل ليعلن قيام «دولة الخلافة» في العراق وسوريا، أقدمت الحكومة العراقية بعد ذلك بيوم واحد (11 يونيو/ حزيران 2014)، على محاولة إنقاذ الموقف بعد انهيار القوات العراقية بالدعوة إلى بناء «جيش رديف» يقوم على المتطوعين لتشكيل ألوية عسكرية من المجموعات والفصائل الشيعية. ورغم عدم الحماسة لقيادة رئيس الوزراء، نوري المالكي، التي بدت فاقدة الثقة في قواتها وافتقدت ثقتها، اكتسبت الفكرة زخماً متصاعداً، إثر إصباغها لوناً طائفياً، عبر إصدار المرجعية الدينية في النجف فتوى «الجهاد الكفائي» خلال خطبة الجمعة في 13 يونيو 2014، وذلك من قبل ممثل المرجع الشيعي الأعلى، علي السيستانى، بكربلاء، عبد المهدي الكربلائي.

هذه الدعوة رسخت التوجه الأمني لاعتماد منهج حضور الميليشيا الطائفية وتصعيد أدوارها لمواجهة تنظيم داعش، وأرست، على جانب آخر، دعائم واقع مغاير نقل الصراع من محض دوامة المواجهة بين «الحشد» و«داعش» إلى صراع آخر قادته ميليشيا الحشد، عبر موجات العنف والقتل والتهجير ضد المواطنين السنة في الأماكن المحررة من قبضة «تنظيم الدولة». أنتج ذلك صراعاً مركباً يحتوي صراعات أخرى أصغر حجماً، لكنها أشد ألما وتلامس جراح قطاع عريض من مواطنى العراق الذين خضعوا لحصار بين «قوس إرهابي» يحده من ناحية «إرهاب داعشي»، ومن ناحية أخرى «تطرف حشدي» – نسبة إلى الحشد الشعبي – بما أسهم في ترسيخ انقسام مجتمعي على أسس وأبعاد طائفية، وأنتج صوراً ومآسي إنسانية يصعب القفز عليها أو تجاوزها في زحمة الحدث العراقي وتداعياته وتوتراته اليومية، سيما أن تشكيل الميليشيات الشيعية تحت راية واحدة، رفعت شعار محاربة تنظيم «داعش»، فيما مثلت في واقع الحال، عبر الممارسة، نسخة أخرى من الحرس الثوري الإيراني.
 

نمط القيادة وطبيعة القدرات والمكونات العسكرية



كان لقائد فيلق القدس، أحد أجنحة الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، الدور المحرك في صوغ هوية وبلورة أدوار قوات «الحشد»، سواء من حيث المنهج، أو التكتيكات، أو نمط التسليح، أو طبيعة الممارسة حيال المناطق المحررة من «تنظيم الدولة». وقد دعم سليماني وكلاء إيران للاضطلاع بأدوار مركزية في هذا الإطار، حيث قائد منظمة بدر، هادي العامري، ورئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، ونائب قائد ميليشيا الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس - الذي تشمله قوائم واشنطن للإرهاب، ويقود قوة تضم 20 ألف عنصر - لتغدو قوة الحشد خلال ثلاثة أعوام بمنزلة قوة رديف أو ميليشيا موازية للجيش العراقي، بحسبانها امتلكت السلاح الإيراني وسخرت لها كل قدرات الجيش العراقي، بما دفع بعض قاداتها إلى محاولة توظيف عملياتها ميدانياً في مواجهة تنظيم داعش من أجل تحقيق مكاسب سياسية خلال الانتخابات البرلمانية والمحلية المقبلة عام 2018، سيما في ظل ما غدت تحظى به من مخصصات مالية.

وتشمل ميليشيا الحشد، حسب الاتجاهات العراقية، العشرات من الفصائل المسلحة التي تضم بدورها عدداً كبيراً من العناصر المسلحة والمتطوعة، وفي هذا السياق تختلف التقديرات بشأن عددها الحقيقي، وتتراوح حسب أغلب الاتجاهات ما بين 60 إلى زهاء 140 ألف مقاتل. فبينما يقول الناطق باسم الحشد إن ميليشيا «الحشد» كانت تضم قبل نهاية عام 2016 نحو 140 ألف مقاتل يندرجون في نحو 50 مجموعة مسلحة، فإن بعض التقديرات العراقية الأخرى من داخل وزارة المالية تشير إلى أن ثمة محاولة لتضخيم أعداد ميليشيا الحشد، فالواقع يؤكد أن هذه القوات لا تتجاوز الـ60 ألفاً، فيما سعت قيادته للمبالغة في تقدير حجمها من أجل الحصول على مخصصات مالية سنوية ضخمة، بالمقارنة بمخصصات الجيش العراقي الذي يبلغ تعداده نحو 250 ألف جندي. وحسب اتجاهات عراقية أخرى، فإن ميليشيا «الحشد» تضم الآلاف من مكونات متعددة، من بينها 124 ألف مقاتل من الفصائل الشيعية، و14 ألف مقاتل من العرب السنة، إضافة إلى عدد غير معروف من مقاتلين مسيحيين في كتائب «بابليون»، وآخرين من الإيزيديين والأكراد الشيعة المعروفين باسم الشبك، وتركمان شيعة من كركوك وتلعفر.

وتتوزع ميليشيا الحشد حسب المرجعيات الدينية على النحو التالي. فهناك نحو 41 فصيلا مسلحا تتبع مرجعية المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي، من أبرزها: فيلق بدر، وكتائب حزب الله العراقي، وعصائب أهل الحق، وكتائب سيد الشهداء، وحركة النجباء، والتيار الرسالي، وكتائب الإمام علي، ولواء أبو الفضل العباس، وسرايا الخراساني.

هذا في الوقت الذي اتخذت فيه «سرايا السلام» بقيادة مقتدى الصدر من علي خامنئي مرجعاً دينياً، إلى جانب المرجع محمد محمد صادق الصدر، وتفاخر قادة المجموعة المؤيدة لخامنئي علناً بهذا الانتماء، وتعلن ولاءها الدينى لآية الله خامنئي، ولمبدأ ولاية الفقيه.

وفى مقابل ذلك، هناك 17 فصيلاً أخرى تتبع المرجع الشيعي علي السيستاني، تتضمن ثلاثة فصائل تابعة للمجلس الأعلى الإسلامي بقيادة عمار الحكيم، ولواء أنصار المرجعية، وغيرها من الفصائل الصغيرة غير المعروفة على مستوى ساحات القتال، أو وسائل الإعلام، وهناك فصيلان يتبعان «حزب الله» في لبنان، حيث حزب الله العراقي، وكتائب عماد مغنية. وعلى الرغم من عدم وجود أي تكتل سني ضخم ضمن ميليشيا الحشد الشعبي، فثمة مجموعات سنية صغيرة تعتمد عليه وتتحرك في فلكه وبالتنسيق معه، مقابل تلقيها مساعدات تسليحية، ويبرز في هذا الإطار قوات «الحشد العشائري» في جنوب مدينة الموصل.
 

