تورينو: «المجلة»
* تحطمت آمال جميع الأطفال المهاجرين دون ذويهم الذين التقينا بهم في تورينو، بإيطاليا، للحصول على مستقبلٍ أفضل وأكثر سعادةً من حاضرهم.
* يتجه الأطفال المحرومون من طفولتهم الممتعة والمتفائلة نحو الاستغلال والعبودية والإيذاء والعنف والموت وهم يفرون من الحرب والفقر والاضطهاد في بلدانهم.
* يأتي معظم الأطفال الذين يهاجرون إلى إيطاليا من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلّا أن هناك مؤخراً تدفقٌ هائل للقصر غير المصحوبين بذويهم من مصر.
*يتم إجبار أطفال كثيرين على اتخاذ قرارات صعبة بينما يحاولون الوفاء بمتطلبات الحياة.
*يعمل الأطفال المهاجرون بشكل غير شرعي في تجارة المخدرات والدعارة، أو يقعون ضحية مافيا الأعضاء البشرية.
*أكثر المحافظات تصديراً للهجرة غير الشرعية في مصر: أسيوط والغربية والدقهلية والفيوم والمنوفية والشرقية... ويتمركز معظمهم في تورينو وميلانو و روما بإيطاليا
[caption id="attachment_55259684" align="aligncenter" width="2524"] جانب من مؤتمر ائتلاف الجاليات المصرية في الخارج برعاية اتحاد المصريين في أوروبا الذي عقد في تورينو بإيطاليا وناقش مخاطر الاتجار بالأطفال (المجلة)[/caption]
التقت «المجلة» بعدد من الأطفال والشباب الذين وقعوا ضحية ظاهرة الاتجار بالأطفال، وهي التجارة المحرمة قانونيا وإنسانيا. ونظرا لخطورة هذه الظاهرة ليس على دول استقبال الهجرة فحسب وإنما على الدول المصدرة أيضا، فقد رحلت «المجلة» وراء أطراف المشكلة في تورينو بإيطاليا و مصر وليبيا وجنوب الصحراء في أفريقيا، موثقة الظاهرة بلقاءات بالفيديو مع الضحايا من الأطفال والشباب. ولعل الأرقام التي تكشف عمق هذه المأساة تكشف كذلك عن كل الأطراف المتضررة، الحكومة المصرية التي يتهمها بعض الأطراف بالتقصير مما يدفع أطفالها للهجرة، ترى شعبها ينزف سنوياً نحو 9 آلاف طفل في مقتبل العمر، ويحتاج كل طفل أو ذووه لتوفير 30 ألف جنيه على الأقل يحصل عليها السمسار مقابل تسفير طفل واحد، وأحيانا ما يصل المبلغ إلى 60 ألفا من أجل توصيل الطفل إلى السواحل الإيطالية أو اليونانية...
اللافت في هذه الظاهرة تزايد أعداد القصر المهاجرين خصوصا إلى إيطاليا لتصل نسبتهم إلى 41 في المائة من المهاجرين، فيما كشفت بعض الدراسات التي اطلعت عليها «المجلة» أن حجم الهجرة السرية وصل إلى ما بين 10 و15 في المائة من عدد المهاجرين في العالم.
وخلال رحلتها بتورينو، حضرت «المجلة» مؤتمرا بهذا الخصوص عقدته مجموعة ائتلاف الجاليات المصرية في الخارج برعاية اتحاد المصريين في أوروبا ناقش المشاكل الأكثر إلحاحاً التي يواجهها المهاجرون المصريون في إيطاليا.
وسلط المؤتمر الضوء على مخاطر الاتجار بالأطفال وهم أبرز ضحايا الهجرة غير الشرعية، كما ناقش المؤتمر سبل الحد من الهجرة غير الشرعية ودور الحكومات والمنظمات والجمعيات المعنية في مكافحتها. كما اهتم بالتركيز على استغلال الأطفال في أعمال الدعارة والاستغلال الجنسي، وفي الاتجار بالمخدرات أو بيع الأعضاء.
