رمضان في مسجد أيوب سلطان... طقوس تمزج بين عادات العرب وحفاوة الأتراك

رمضان في مسجد أيوب سلطان... طقوس تمزج بين عادات العرب وحفاوة الأتراك

أول جامع بناه العثمانيون بإسطنبول بعد فتحها عام 1458



[caption id="attachment_55259799" align="aligncenter" width="1152"]مؤائد الأفطار في مسجد أيوب سلطان مؤائد الأفطار في مسجد أيوب سلطان [/caption]

•سمي مسجد السطان أيوب بهذا الاسم تيمناً بالصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي خصَّه الرسولُ بالنزول في بيته عندما قدم إلى المدينة المنورة مهاجراً.

•وجود السوق بجانب الجامع من أهم الأسباب التي أسهمت في زيادة الوافدين إليه، فيأتي السياح ليشتروا المجسمات التركية الصغيرة والفضة وكثيراً مما تشتهر بها إسطنبول.



إسطنبول: رنا جاموس

تعتريك كل مشاعر السلام والطمأنينة، ما إن تطأ قدماك تلك الساحة وترى مآذن ذاك المسجد وهي تصدح بالتكبيرات، تلتفت يمنة ويساراً لتتابع حركة الناس من ذوي الألوان والأشكال المختلفة، بعضهم يقصد المسجد ليصلي وبعضهم يجول في تلك السوق الشعبية، وكأنك ترى مشاهد من عصور الإسلام القديمة ولكن ببناء حديث، وتتلمس الماضي بمشاهدة بقايا «سور القسطنطينية» في طريقك للمسجد، تلك اللوحة تمثل قلب إسطنبول القديمة، ساحة مسجد أيوب سلطان.
مسجد أيوب سلطان، يعد أول جامع بناه العثمانيون بإسطنبول بعد فتحها، عام 1458م، يحتضن في باحته قبر الصحابي الجليل أبو أيوب الانصاري، الذي توفي ودفن هناك عام 52 للهجرة خلال محاولة المسلمين فتح القسطنطينية، المحاولة التي لم تنجح آنذاك.

تحفة فنيّة



أكثر ما يميز منطقة سلطان أيوب، وبالأخص ساحة مسجدها الكبير، هو قربها للطقوس العربية بشكل لافت، وطبائع سكانها الذين يعتبرون من الأتراك الأصليين، إذ يتسمون بالطابع الديني والكرم معاً، يلفتك في تلك الساحة المآذن والمنارات، في منظر يشكل تحفة فنيّة، ولا يفوتك منظر الحمام المحلق فوق المسجد، وكأنه ينادي كل من يلمحه ليأتي ويصلي في تلك البقعة التي تعود إلى أقرب أنصار الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.

بماء الورد يُغسل المسجد وساحته، لتفوح منه نسائم قبلة المسلمين (مكة)، وفق المنسق في المكتب الإعلامي لبلدية أيوب سلطان، «دينيس تشيبلاك»، ويتابع: «تسعى البلدية لمنح الزائر شعوراً بعبق الزهور حين يصل إلى تلك المنطقة، وبالأخص حين يقترب من باب المسجد، أما حين يدخل إلى مكان العبادة فسيشم رائحة بخور الحرم المكي، إذ يبخر المسجد بالعود ثلاث مرات في الأسبوع».

بإبتسامة فخر ممزوجة بروح الأخوة بين الأتراك والعرب، يكمل تشيبلاك: «نحن في بلدية أيوب سلطان نعطي أهمية كبيرة لهذا المسجد، لأنه من أهم المعالم الأثرية والإسلامية في تركيا، فهذا المسجد هو قبلة الأتراك والسياح من كل مكان، حتى السياح الأوروبيون يأتون إليه ليطلوا على أهم المساجد في الإسلام، ونحن الشعب التركي نعتبر أهميته تأتي بعد المسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي بالمدينة والقدس، أي أنه رابع أهم المساجد الإسلامية بمعتقدنا، لذا تجد الرئيس التركي يزوره ويصلي فيه في كل عام بشهر رمضان، كما يقصده بين الحين والآخر ليصلي فيه صلاة الفجر».