عمليات التجنيد... «التطوع على الهوية»



ثمة عوامل كثيرة شكلت وصاغت محركات ضعف قدرة الجيش العراقي، خلال السنوات الخالية، على التعبئة والتجنيد، مقارنة بالقدرات البشرية الضخمة التي باتت تمتلكها هياكل قوات الحشد الشعبي الهشة. فبالإضافة إلى الدعوة من المرجعية الدينية وما مثلته من حافز ديني على التطوع والقتال في مواجهة تنظيم داعش، فثمة عوامل بنيوية ارتبطت بالجيش العراقي ذاته، من حيث «إرث» هذا الجيش بسبب توزع الولاءات وتشكل وحداته القتالية حسب الهوية، وانتقال خطوط الصدع الطائفي والعرقي إلى صفوفه ووحداته، هذا فضلا عن الارتدادات السلبية وفقدان الثقة اللذين تصاعدا بسبب انهيار فرقه السريع في يونيو 2014.
يضاف ذلك إلى توالي الكشف عن ملفات وروايات الفساد. فعلى سبيل المثال، تم الكشف عن وجود ما يزيد على 50 ألف جندي أطلق عليهم البعض «الجنود الشبح»، وذلك على لوائح رواتب الجيش دون أن يكون لهم أي وجود فعلي داخل صفوف الجيش. وفى هذا السياق، فقد أشار مركز «كارنيغي» إلى أن ميليشيا الحشد قاتلت في الأشهر التالية على يونيو 2014 على نحو أفضل من عناصر الجيش وبعتاد أقل، بما مثَّل عنصر جذب للعناصر المتطوعة في صفوفه من داخل الطائفة الشيعية، وشملت عمليات التجنيد، إلى جانب المتطوعين، الموالين للأحزاب الشيعية - حسب قيادات الحشد - متطوعين من المسيحيين والعرب السنة والتركمان الشيعة.
وفى مقابل ذلك، يشير محمد الخالدي، القيادي في تحالف «اتحاد القوى العراقية» إلى تمثيل السنة داخل الحشد بـ«الفضائيين». فحسب الخالدي، فإن عددهم محض «رقم غير دقيق». ويقول الخالدي «هناك أسماء وأرقام لا وجود فعلياً لها داخل قوات الحشد». هذا على الرغم من أن تقديرات أخرى أكدت أن الأحزاب الشيعية قد استغلت انتشار معدلات البطالة، وتراجع الأوضاع الاقتصادية في المناطق التي يتمركز أقليات فيها من أجل جذب مجموعات منها، ولو هامشية، إلى صفوفها، لكي تضفي قدرا من «التوازن الشكلي» على مكوناتها. وفى هذا السياق، يرى كامران برواري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة دهوك، أن سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية لإقليم شمال العراق يعد السبب الرئيسي في التحاق أعداد من مواطنى الإقليم بالحشد الشعبي.
 
[caption id="attachment_55259948" align="aligncenter" width="2450"]مسلح من «جيش المهدي» الشيعي ملثم يحمل بندقية والقرآن الكريم خلال موكب في حي «بغداد» الفقير بمدينة الصدر للاحتفال بالذكرى الثانية لمعارك النجف بين الجيش الأميركي و«جيش المهدي» (غيتي) مسلح من «جيش المهدي» الشيعي ملثم يحمل بندقية والقرآن الكريم خلال موكب في حي «بغداد» الفقير بمدينة الصدر للاحتفال بالذكرى الثانية لمعارك النجف بين الجيش الأميركي و«جيش المهدي» (غيتي)
[/caption]

«طيف واسع»... طبيعة تسليح ميليشيا الحشد الشعبي



تتلقى فصائل الحشد الشعبي طيفاً متنوعاً من الأسلحة والذخيرة والمعدات من الجيش العراقي، وكذلك من السلطات الإيرانية، وهذا الدعم تعتبره السلطات العراقية مشروعا، بل وترى أنه يمثل أحد محركات التقدم الميداني الذي حققته العمليات العسكرية، حيث ترى أن ذلك «أوقف تقدم الإرهابيين، ومنع انهيار الجيش وسقوط بغداد». وتعمل طهران على تعزيز قدرات الحشد الشعبي وموارده البشرية، من خلال الدفع بجنود إيرانيين أو عناصر من الحرس الثوري الإيراني للقتال ضمن صفوفه.

هذا إضافة إلى المشاركة السابقة للمدفعية الإيرانية في بعض عمليات الحشد في المدن القريبة من الحدود الإيرانية، كما حصل في مدينة جلولاء، غرب الحدود الإيرانية، حيث عبر الحدود نحو 1500 جندي إيراني للمشاركة في اقتحام المدينة، قبل انسحابهم بعد الإعلان عن تأجيل عملية الاقتحام التي شاركت مدفعيتها في قصف مناطق وسط المدينة. وتتكفل إيران بدعم بعض الفصائل بشكل مستقل بعيداً عن دعمها لقوات الحشد الشعبي، ومنها الفصائل التي أعلنت صراحة اتباعها لسياسة ولاية الولي الفقيه، مثل حزب الله العراقي، ومنظمة بدر، وحركة عصائب أهل الحق، وغيرها.

وإلى جانب العوامل الدينية الحاكمة في ولاء الكثير من المجموعات داخل ميليشيا الحشد، يعد الدعم القتالي عنصرا حاسما في تعزيز حضور هذه المجموعات على المستوى الميداني. فعلى سبيل المثال، أعلنت عصائب أهل الحق بيعتها للمرشد الأعلى، علي خامنئي، وولاءها لسياساته، من خلال ممثلها في مدينة قُم الإيرانية، جابر الرجبي، وقد أشارت وكالة «رويترز»، نقلاً عن مسؤولين أمنيين عراقيين، أن أحد محركات ذلك يتمثل في أن «العصائب» تتلقى من 1.5 إلى مليوني دولار في الشهر من إيران.

ويستخدم الحشد الشعبي، إلى جانب ذلك، أسلحة الجيش العراقي ومعداته، ومن ضمنها الأسلحة والآليات التي قدمتها الولايات المتحدة للجيش العراقي، ومنها مدافع «الهاوتزر»، وعربات «الهامفي» و«الهامر»، كما استخدم في عملية تحرير تكريت دبابات أميركية، إضافة إلى أسلحة ومعدات إيرانية الصنع. ويتسلح «الحشد» بالدرجة الأولى بسلاح الكلاشينكوف الروسي الأصل، وبنادق الـ«بى كي سي»، وأسلحة القنص إيرانية الصنع. وكانت تقارير أميركية قد كشفت إمداد طهران ميليشيا الحشد الشعبي بترسانة من «راجمات صواريخ» طراز «فجر 5»، وصواريخ «فتح 110».

كما استخدمت ميليشيا الحشد الشعبي لأول مرة صواريخ «إي تي فور» التي تسلمتها القوات العراقية من الحكومة الأميركية، إضافة إلى قطع ثقيلة، مثل الدبابات الأميركية الصنع (M1A1)، والدبابات الروسية «T - 72»، وناقلات الجنود المصفحة، مثل «M113»، وكاسحات الألغام التي تم تسلمها من مخازن وزارة الدفاع العراقية كجزء من الأسلحة الإضافية لدعم تحركات «الحشد» من قبل الحكومة. يضاف إلى ذلك، توظيف مدافع «المورترز»، وقاذفات «آر بى جي 7» المضادة للدروع، وصواريخ «غراد» روسية الصنع، وطائرات دون طيار، وغيرها من مستلزمات الحرب التي يضطلع الحشد الشعبي بدور رئيسي فيها، سيما بعد أن فتح الجيش العراقي مخازنه لتلبية احتياجات الحشد الشعبي.
 

«الصبغة الطائفية».. عمليات «الحشد» العسكرية





حملت كثير من العمليات الحربية لميليشيا الحشد الشعبي شعارات وتسميات ذات دلالات دينية وطائفية. فقد انطلقت أولى العمليات تحت اسم «عملية عاشوراء»، وقد تبنى الحشد الشعبي إعلان عملية استعادة مدينة الرمادي تحت شعار «لبيك يا حسين»، بعد عمليات عسكرية استهدفت فرض حصار على المدينة من ثلاث جهات، قبل اقتحامها والسيطرة عليها بدعم من طيران التحالف الدولي. لقد فتحت السيطرة على مدينة الرمادي الباب أمام بدء عملية عسكرية، أسهمت قوات الحشد الشعبي بالجزء الأكبر منها، لاستعادة مدينة الفلوجة بعد إخفاق الكثير من الهجمات التي شنتها القوات العراقية والحشد الشعبي والحشد العشائري.