وقد أشار المؤتمرون إلى أن هجرة «الأطفال غير المصحوبين» ما زالت ذكورية في مجملها، حيث بلغت نسبة الذكور 99.9 في المائة، وتزداد في الفئة العمرية من 16 إلى 18 عاما بنسبة 73.2 في المائة، في حين تنخفض النسبة في الشريحة العمرية من 12 إلى 15 لـ 25.2 في المائة.
كما كشفت منظمة الهجرة الدولية عن أن مصر تأتي في المراتب المتقدمة في مجال الهجرة غير الشرعية للأطفال عبر البحر وذلك خلال الفترة الزمنية من 2011 إلى 2016. حيث سجلت إحصاءات المنظمة عام 2014 هجرة 2.007 أطفال من مصر إلى إيطاليا وحدها، وفي عام 2015 سجلت هجرة 2.610 أطفال من بينهم 1.711 غير مصحوبين بذويهم أي ما يعادل 66 في المائة من نسبة الأطفال التي هاجرت في تلك الفترة.
وتحدث فريق عمل المجلة مع الأطفال القصر بأحد ملاجئ الإيواء الواقعة في تورينو، حيث يستقرون في هذه الملاجئ. وأبلغ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 13 إلى 15 سنة عن كيفية تهريبهم عبر طرق معروفة لسماسرة الهجرة غير الشرعية في شمال مصر وليبيا، في طرق تبلغ تكلفة بعضها مليار دولار.
كل هذه الأرقام المفزعة والنتائج الكارثية لاستغلال الأطفال في تجارة المخدرات والأعضاء والاستغلال الجنسي... هل تدفع هذه الحقائق دول العالم المصدر للهجرة غير الشرعية والمستقبل لها على السواء إلى التكاتف من أجل مواجهة هذه الظاهرة؟.
هجرة إلى المجهول
[caption id="attachment_55259685" align="aligncenter" width="2400"]
مجموعة من الأطفال المحتجزين في أحد الملاجئ بتورينو (المجلة)[/caption]
هكذا سمحت قوانين إيطاليا – وليتها ما سمحت – بأن كل طفل (أقل من 18 عاماً) تطأ قدماه أرض إيطاليا، يكون مشمولاً بحماية الدولة الإيطالية ومؤسساتها... ولأن الطفل في جنوب المتوسط غير الطفل في شماله، فكان طبيعياً أن ما تراه القوانين والأعراف الأوروبية طفلا، يراه جنوب المتوسط رجلا يستطيع أن يتحمل مسؤولية أسرة، بل ويجازف بنفسه وعمره ويلقي بحياته وسط أمواج المتوسط القاسية وقلوب تجار البشر الأكثر قسوة...
هي معادلة قانونية معقدة إلى حد بعيد، أطرافها كثيرون ومختلفون في الأهداف:
أولاً: الحكومة الإيطالية التي وقعت في فخ تضارب الأعراف والثقافات من ناحية، وجشع مافيا تجارة البشر والمخدرات والجنس من ناحية ثانية..
وثانياً: الحكومة المصرية التي ترى شعبها ينزف سنوياً نحو 9 آلاف طفل في مقتبل العمر، ولا تستطيع فعل أكثر من مراقبة المتوسط، ولكن كيف لمجرد الرقابة الأمنية منع طموحات الثراء والهرب من الفقر والجوع...
وثالثاً: الآباء والأمهات الذين لم يجدوا أمامهم إلا أن يلقوا بأطفالهم عرض البحر عله ينجو فتنجو وراءه أسرة كاملة كبيرة العدد وثقيلة الهم، وإن لم ينجُ فقد استراح الصبي من عناء يعرف أبواه مدى قسوته
وأخيراً: ذاك الصبي/ الطفل الذي يهرب من عدو إلى عدو، من انعدام الفرص والجوع إلى الغرق والموت، وإن نجا فإلى أيدي تجار الجنس والمخدرات والأعضاء البشرية. غير أنه لا يجد غير هذا... الجوع خلفكم والبحر أمامكم؛ وقد جربنا الجوع فماذا عساه يحدث لو جربنا البحر بملوحته وقساوته؟
طريق الهلاك
توفي أحد الفتيان على متن القارب. ظل يتقيأ حتى مات. وبدون تردد أو أي احترام لحياة الإنسان، قام المتاجرون القساة الذين يستفيدون من يأس وضعف الأطفال بإلقاء جسم الشاب في البحر المتوسط المحفوف بالمخاطر «وكأن شيئاً لم يحدث».