أبو أيوب الأنصاري شهد بيعة العقبة وغزوتي بدر وأُحد



سمي مسجد السطان أيوب، بهذا الاسم تيمنا بالصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، خالد بن زيد بن كليب الخزرجي النجاري، الذي شهد بيعة العقبة، وغزوتي بدر وأُحد مع النبي محمد، خصَّه الرسولُ بالنزول في بيته عندما قدم إلى المدينة المنورة مهاجراً، حيث أقام عنده سبعة أشهر حتى بنى حجرة ومسجداً وانتقل إليهما.

ويعود المنسق الإعلامي لمنطقة أيوب سلطان، ويحدث مجلة «المجلة»، عن الازدحام الذي يشهده مسجد أيوب سلطان بدءاً من الداخل وصولاً إلى ساحته حتى ممرات السوق، في وقت صلاة التراويح، فيقول، «يقبل الناس من عدة مناطق في إسطنبول ليصلوا التراويح في هذا المسجد حتى يصل عددهم إلى 5 آلاف مصلٍ ولو كان هناك مكان لوجدت أعداداً أكبر، وهذا ما يجعل منطقة أيوب سلطان من أكثر المناطق حيوية وحركة في رمضان، ناهيك بأنها من أكثر المناطق التي تتميز بطقوس وأجواء رمضانية».

إذا ذهبت وقت التراويح إلى المسجد، فستجد ساحاته تعج بالمصلين قبيل البدء بالصلاة، ويملأ سماء المكان الحبال المضاءة بين المنارات، مكتوب عليها بالقناديل «أهلاً وسهلاً بسلطان الشهور»، و«لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ولرأيت المصلون بعد كل ركعتين من صلاة التراويح، يرددون الصلاة على النبي، ويقرأون بعد كل أربع ركعات أذكاراً جماعية، كنوع من الطقوس الإسلامية التركية في رمضان.

[caption id="attachment_55259800" align="aligncenter" width="1620"]مظاهر الاحتفال بشهر رمضان وبرامج ترفيهية بعد الافطار وقبل صلاة العشاء في مسجد أيوب سلطان مظاهر الاحتفال بشهر رمضان وبرامج ترفيهية بعد الافطار وقبل صلاة العشاء في مسجد أيوب سلطان[/caption]

أسواق تراثية



حين تلمح المسجد والشجر من حوله، تجد هناك محلات صغيرة على جانب ساحته، يسرق نظرك الأشياء التي يعلقها الباعة ليجذبوا أنظار المشترين، وعلى الرغم من أنها تبيع أشياء بسيطة، فإن أكثر ما يجعلك تنجذب إليها هو أنها تبيع مأكولات تعرفها منذ الصغر، فتجد الحلوى الملونة (غزل البنات)، وهي معلقة بكل الألوان الزهري والأخضر والأزرق والبنفسجي، وتجد التفاح المغمس بالسكر، ذاك الذي كنا نأكله ونحن صغار ولم نعد نراه إلا في أسواق تراثية، تميل بنظرك فتشاهد السحلب الذي يشتهر به الأتراك، ورائحة القرفة تفوح منه، تحيد بناظريك إلى المكان المقابل للجامع فتجد سوقاً كبيرة أقرب لأسواقنا العربية الشعبية، والمطاعم تتوزع هنا وهناك لتعرض عليك أشهر الأطباق التركية، لذا غالباً ما تجد السياح يقصدون تلك المنطقة بالفعل لأنها مجسم مصغر لتركيا الأصيلة.