وفي مارس (آذار) 2016، أعلنت قوات الحشد الشعبي عملية عسكرية حملت اسم «عمليات الإمام علي الهادي» للسيطرة على هذه المناطق، تمهيداً لعملية عسكرية كبيرة تستهدف مدينة الفلوجة التي أعلن رئيس الوزراء، حيدر العبادي، بدء العملية العسكرية لاستعادتها باسم «عملية كسر الإرهاب» في 23 مايو (أيار) 2016، استمرت حتى إعلان اقتحامها من قبل قوات الحشد الشعبي في 26 يونيو 2016، لتُشكل خطوة مفصلية في مسار العمليات العسكرية ضد «تنظيم الدولة». وفى شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2016، بدأت الحكومة العراقية حملة عسكرية لاستعادة الموصل من قبضة التنظيم، وهي الحملة التي شاركت بها - رغم المعارضة العربية والإقليمية والدولية - قوات الحشد الشعبي، وباتت القوات العراقية قريبة أكثر من أي وقت مضى من تحرير كامل هذه المدينة التي تشكل معقل تنظيم داعش في العراق. وقد اضطلعت هذه الميليشيا بأدوار في معارك حماية مدن سامراء وبغداد وكربلاء، وفي فك الحصار عن بلدة آمرلي، واستعادة منطقة جرف الصخر، ومواجهة مسلحي «تنظيم الدولة» في مساحات واسعة من محافظة ديالى.
 

«الحشد»... ميليشيا رديفة للجيش العراقي بـ«سلطة القوة»



أصدر رئيس الوزراء، حيدر العبادي، «الأمر الديوانى 91» في فبراير (شباط) 2016، الذي يقضي بتحويل «قوات الحشد الشعبي» إلى قوة تضاهي «جهاز مكافحة الإرهاب»، من حيث التدريب والتسليح والتشكيل والارتباط بالقائد العام للقوات المسلحة. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، أصدر البرلمان قانون «هيئة الحشد الشعبي» الذي يعتبر قوات الحشد الشعبي المُعاد تشكيلها بموجب الأمر الديواني تشكيلاً عسكرياً مستقلاً، وجزءاً من القوات المسلحة العراقية، يرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة.

وقد حاولت حكومة رئيس الوزراء، حيدر العبادي، السيطرة على قوات الحشد الشعبي. لكنها بدلاً من دمجها في القوات العسكرية الرسمية القائمة حالياً، عمدت إلى الاعتراف بها ككيان شرعي متفرع عن الدولة، بمقتضى القانون الذي أقر في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، من قبل البرلمان العراقي، بما قنن وضعها الميداني كقوة عسكرية رديفة أقرب ما تكون إلى الحرس الثوري الإيراني. ورغم أن القانون أقر خضوع هذه القوات لأوامر القائد العام للقوات المسلحة العراقية، ونصت المادة الثالثة منه على «ممارسة فصائل وتشكيلات الحشد الشعبي مهامها وأنشطتها العسكرية والأمنية بطلب من القائد العام للقوات المسلحة، وبالتنسيق معه لمواجهة أي تهديدات أمنية تستدعي تدخلها الميداني»، إلا أن الممارسات الفعلية، ونمط التحركات الميدانية، وما صاحبها من انتهاكات فعلية لسلطة النص أوضح أنها تخضع شكلا للقائد العام، وعملياً لقادة الفصائل والميليشيات الإرهابية.

وقد أثار «قانون الحشد» - الذي أقر في الفصل التشريعي 22، استناداً إلى أحكام البند (أولاً) من المادة (61) والبند (ثالثاً) من المادة (73) من الدستور - جدلا واسعا بشأن وضع هذه القوات التي توجه لبعض قاداتها اتهامات دولية بدعم الإرهاب، وتتعدد تقارير المنظمات الدولية بشأن الانتهاكات التي اقترفتها وما مثلته من تجاوز لحقوق الإنسان. فبموجب القانون، أضحت «فصائل وتشكيلات الحشد الشعبي كيانات قانونية تتمتع بالحقوق وتلتزم بالواجبات، باعتبارها قوة رديفة ومساندة للقوات الأمنية العراقية ولها الحق في الحفاظ على هويتها وخصوصيتها، طالما لا يشكل ذلك تهديداً للأمن الوطني العراقي»، ويمثل هذا النص - حسب أغلب الاتجاهات الحقوقية - تدشيناً وترسيخاً في آن واحد لمسار بات يستحكم بالمجتمع العراقي، ويرتبط بهيمنة رجال الدين، وسلطان حاملي السلاح.

فغالبية المجموعات المسلحة المنضوية تحت لواء ميليشيا الحشد تدين بالولاء للمرجعيات الدينية، سواء داخل العراق أو في إيران. وهذه المجموعات تمثل في معظمها أذرعاً عسكرية، وقاعدة مناصري الأحزاب الشيعية المهيمنة داخل المؤسسات التشريعية والتنفيذية، مما يجعل الفقرة القانونية التي تدعو إلى فك ارتباط منتسبي «الحشد» مع جميع الأطر السياسية والحزبية - كما جاء في «قانون الحشد» - منبتة الصلة بالواقع، وما يشهده من ممارسات يترتب عليها انتهاكات متعددة المستويات في حق السلطة السياسية والخاضعين لها من المواطنين، سيما في أوساط الأقليات السنية.
 
[caption id="attachment_55259949" align="aligncenter" width="3000"]عناصر من الميليشيات الموالية للزعيم الشيعي المتشدد مقتدى الصدر يحرسون مواقع حول منزل الصدر في مدينة النجف العراقية (غيتي) عناصر من الميليشيات الموالية للزعيم الشيعي المتشدد مقتدى الصدر يحرسون مواقع حول منزل الصدر في مدينة النجف العراقية (غيتي)[/caption]

حقوق الإنسان.. انتهاكات الحشد الشعبي



تعددت الإدانات لممارسات وانتهاكات «الحشد»، وتنوعت مصادرها ما بين مواطنين وجماعات وأحزاب سياسية وجمعيات حقوقية. فقد أدانت منظمة العفو الدولية ارتكاب الميليشيات الشيعية جرائم حرب وممارسة عنف حيال المواطنين السنة، وتضمن ذلك تنفيذ عمليات تعذيب وإعدام خارج نطاق القضاء، وأعمالا أفضت لاختفاء قسرى لمجموعات ليست بالقليلة، وتدمير منازل وممتلكات. ونوهت المنظمة الدولية إلى أن التحقيقات السابقة في «الانتهاكات الجسيمة» من قبل الحشد الشعبي واجهت تقاعساً، ولم يتم توفير الإنصاف والتعويض للضحايا. فالنتائج التي أعلنت في حالات القتل وباقي انتهاكات الحشد الشعبي في قرية بروانة، ومدينة المقدادية الواقعة بمحافظة ديالى شمال شرقي بغداد، في 26 يناير (كانون الثاني) عام 2015 و11 يناير عام 2016 على التوالي، لم تُعلن، كما لم يُحاسب أي عنصر في الحشد الشعبي، جراء هذه السياسات.
هذا فيما أشارت تقارير عراقية إلى أن ميليشيا الحشد نفذت الكثير من عمليات التغيير الديموغرافي، شملت طرد العراقيين السنة وتوطين آخرين في مناطق جرف الصخر، والسعدية، وبلد، والإسكندرية، والبحيرات، والجنابيين، والمحمودية، وفي قرى أبو غريب، والطارمية، وسامراء، وبعقوبة، والمقدادية، والخالص، وشهربان، ومندلي، ومناطق أخرى، كما قُدمت وثائق للأمم المتحدة تدين تورط ميليشيا الحشد بأكثر من 10 آلاف عملية إعدام ميدانية بحق عراقيين مدنيين لأسباب طائفية، فضلاً عن تفجير المساجد ودور العبادة وسرقة المنازل والمتاجر وحرقها.

وفي هذا السياق، اتهم تقرير للأمم المتحدة ميليشيا الحشد الشعبي والقوات العراقية بارتكاب جرائم حرب، وذكر التقرير أن المجلس توصل إلى «معلومات تشير إلى إبادة جماعية، وجرائم حرب ضد الإنسانية»، وأن مجلس الأمن الدولي يجب أن «يبحث إحالة الوضع في العراق إلى المحكمة الجنائية الدولية». هذا في حين كشفت شبكة «abc» الأميركية صوراً وتسجيلات فيديو توضح جانباً من الجرائم التي ارتكبتها قوات نظامية عراقية في المناطق التي تقوم بالقتال فيها ضد «تنظيم الدولة»، وهي أعمال وصفتها الشبكة التلفزيونية بأنها «جرائم حرب ومجازر ضد المدنيين».

وأكد تقرير آخر لمنظمة العفو الدولية المعطيات نفسها، وما تعكسه من مؤشرات بشأن أوضاع الأقليات السنية في المناطق المحررة من قبضة «داعش»، وقد استند إلى أبحاث ميدانية أجرتها المنظمة في شمال العراق ووسطه وأوضحت وجود «حملة إبادة منظمة تُرتكب ضد المكون السني من قبل ميليشيا عراقية بهدف إجراء تغييرات ديموغرافية». وأشار التقرير إلى أن الكثير من دول العالم مسؤولة عن ذلك. فلقد زودت أكثر من 20 دولة العراق بالأسلحة والذخائر على مدار السنوات الخمس الأخيرة، هذا في وقت يعد العراق فيه سادس أكبر مستورد للأسلحة الثقيلة في العالم. وأكدت المنظمة أن 643 رجلاً وطفلاً على الأقل قد اختطفوا من قبل الحشد الشعبي في بلدة الصقلاوية وحدها بمحافظة الأنبار بغرب العراق، موضحة أن عملية الاختطاف تمت خلال العمليات العسكرية لاستعادة الفلوجة والمناطق المحيطة بها.
 

ولاءات متعددة... وتوجهات متباينة حيال الحشد الشعبي



تتضمن قوات الحشد الشعبي ثلاثة فصائل متمايزة، استناداً إلى ولاءاتها وتابعيتها لقيادات سياسية – دينية، حيث المرشد الأعلى في إيران، آية الله علي خامنئي، ورأس المرجعية الشيعية في العراق، آية الله العظمى علي السيستاني، والزعيم الشعبوي العراقي، مقتدى الصدر. هذا التباين والتمايز متعدد المستويات يحمل ارتدادات كثيرة تكشف أن التقدم الميداني الذي تحققه ميليشيا الحشد، يخفي مظاهر ضعف هيكلي، بحسبان «الحشد» لا يمثل تكتلاً متجانساً أو مؤسسة عسكرية تتسم بالتماسك، وإنما محض تجمع فصائلي لقوى شيعية، تُعد في جوهرها جزءاً من صراع عميق على السلطة بين قوى متنافسة سياسياً.

ويبدو أن ذلك أحد محركات الرؤى المتعددة لقيادات العراق بشأن المسار الذي يجب أن تسلكه هذه الميليشيا. فعلى سبيل المثال، تطالب المجموعة المؤيدة لخامنئي باعتراف الدولة بقوات الحشد الشعبي كمؤسسة مستقلة، ويعتبر نوري المالكي، الذي يُعد «عراب» هذه الميليشيا، أحد مراكز القوى التي تطالب باستمرار حضور هذه الميليشيا كقوة عسكرية موازية للجيش العراقي على غرار «حزب الله» في لبنان، أو الحرس الثوري في إيران.

يأتي ذلك في مواجهة تياري السيستاني ومقتدى الصدر اللذين يُحبذان حل هذه الميليشيا أو تقليص أدوارها وإخضاع معظم وحداتها، بعد توزيعها على القوى الأمنية، فضلا عن وضع حد لممارساتها حيال الأقليات السنية. وتشير هذه التوجهات المتعارضة إلى ما يمكن اعتباره صراعات أجنحة يمينية تؤسس تصوراتها ونمط إدراكها بناء على مصالحها السياسية الذاتية، عبر صراع يعكس، على جانب آخر، حدة التنافس على السلطة بين رئيس الحكومة السابق، نوري المالكي، الذي يريد إعادة الانقضاض على السلطة، ورئيس الحكومة الحالي، حيدر العبادي، الذي يحاول أن يحافظ على السلطة.

ويرجح حيدر العبادي في هذا الإطار موقف مقتدى الصدر الذي يرفض عودة جناح المالكي إلى الحكم، فيما تصميم الأخير بالتنسيق مع «جناح خامنئي» قد يصعد المواجهة على نحو غير مسبوق بين تيار المالكي من جانب، وتياري الصدر والسيستاني من جانب آخر. وتبدو استراتيجية «اختراع المعارك»، عبر التوجه نحو الحدود العراقية - السورية إحدى استراتيجيات ما يعرف في الأدبيات السياسية بـ«تحويل الصراع»، ذلك أن انتهاء المعارك مع «العدو المشترك» قد يفضي إلى تصاعد أوجه الصراع مع «الغريم الشريك». فالتحديات التي ترصدها الكثير من التقارير والاتجاهات تكشف أن الفصائل الشيعية المسلحة التي توحدت لمحاربة تنظيم داعش ليست على انسجام في المواقف السياسية والمرجعية الدينية، وقد يؤدي التنافس السياسي بينها إلى صدامات مسلحة.
وقد يكمن التحدي الحقيقي أيضاً فى محاولة قطاعات من الحشد في «تحويل» المكاسب الميدانية إلى انتصارات سياسية، وذلك عبر السعى لخوض الانتخابات البرلمانية والمحلية المقبلة، بغرض إعادة تشكيل المشهد السياسي لترجيح كفة «وكلاء إيران» في العراق، وعودة المالكي إلى صدارة المشهد السياسي، هذا رغم أن مفوضية الانتخابات كانت قد أعلنت في بيان رسمي أن «هيئة الحشد الشعبي مؤسسة عسكرية لها ارتباط أمني بالأجهزة الأمنية، وقانون الأحزاب السياسية رقم (36) لسنة 2015، الذي شرعه البرلمان وصدقت عليه رئاسة الجمهورية، يمنع تسجيل أي كيان سياسي له تشكيلات عسكرية».

بيد أن «جناح خامنئي» تشير قادته إلى أن الميليشيا التي حققت انتصارات على الأرض ستشارك في العملية السياسية، كما يقول النائب عن التحالف الوطني، محمد ناجي، أحد قادة الحشد. ويسعى الحشد إلى استثمار نتائج الحرب على «داعش»، عبر تقوية وجوده في مجالس المحافظات التي سيصبح لها دور أكبر في إدارة الشأن العام، وهو ما أكد عليه، رئيس الوزراء، حيدر العبادي، حين أشار إلى اعتماد سياسة اللامركزية، وأن الحكومة العراقية قامت بخطوات كبيرة من أجل إعطاء المزيد من الصلاحيات للمحافظات.
 

«الحشد» بعد «داعش»... احتمالات البقاء ومؤشرات التفكك



ثمة كثير من السيناريوهات بالنسبة لاتجاهات ميليشيا الحشد الشعبي في مرحلة ما بعد «داعش»، وتشمل، في سيناريو أول، بقاء قوات الحشد وفق صيغتها الحالية، انطلاقا من نوازع طائفية، وتأسيسا على أن الخبرات الميدانية التي اكتسبتها عناصرها ميدانيا قد يحتاجها العراق في مواجهة بقايا تنظيم داعش بعد انتهاء معركة الموصل، إذ يُرجح عودته إلى معسكرات صحراوية، أو قرى نائية، مع إمكانية أن يجد أفراد التنظيم ما يشكل لهم بيئة آمنة للتخفي بين السكان المحليين كخلايا نائمة قد تنشط لاحقاً. كما يستند هذا السيناريو على توجه قطاعات واسعة من الحشد إلى نقل ميدان الصراع إلى الساحة السورية، دعماً للأجندة الإيرانية.