موائد الإفطار والصلاة



يؤكد الصحافي المسؤول في بلدية أيوب سلطان المسؤولة عن المسجد، «جان أيبيك»، لمجلة «المجلة»، أن وجود السوق بجانب الجامع من أهم الأسباب التي أسهمت في زيادة الوافدين إليه، فيأتي السياح من الغرب والشرق ليشتروا المجسمات التركية الصغيرة والفضة وكثيراً من الأمور التي تشتهر بها إسطنبول، ويقصدون المنطقة ليلتقطوا صوراً بملابس العثمانيين، فهناك محال مختصة بهذا الأمر، تجد فيها ملابس العثمانين التراثية والقبعات الخاصة بهم.

ما يجعل تركيا تتقارب مع بيئتنا العربية لا سيما الرمضانية، هو موائد الإفطار التي تقوم بتجهيزها البلدية الخاصة بكل منطقة، وتعتبر منطقة أيوب سلطان من أكثر المناطق نشاطاً بإفطار الصائمين، فيصل عدد الأشخاص الذين يتم إفطارهم في الشوارع والطرقات، إلى خمسة آلاف صائم، وعلى الرغم من شهرة المسجد وأهميته التاريخية، فإن البلدية لم تستطع أن تستخدم ساحة المسجد في موائد الإفطار لإبقائها نظيفة لصلاة التراويح، لذا فإن موائد إفطار مسجد أيوب سلطان، تكون في إحدى ساحات مدارس «إمام خطيب» الإسلامية التي تشتهر بها تركيا، تستقبل نحو 2500 - 3000 صائم، بينهم الكثير من العرب، يجمعهم رفع أيديهم للسماء قبل الإفطار والدعاء باسم رب العباد، بحسب ما قال «أيبيك».

لم تقتصر فعاليات ساحة مسجد أيوب سلطان، على موائد الإفطار والصلاة، بل تشهد الساحة التي تتوسط منطقة أيوب، نشاطات للأطفال طوال أيام الشهر المبارك، ويقول «الدينيس تشيبلاك»، المنسق الصحافي لبلدية أيوب: «نقوم بعمل نشاطات للأطفال كل يوم خلال شهر رمضان لكي يعيشوا أجواءه ويشعروا بالسعادة التي يشعر بها الكبار في هذا الشهر، ونقوم بتجهيز ألعاب ومسرحيات لـ40 طفلاً يومياً في ساحة الجامع في وقت الظهيرة، ثم نقدم لهم أغاني خاصة بالأطفال وننهي الحفلة بتقديم وجبات طعام، في محاولة لزرع حب طقوس رمضان وحب الصيام لدى أطفالنا».

تتميز الأجواء الرمضانية لدى الشعب التركي، بما يعرف بـ«المحيا»، وهو إنارة مآذن المساجد منذ وقت المغرب حتى وقت الفجر، وتوزيع الكبار خلال صلاة التراويح الحلوى على الصغار ممن يصلون التراويح وذلك لتشجيعهم على القدوم مرة أخرى، فهم يحاولون أن يزرعوا في أبنائهم حب الصيام كما نفعل نحن العرب، وتجد من الأتراك من يقوم بتوزيع (الراحة) أو الحلوى أو التمر على الخارجين من المسجد أو المارين بجانبه، على نية التوفيق في أمر ما، «إنها طقوس تركية بامتياز».

[caption id="attachment_55259801" align="aligncenter" width="1599"]تنظيف داخل وخارج المسجد تنظيف داخل وخارج المسجد [/caption]


الأجواء الرمضانية في إسطنبول



تقول التركية «رمزية»، في لقاء مجلة «المجلة» معها بعد انتهائها من صلاة التراويح: «كلما اقترب وقت الفطور نشعر بالروحانية أكثر، إننا ننتظر هذا الشهر كي نعيش أجواءه ونصلي التراويح في المساجد، فنحن الأتراك نشعر بأن هذا الشهر هو شهر التقرب إلى الله».