هذا فيما يرتبط السيناريو الثانى ببقاء فصائل الحشد كمجموعات متفرقة كأجنحة عسكرية لقوى وأحزاب سياسية يمكن أن تضطلع بأدوار شبيهة بأدوار «حزب الله» في لبنان لفرض سياسات الأمر الواقع لإملاء إرادتها في مواجهة الدولة ومؤسساتها. ويستند ذلك إلى تمتع قيادات الحشد الشعبي بنفوذٍ واسعٍ في المؤسستين الأمنية والعسكرية، مع نفوذ آخر في العملية السياسية سواء عبر الحكومة أو مجلس النواب. يعزز ذلك من احتمالات تمسك هذه القيادات بعدم حل الحشد الشعبي، أو تحجيم دوره والإبقاء عليه كأجنحة عسكرية لقوى وأحزاب سياسية تؤدي ذات الأدوار المرتبطة بـ«حزب الله» اللبنانى، أو الحرس الثوري الإيراني. ويشير فريد اسارساد، المسؤول بإقليم كردستان العراق، إلى أن ثمة مؤشرات تؤكد تطور الفصائل الشيعية العراقية إلى قوة دائمة تشبه الحرس الثوري الإيراني، ويُعتقد أنها ستعمل في يوم ما في شكل ترادفي مع الجيش النظامي العراقي، مشيرا إلى أنه سيصبح هناك جيشان في العراق، وقد يكون لذلك آثار كبيرة بالنسبة لمستقبل البلاد.

ويرتبط السيناريو الثالث بمشروع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، ويتمثل في تبني استراتيجية «الدمج الجزئي» لعناصر الحشد المؤهلة نفسيا وبدنيا بالمؤسستين الأمنية والعسكرية، وذلك لمن هم في سن الخدمة العسكرية، وإعادة المتطوعين من دوائر الدولة المختلفة إلى وظائفهم الأصلية، وتوظيف العاطلين منهم بوظائف حكومية تتناسب مع مؤهلاتهم وخبراتهم، ومنح الذين تجاوزت أعمارهم سن الخدمة القانونية حقوقاً تقاعدية. وفى هذا السياق، كان رئيس الوزراء قد لمح إلى ما اعتبره البعض «التحجيم»، الذي يمكن أن يؤدي أيضاً إلى إسقاط المجموعة النافذة المؤيدة لخامنئي، وذلك عبر ضم ما بين 20 إلى 25 ألف مقاتل من الحشد الشعبي إلى القوات المسلحة، والعمل على التهميش التدريجي للميليشيات الأخرى، عبر استراتيجيات متدرجة، وهو مشروع لا يمكن إتمامه من دون توفير غطاء سياسي واضح من الولايات المتحدة الأميركية، وقد توفر تطورات المشهد السوري الأرضية المناسبة لذلك.

[caption id="attachment_55259950" align="aligncenter" width="5760"]ميليشيات «الحشد الشعبي» تصل إلى قرية صالح بعد الاستيلاء على قرى خالد وصالح وزنور في بلدة قيارة من إرهابيي «داعش» خلال العملية لاستعادة الموصل (غيتي) ميليشيات «الحشد الشعبي» تصل إلى قرية صالح بعد الاستيلاء على قرى خالد وصالح وزنور في بلدة قيارة من إرهابيي «داعش» خلال العملية لاستعادة الموصل (غيتي)[/caption]
 

المواقف المحلية... استنساخ الحشد الشعبي في العراق



يعد الحشد الشعبي بالنسبة لمؤيديه مدعاة للفخر، هذا في مقابل من ينتقد ذلك من داخل الطائفة الشيعية ذاتها. فمقتدى الصدر، الذي تخضع ميليشياته إلى قيادة الحشد، أشار إلى أن الحشد يمثل «الميليشيا الوقحة»، كما انتقد رجال دين من حوزة النجف، بمن في ذلك الزعيم الشيعي، آية الله العظمى علي السيستاني، السلوكيات الاستئثارية لبعض قادة الحشد، خصوصا أبو مهدي المهندس. وتحاول قيادات الحشد استقطاب قطاعات عريضة من القوى الكردية الشيعية، سيما في المناطق المتنازع عليها، بما يشكل محركا رئيسيا في علاقاته المتوترة مع البيشمركة الكردية، وفى ظل توجه إقليم شمال العراق إلى إجراء استفتاء بشأن الاستقلال الذاتي، وثمة توجهات إلى إجرائه في «مناطق التوتر»، أو النطاقات المتنازع عليها، بما قد يفضي إلى مواجهات تحول مسار الأوضاع السياسية والأمنية في العراق، سيما أن القوى الإقليمية كإيران وتركيا ترفض التوجه الكردي وتعتبره تحدياً لأمنها القومي.

وتدرك كثير من القوى السياسية الكردية التحاق الأكراد (الشيعة) بقوات الحشد الشعبي، بحسبانه نوعاً من «الخيانة». وقال جبار ياور، الأمين العام لوزارة البيشمركة إن «الأمر لا يتعلق بوزارة البيشمركة، وينص الدستور العراقي على أن قوات البيشمركة والأسايش والشرطة هي القوات الرسمية فقط، وأى قوات أخرى في إقليم كردستان ليست قانونية». وأكد ياور عدم وجود أي قوات من الحشد الشعبي في المناطق الكردستانية التي تخضع لسيطرة البيشمركة عدا طوزخورماتو، حيث جرى الأمر بموجب اتفاق هناك. وتنص الفقرة الخامسة من المادة الـ121 من الدستور العراقي على أنه يحق للإقليم تنظيم قوات أمنية تابعة له من قوات الداخلية و«الأسايش» و«حرس الإقليم»، ولكن لم تمنع تلك المادة الحشد الشعبي كونه ينقل أماكن مهام مواطنى الإقليم الذين يلتحقون بالحشد الشعبي إلى المناطق المتنازع عليها، وهو الأمر الذي قد ينذر بـ«مواجهة مُرحلة» بين الطرفين بسبب الانشغال بمعارك «داعش» على الساحتين السورية والعراقية.

وفى هذا السياق، يعتقد كامران برواري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة دهوك، أن «الاشتباك بين الحشد الشعبي والبيشمركة في المناطق المتنازع عليها بعد داعش احتمال وارد، سيما أن التحاق مواطنى الإقليم بالحشد يزيد هذا الاحتمال أكثر». وعلى جانب آخر، فثمة من يعتقد أن إقرار قانون الحشد دون وجود تحالف القوى وممثلي العرب السنة في البرلمان قد يكون أحد محركات توجه المواطنين السنة والمكونات العراقية الأخرى للتنافس على تشكيل مجموعات مماثلة للحشد، لحماية كيانها ووجودها منه، خشية إعادة تاريخ سابق، انطوى على ممارسة انتهاكات طالت تلك المكونات، كما حدث في ديالى، والأنبار، وصلاح الدين، ومن جراء إفراغ روح المواطنة العراقية لجهة الولاء الطائفي، بما يحمله من تخلي الدولة عن مبدأ المواطنة وسيادة حكم القانون، لصالح منطق الميليشيات الطائفية، وتعزيز حضور الانتماءات الفرعية.
 

مأزق الجميع... الحدود السورية وما بعد «الموصل»



على وقع المعارك التي تشهدها مدينة الموصل منذ أشهر خلت، تشهد الحدود العراقية - السورية الممتدة عبر صحراء الأنبار، وصولاً إلى مدينة الموصل، سباقاً وصراعاً محتدمين بين القوات الأميركية وحلفائها من جهة، وقوات إيران وحلفائها من جهة أخرى، وذلك للسيطرة عليها. وأخيرا، أعلنت قوات الحشد الشعبي بلوغها منطقة الحدود مع سوريا، كما وصف الحشد الشيعى، في بيان على موقعه الإلكترونى، تقدمه إلى الحدود مع سوريا بأنه «معجزة رمضان». ويأتي هذا في الوقت الذي أشار فيه أبو مهدي المهندس إلى أن «الحشد الشعبي حرر منذ تأسيسه 983 قرية، و16 ناحية، و8 أقضية، و7 مطارات، و7 قواعد ومعسكرات، فضلا عن كثير من المدن. وأضاف أن «الحشد موجود في (خطوط المسك)، التي تمتد لـ1500 كم طولي، وجزء منه بات متمركزاً على الحدود السورية، وما قمنا به فعليا يتمثل في مساعدة القوات الأمنية العراقية في تحرير مساحة لا تقل عن نحو 25 ألف كم».

وتشير تقديرات إلى أن ما تبقى في قبضة «داعش» لا يمثل سوى نحو 6 في المائة من مساحة العراق، بسبب عمليات لا تنسب وحسب لقوات الحشد، بل لعبت القوات الكردية أدواراً رئيسية في هذا المجال، كما استطاعت القوات العراقية وفرقها الخاصة بناء قدرات حربية وقتالية سريعة ومتقدمة نسبيا عبر التدريب المكثف والتعاون المستمر مع قوى التحالف الدولي، وفى مواجهة تنظيم داعش، تتحرك القوات العراقية، وقوى التحالف الدولي في العمليات القتالية، كما تشارك وحدات حماية الشعب الكردية السورية، وحزب العمال الكردستاني، وقوات عشائرية عربية.

وتتولى قيادة التحالف الدولي تقديم الدعم اللوجيستى والإسناد الجوي لجميع القوات المشاركة في عملية استعادة الموصل، ومن ضمنها قوات الحشد الشعبي، التي تتمركز غربي مدينة الموصل، وتتوسع حاليا في الجانب الأيمن من المدينة. ويبدو أن التطورات الميدانية باتت تدفع سريعا للعمل على نقل المعارك إلى الداخل السوري، في ظل التداخل الجغرافي، والديموغرافي، وميدان العمليات القتالية ضد تنظيم داعش. وفيما قال القيادي بالحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، إن العمليات العسكرية التي تقوم بها قوات الحشد الشعبي ستتابع أي وجود للتنظيم خارج العراق، فإن طلال سلو، الناطق باسم «قوات سوريا الديمقراطية»، قال: «سنتصدى لأي محاولة من قبل الحشد الشعبي لدخول مناطق سيطرة قواتنا».

وقد يعكس ذلك أن الحدود العراقية - السورية باتت تشكل ميدان المواجهة الجديد بالوكالة بين الجانبين الأميركي والإيراني. وعلى الرغم من أهمية سيطرة قوات الحشد الشعبي على منطقة التنف الحدودية بما يصب في مصلحة إيران ومشروعاتها الإقليمية، فإن دعم السيطرة على «طريق سنجار»، وفق أغلب التقديرات العسكرية، يمثل الخيار المركزي. فقد تستخدم طهران منطقة التنف الحدودية لإدراكها أهميتها بالنسبة لواشنطن، وذلك في إطار المساومات السياسية، غير أنه من الصعوبة بمكان التخلي عن طريق الحضر وتلعفر، كونه يضمن تواصلا سلسا مع حلفائها في كل من دمشق وبيروت.
 

رفض الإرهاب... موقف دول الخليج من الحشد الشعبي



ثمة محركات متنوعة تصوغ الموقف الخليجي من القضايا الشائكة التي يعاني منها العراق، ترتبط في مجملها بالرغبة في ضمان استقرار العراق، واستقلالية شؤونه الداخلية، وامتناع القوى الإقليمية عن توظيف أحداثه وتوتراته لخدمة أجندتها ومصالحها السياسية والأمنية، ويتداخل مع ذلك - على جانب آخر - الخلفية التي تأتي في ظلها وتيرة العلاقات المشتركة، وتوتراتها المكتومة والمتصاعدة في أوقات كثيرة، ونمط تأثير القيادات السياسية العراقية في ذلك، وطبيعة مقارباتها حيال القضايا القومية العربية، وكذلك مسار العلاقة مع طهران وما تضيفه على العلاقات الخليجية - العراقية من تعقيدات. وفي هذا السياق، تبدو قضية الحشد الشعبي ليست من القضايا التي تحتمل تبني «صيغ رمادية»، فالسيناريوهات المطروحة لمستقبل الحشد تشير إلى تحديات قد لا تثقل كاهل الدولة العراقية وحدها، وإنما قد تؤدي إلى مشكلات أمنية بالنسية لجواره العربي، سيما إذا ما بقي الجزء الرئيسي المستحكم بتوجهاته يرتبط بطهران وسياساتها الطائفية.
وتُدرك بلدان مجلس التعاون الخليجي في هذا السياق أن الميليشيات الطائفية والجماعات الإرهابية الراديكالية تعد أدوات بالنسبة للدولة الإيرانية، التي تحاول توظيفها في إطار صراعاتها الإقليمية، التي تستهدف أمن ووحدة الدول العربية، وكذلك استنزاف قدرات دول عربية تتمتع باستقرار سياسي واقتصادي كدول مجلس التعاون الخليجي، لذلك فقد أصدرت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات لوائح إرهاب تتضمن أبرز الفصائل والجماعات الطائفية والمنظمات الإرهابية، كما تبنت المملكة العربية السعودية الدعوة لتفكيك مجموعات الحشد الشعبي الشيعية، انطلاقا من أجندته الإقصائية ذات الصبغة الطائفية.

ويبرز في هذا السياق ما حمله البيان الختامي للاجتماع الوزاري لدول مجلس التعاون الخليجي في سبتمبر (أيلول) 2016، حيث عبر عن إدانة المجلس للممارسات والجرائم التي ارتكبتها وترتكبها قوات الحشد الشعبي ضد المدنيين في المناطق التي تقع تحت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، مؤكداً أن عملية تحرير هذه المناطق يجب أن تكون بقيادة الجيش والشرطة العراقية وأبناء العشائر من سكان هذه المناطق، وبدعم من التحالف الدولي لمكافحة «داعش»، مؤكداً مسؤولية الحكومة العراقية بضرورة تأمين عودة المدنيين لمناطقهم، مشدداً على رفضه القاطع للتدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للعراق.

وشدد المجلس على رفضه التام لاستخدام أراضي العراق لفتح المعسكرات لتدريب المجموعات الإرهابية أو تهريب الأسلحة والمتفجرات لتنفيذ عمليات إرهابية داخل دول المجلس، مؤكداً أهمية التزام العراق بقرارات الأمم المتحدة التي تتعلق بمكافحة الإرهاب، وبمبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وحسن الجوار، داعيا الحكومة العراقية إلى العمل على تعزيز العلاقات مع دول الجوار العربي، بعيداً عن سياسات المحاور والتدخلات الإقليمية. وقد ارتبط ذلك بتصريحات واضحة صدرت عن مملكة البحرين تشير فيها إلى ضلوع عناصر من الحشد في قضايا تستهدف أمنها واستقرارها. وينطلق الموقف الخليجي من اعتبارات الأمن القومي وأهمية ألا يتحول الجيش العراقي ذاته إلى جيش رديف لمجموعات طائفية، على غرار الحرس الثوري الإيراني، سيما أن التقدم نحو الحدود السورية يوضح أن هدف هذه الميليشيا في مرحلة ما بعد «داعش» قد يتمثل في الجوار الإقليمي.