ونسأل «منال» وهي سورية الأصل، لجأت إلى تركيا منذ عامين، عن رأيها في الطقوس الرمضانية في تركيا، وعن رأيها بالصلاة في مسجد أيوب سلطان، فتتنهد وتبتسم وتخبرنا أن تركيا وطنها الثاني. وتتابع: «على الرغم من أن أجواء رمضان في سوريا لها مكانة في قلوبنا كسوريين، لكنني أحببت الأجواء الرمضانية في إسطنبول، والشعب التركي عاملنا على أننا إخوة، أما عن صلاة التراويح فأنا أحبذ أن أصليها في هذا المسجد أو مسجد الفاتح، فأجواء كليهما قريبة من أجواء مساجد دمشق، إلا أن الآيات التي تقرأ في الصلاة أقل».

أما عن الاحتفالات الرمضانية في إسطنبول بعد الإفطار، فتكون على طريقتهم وطقوس أجدادهم العثمانيين، لعلهم يحاولون في الكثير من الأوقات أن تكون هناك فرق عثمانية تعرض التراث العثماني، ليس هذا فحسب بل يقومون بحفلات بعد الإفطار في الساحات المشهورة بطابعها الرمضاني.

يقول تشيبلاك، لـ«لمجلة»: «نقوم باحياء حفلات لفرق تركية خلف ساحة مسجد أيوب سلطان، بالقرب من خليج القرن الذهبي، المتفرع من مضيق البسفور خارج أسوار القسطنطينية، إذ تقوم الفرقة بغناء أغانٍ نسميها في تركيا (الفصل) وهي أهازيج خاصة برمضان وروحانياته، إضافة إلى إلقائها الأدعية الرمضانية المباركة».

أنا من جهتي حين سمعتها شعرت بأنها قريبة للقدود الحلبية في جمالها، تشعر بأنك رحلت معها إلى حدود تركيا، إلى ذاك القسم الشمالي من سوريا، وبالتحديد إلى حلب المدينة، وحين تسمعها تجد أنها تمزج بين العود والناي والصوت العذب.

لم يكن ازدحام المنطقة التي اتسمت بطابع ديني بسبب وجود المسجد والسوق الشعبية فحسب، بل تقوم الحكومة التركية بفتح سوق خاصة برمضان على شكل خيم مسقوفة، يٌقبل عليها الناس بعد صلاة التراويح، تبيع الأشياء التي تشتهر بها تركيا والأطعمة التركية، الجو هنا لطيف لطف أنسام إسطنبول لا سيما رائحة الخليج الذي لا يبعد سوى عدة أمتار، كما لفت تشيبلاك.

ما لفتني في هذه السوق هو الأعمال اليدوية، ببساطتها وجمالها في نفس الوقت، خلفه سور كبير تدخل منه لتجد محلات لبيع الكتب، فالأتراك يتسمون بحب المطالعة، أما عن السوق الرمضاني، فتأكد إنك إن ذهبت إليه مرة فإنك ستزوره مرة أخرى لأنه يذكرك بهويتك العربية، بعد أن جمعت إسطنبول وطناً عربياً مصغراً من كل الجنسيات العربية المختلفة.

ما يميز هذه السوق الرمضانية أنها تبقى لوقت متأخر من الليل، على الرغم من أن الشعب التركي يتميز بأنه يغلق محاله في وقت مبكر، فعادة حين تخرج في الساعة العاشرة ليلاً، تشعر كأنك بعد منتصف الليل، إلا أنهم خرجوا عن قاعدتهم في هذه السوق وأعطوها تميزاً، ليكون وجهة الساهرين بعد التراويح، يجدون ما يحتاجون من أشياء ويرفهون عن أنفسهم ريثما يحل وقت السحور، ليعودوا بعد ذلك ويصلوا الفجر في وسط مسجد صدح وأنير بنور الله في أيام رمضان المباركة.
font change