وتعتبر بعض الاتجاهات الأكاديمية أن هذه الميليشيا قد تتحول إلى إحدى الأدوات الإيرانية ضد دول الخليج في أي صراع أو مواجهة مباشرة، سيما أنه أقدم أكثر من مرة على إجراء مناورات بالقرب من المناطق الحدودية، ويعد الجنوب العراقي حاضنته الشعبية الرئيسية. وتقوم المقاربات الخليجية في هذا الإطار على محاولة إعادة صوغ الروابط مع الدولة العراقية، عبر مؤسساتها الرسمية ودعم القوى التي تعتبر أكثر اعتدالا وتتمتع باستقلال نسبي في مواجهة «وكلاء إيران» المحليين، ويعد، حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، محركاً رئيسياً في هذا الإطار، كونه يرتبط بالتيار الذي يدرك تنامي نفوذ الحشد الشعبي، بحسبانه تهديداً وتحدياً للدولة العراقية.
 

الموقف الأميركي... من «غض الطرف» إلى احتمالات المواجهة



بدا موقف الولايات المتحدة حيال ميليشيا الحشد الشعبي خلال الفترات الخالية أقرب إلى حالة الارتباك منه إلى وضعية وضوح التوجه والسياسات، فواشنطن من ناحية، رفضت مشاركة ميليشيا الحشد الطائفية في المعارك التي تدعمها أو تشارك فيها، عبر التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، غير أنها بدت في ذات الوقت مدركة لأهمية هذه المشاركة من أجل تعبئة الطاقات وتحرير المدن العراقية، رغم ما قد يحمله ذلك من تسعير للصراع الطائفي.

وفى هذا السياق، اعترفت قيادات عسكرية أميركية، من بينها الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأميركية، الجنرال مارتن ديمبسي، بأن واشنطن لم تمانع في مشاركة قوات الحشد في عمليات استعادة الكثير من المدن، رغم علمها بما يطرحه ذلك من توترات طائفية. ووفقاً لمراسل صحيفة نيويورك تايمز في بغداد، تيم أرانجو، فإن «القوات الجوية الأميركية وفرت غطاءً جوياً لمقاتلي الميليشيات الشيعية المتحالفة مع إيران، الأمر الذي مكن ميليشيا الحشد من بلوغ قرية آمرلي لفك الحصار عن التركمان الشيعة الذين يقطنون هذه المدينة.

وحسب تقديرات، فالجدل بشأن مستقبل ميليشيات الحشد في عراق ما بعد «داعش» لا ينفصل عن صراع النفوذ الذي تخوضه طهران ضد واشنطن، والتي إن غضت الطرف عن هذه الميليشيات في مراحل المواجهة مع «داعش»، فقد لا تستطيع التعايش معها في مرحلة ما بعد «داعش»، كونها تمثل ذراعا إيرانية فعلية على الأرض. وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجهت للسياسة الأميركية بسبب عدم تبني موقف حازم حيال هذه الميلشيا الطائفية، غير أن بعض الاتجاهات الأميركية أشارت إلى أن الموقف الأميركي لا يعاني من ازدواجية بقدر ما عبر عن حاجة أميركية وضرورة لهزيمة تنظيم داعش. وعلى ما يبدو، فإن هذه الازدواجية أو «المواقف الرمادية» في سبيلها للتغير والتبدل، وذلك في ظل ما شهدته الفترة الخالية من تقدم عناصر الحشد نحو الحدود العراقية - السورية، بالتوازي مع انحسار تنظيم داعش في العراق، ووصول القوات العراقية إلى قلب مدينة الموصل.

يرتبط ذلك، على جانب آخر، بأن دوام بلوغ هذه الميليشيا المناطق القريبة من الحدود العراقية – السورية، واستخدامها كمرتكز لتوسيع نطاق وجودها في سوريا قد يفضي إلى ارتدادات سلبية على مجمل الأوضاع الداخلية في سوريا والعراق، وكذلك البيئة الإقليمية المحيطة، سيما بعد سيطرة قوات نظام الأسد على معبر الوليد الحدودي، وتوجيه طهران لصواريخ باليستية من أراضيها إلى مدينة دير الزور، بدعوى الرد على هجمات «داعش» على أراضيها في 7 يونيو 2017. وهي معطيات في مجملها غدت تخلق تحدياً مركباً بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، قد يجعل من معادلة «الحشد» - واشنطن «معادلة صفرية» بما قد يفضي إلى توجيه ضربات أميركية لتمركزات هذه القوات إذا ما توسعت في مناطق جنوب سوريا بالقرب من التمركزات الأميركية والقوات المدعومة عسكريا من قِبلها.

[caption id="attachment_55259951" align="aligncenter" width="4000"]مقاتلو ميليشيات شيعية عراقيون يرتدون الأقنعة ويقفون بالقرب من عامرلي بعد أن طردوا مسلحي «داعش» (غيتي) مقاتلو ميليشيات شيعية عراقيون يرتدون الأقنعة ويقفون بالقرب من عامرلي بعد أن طردوا مسلحي «داعش» (غيتي)[/caption]

الموقف الإيراني... دعم الحشد كـ«وكيل محلي» في العراق



تنتهج إيران سياسة تقوية نفوذها ورعاية مصالحها في الدول الأخرى، اعتماداً على الوكلاء المحليين، وذلك في محاولة تستهدف تعميم تجربة «حزب الله» الذي بات يتحكم في القرار اللبناني، وجماعات الحوثي الإرهابية التي يقودها عبد الملك الحوثي، ويسعى النظام الإيراني، عبر قانون الحشد الشعبي وفصائله المسلحة في العراق إلى ترسيخ ثقافة «الفصائل المسلحة»، بما يدفع إلى تنامي هذه الظاهرة في ساحات التمدد والنفوذ الإيراني عبر الإقليم. فإيران وبعد سيطرتها على العراق، لا سيما المناطق الشمالية والغربية التي كانت تشكل عائقاً أمام أطماعها التوسعية في المنطقة، لكونها مناطق ذات غالبية سنية، باتت تنظر إلى ضرورة سيطرتها على الحدود العراقية - السورية عبر ميليشياتها في العراق وسوريا، وذلك لإعلانها «الهلال الشيعي» الذي تحدثت عنه على نحو رسمي.

هذه المعطيات، وإن كانت تضاعف من بوادر الصراع بين طهران، التي تسعى لديمومة طريق بري مع سوريا عبر العراق، والولايات المتحدة الأميركية، التي تعمل على منع سيطرة الميليشيات الموالية لإيران على الشريط الحدودي بين البلدين، واعتبرت ذلك سابقاً «خطاً أحمر»، فإنها على جانب آخر قد تغير من مسار العمليات العسكرية على مسرح العمليات السوري في مناطق تمركز القوات المدعومة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، سيما أن مؤشرات كثيرة أشارت إلى تحول قطاعات رئيسية من الحشد الشعبي للقتال إلى جانب النظام السوري في مواجهة معارضيه، وقد أكد ذلك الكثير من قيادات الحشد الشعبي، ويعكس هذا الموقف حاجة إيران إلى الحشد الشعبي في صراعها المتعدد الأوجه في ساحات متباعدة أو متقاربة جغرافياً.
وعلى الرغم من أن الحشد الشعبي يتصدر «المشهد الأمني» في العراق، وذلك في محاولة إيرانية لزيادة شعبيتها والحد من شعبية وتهميش الجيش العراقي، فثمة تقديرات تشير إلى أن الحشد ذاته ليس أكثر من واجهة لعناصر أكثر فعالية من القوات الإيرانية، بدا تأثيرها واضحا - على سبيل المثال - في معركة استعادة تكريت عام 2015، إذ بدت إيران الفاعل الأقوى في ميدان القتال على مشارف المدينة، وكان لافتاً نشر مواقع تابعة لفصائل الحشد الشعبي صوراً لقاسم سليماني، إلى جانب قيادات عراقية، وهو ما اعترف به بعد ذلك وزير الخارجية العراقي، إبراهيم الجعفري، في يونيو 2016، حينما أشار إلى أن «سليماني يمارس نشاطاته في الأراضي العراقية بعلم الحكومة ودرايتها التامة، بصفته مستشاراً عسكرياً للحكومة العراقية».
وتشير بعض الاتجاهات العراقية إلى تمركز «نحو 30 ألف جندي ومستشار إيراني في العراق، ويرتدي بعضهم زي الحشد الشعبي». ويُقدر مسؤولون أميركيون أنه يوجد «على الأقل مائة ألف مقاتل في الحشد الشعبي يخوضون حرباً برية، وأن عدد المقاتلين في صفوفه، ممن يحظون بدعم إيراني، في حدود ثمانين ألفاً». وتشير هذه الاتجاهات في هذا الإطار إلى أن إيران شاركت في معركة الموصل «بقوة قوامها من 5 إلى 6 آلاف مقاتل، من قوات الحرس الثوري والباسيج التابعة له».

وعلى الرغم من الوجود الإيراني المكثف على الساحة العراقية، فثمة اتجاهان في أوساط الشيعة بالعراق أحدهما يتبنى الترويج لدورها في مساعدة العراق في مواجهة التنظيمات الإرهابية، ويتصدر هذه الفئة ميليشيا مرتبطة آيديولوجياً ومالياً وسياسياً بالنظام الإيراني، وذلك مقابل تيارات أخرى باتت تتنامى داخل المجتمع العراقي، وتحمل إيران مسؤولية مساعدة الفساد ودعمه، واستخدام ميليشيات مسلحة لفرض نفوذها بالقوة على الشارع، ويتصدر هؤلاء أنصار مقتدى الصدر، بالإضافة إلى بعض القوى المدنية والمقربين من المرجعيات التقليدية في النجف. ورغم حضور المجموعة الأولى المرتبطة بإيران وسطوتها العسكرية والاقتصادية، فإنها باتت أضعف من السابق، على النحو الذي جعل البعض يقول إنها فشلت حتى الآن في إطلاق اسم «الخميني» على أحد شوارع البصرة.
 

الموقف التركي... من «الحزم» إلى «التراخي»



نظرت تركيا إلى الميدان العراقي، باعتباره ميداناً للصراع الإقليمي، وسبق لأنقرة إعلانها رفض تدخل الحشد الشعبي إلى مناطق تمركز الأقليات التركمانية، وأُعد ذلك أحد محركات تأجيل عملية اقتحام مركز قضاء تلعفر على نحو متواصل من قبل مقاتلي الحشد الشعبي، وذلك رغم الحصار المفروض على أطراف «القضاء» منذ أشهر خلت، وذلك بسبب تحذيرات سابقة للسلطات التركية بشأن عدم الموافقة على دخول الحشد الشعبي لقضاء تلعفر، تحاشياً لإمكانية استنساخ عمليات التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي الذي مارسته حيال المواطنين السنة في كثير من مدن العراق.

وفى هذا السياق، لا تزال القوات التركية تتمركز بالقرب من الحدود مع العراق وفى «مخيم بعشيقة» قرب الموصل. وسبق أن اعتبر الرئيس التركي، بحسب ما نقلته وكالة أنباء «الأناضول» التركية الرسمية، أن «الحشد الشعبي في العراق منظمة إرهابية وينبغي النظر إلى من يقف وراءها». وأضاف: «إيران تنتهج سياسة انتشار وتوسع فارسية وأصبحت تؤلمنا كما في العراق»، وتابع: «إيران تريد التغلغل في دول عربية لتشكيل قوة فارسية». وشهدت العلاقات التركية – الإيرانية العام الماضي توترات بسبب إعلان ميليشيا الحشد نيتها اقتحام تلعفر، بما دفع أنقرة للتأكيد على أنها ستعزز وجودها العسكري في شمال العراق تحسباً لذلك. هذا في حين قال أبو مهدي المهندس، في أبريل (نيسان) 2017، إن قواته تنتظر أوامر رئيس الوزراء لاقتحام قضاء تلعفر.

وتعد تلعفر مدينة ذات أهمية استراتيجية لتركيا، كون غالبية قاطنيها من التركمان، كما أنها ذات أهمية استراتيجية لإيران لوجود سكان شيعة بها، وهي أيضاً ذات أهمية استراتيجية للبلدين لقربها من الحدود مع تركيا وسوريا، مما يجعلها نقطة انطلاق استراتيجية لأي عمليات حربية عبر الحدود. وسبق لتركيا أن رفضت أيضاً مشاركة قوات الحشد الشعبي في عملية استعادة الموصل بسبب مخاوف من ارتكاب انتهاكات بدوافع طائفية مقترحة أن يكون البديل في ذلك قوات «الحشد الوطني» الذي تشرف على تدريبه تركيا، وتتألف وحداته من نحو 3 آلاف مقاتل، ويقوده محافظ نينوى السابق، أثيل النجيفي.

وعلى الرغم من التحذيرات التركية السابقة بشأن تحركات الحشد الشعبي، وتصريحات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بأنه لن يسمح بدخول الحشد الشعبي إلى مدينة تلعفر، غير أن ثمة تطورات تشير إلى أن المقاربات التركية خلال الفترة القليلة الماضية قد شهدت تحولات دراماتيكية قد تجعل المدينة ذات الأهمية الاستراتيجية أحد مسارات تحرك قوات الحشد الشعبي، سيما في ظل محاولة تركيا تحسين العلاقات مع طهران على أكثر من مستوى، وقد تجسد ذلك أخيراً في الاتصال بين رئيس الوزراء التركي، بنعلي يلدريم، بنظيره العراقي، حيدر العبادي، وإعلانه تأييد أنقرة لسياسات بغداد في محاربة الإرهاب.

ويرتبط ذلك على جانب آخر أيضاً بتراجع حدة المعارضة التركية لتمركز ميليشيا الحشد الشعبي على الحدود الغربية للعراق، وذلك إثر استخدام الولايات المتحدة الأميركية الميليشيا الكردية، عبر «قوات سوريا الديمقراطية» للسيطرة على الجانب السوري من الحدود مع العراق ولتحرير مدينة الرقة، ومن بعدها مدينة دير الزور في سوريا. ومن الواضح أن قوات الحشد الشعبي استفادت من الصمت التركي، أخيرا، والذي تم تفسيره على أنه بمنزلة ضوء أخضر لاختراق قضاء سنجار (موضع سيطرة البيشمركة الكردية)، وأيضاً موضع تمركز قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني، والذي تعتبره تركيا تنظيماً إرهابيّاً.

وبناء على جملة ما سبق، فإن ميليشيا الحشد سواء أُدمجت في الجيش العراقي، أو ظلت قوة رديفة، سيكون لذلك تبعات مباشرة ليس على أمن العراق في المستقبل وحسب، وإنما أيضاً على جميع أرجاء الإقليم، سيما في ظل التوجه الإيراني لتوظيفها والانتقال بها من وضعية «وكيل محلي» إلى حالة «الفاعل الإقليمي»، الذي يتمدد حيثما توجد طهران من حيث النفوذ والسياسات والمخططات، كما يرتبط ذلك على جانب آخر بما باتت تشهده هذه الميليشيا من جموح وطموح لإعادة صياغة المشهد السياسي في العراق، عبر محاولة خوض الانتخابات المقبلة في محاولة لتجسيد الهيمنة العسكرية في سلطة سياسية، ويبقى التحدي الرئيسي في هذا الإطار يرتبط من ناحية، بتصاعد نذر المواجهة مع واشنطن وحلفائها على الساحات الإقليمية المجاورة، سيما في سوريا، ومن ناحية أخرى بما تشهده هذه الميليشيا من صراعات داخلية لا تحتاج سوى «استراحة محاربين» قصيرة من ميدان المعارك حتى تظهر للعلن وتنفجر على نحو قد يستهلكها في صراعات بينية ليست بالهينة أو القليلة.

* رئيس تحرير فصلية «شؤون تركية»، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.



font change