وقال أحمد: «جميعنا مستاءون. فقد كان واحداً منّا. كيف استطاعوا فعل ذلك به؟! هذا حرام». وأضاف: «أمرونا بألّا نتفوه بكلمة ومن يتكلم سيُلقى في البحر».
بالنسبة لأحمد، لم تبدأ المخاطر في البحر. ففي رحلته من محافظة القليوبية في مصر إلى الحدود الليبية، اختطفته القبائل البدوية مقابل فدية. «كانوا يريدون قتلى. خلعت الباب وهربت. ظللت أركض في الجبال».
سافر أحمد سيراً على الأقدام عبر الصحراء ومشى أميالاً كثيرة واجتاز الطرق الرملية الصعبة، في حين تعرض للحرارة والبرد والغبار. وأكمل طريقه بغض النظر عن اللصوص أو الليل أو خطر الفشل أو حتى الموت، فحلم الوصول إلى أوروبا دفعه أكثر للسير نحو الحدود الليبية والحصول على مستقبلٍ أفضل من الحاضر الذي يعيشه.
وأخيراً ومن حسن حظه تمكن أحمد من السفر إلى الحدود حيث بدأ رحلته التي دامت ستة أيامٍ إلى إيطاليا عبر المياه المرتفعة حيناً والمنخفضة أحياناً وعلى قاربٍ محمّلٍ بشكل مفرط وغير صالح للإبحار...
فهل كانت الرحلة الطويلة والشاقة تستحق كل هذا العناء؟
«لقد نمنا في الشوارع كثيراً. وهذا أكثر ما أندم عليه في حياتي. نحن متعبون هنا. كل يوم نرى أشياء تجعلنا نكره حياتنا». تماماً مثل آلاف الأطفال المصريين الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و15 عاماً الذين يقومون بهذه الرحلة كل عام، دفع أحمد عشرات الآلاف من الجنيهات المصرية ليتم تهريبه إلى إيطاليا بحثاً عن حياةٍ أفضل، مخاطراً بكل ما يملك كما لو كانت النتيجة مضمونة بطريقةٍ أو بأخرى. للأسف، تحطمت آمال جميع الأطفال المهاجرين دون ذويهم والذين التقينا بهم في تورينو، بإيطاليا، للحصول على مستقبلٍ أفضل وأكثر سعادةً من حاضرهم.
فكرة الهجرة غير الشرعية
بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) فإن تسعة من كل عشرة أطفال — مما مجموعه 25,846 طفلا — الذين عبروا البحر الأبيض المتوسط في 2016 كانوا غير مصحوبين بذويهم. ولقي ما يقدر بنحو 4,579 شخصاً حتفهم أثناء عبورهم البحر المتوسط بين ليبيا وإيطاليا في العام الماضي وحده، بينهم أكثر من 700 طفل. من المقلق جداً انتقال فكرة الهجرة غير الشرعية بوحشية في عقول الأطفال. فيتجه هؤلاء الأطفال المحرومون من طفولتهم الممتعة والمتفائلة والذين يجب أن نحميهم من الصدمة وحقائق العالم القاسية نحو الاستغلال والعبودية والإيذاء والعنف والموت وهم يفرون من الحرب والفقر والاضطهاد في بلدانهم. وقد أصدر البرلمان الإيطالي مؤخراً قانوناً تاريخياً لتعزيز الدعم والحماية للعدد الهائل من الأطفال الأجانب غير المصحوبين بذويهم والمنفصلين عن ذويهم الذين وصلوا إلى إيطاليا. ومع وصول ما يقارب ألفي طفل أجنبي إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط في أول شهرين من عام 2017، من المتوقع أن يستمر الاتجاه التصاعدي للوافدين هذا العام مما يجعل هذا القانون في وقته المناسب وذات صلة بالحالة السائدة.
عادةً، يأتي معظم الأطفال الذين يهاجرون إلى إيطاليا من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلّا أن هناك مؤخراً تدفقٌ هائل للقصر غير المصحوبين بذويهم من مصر، والذين يشكلون اليوم أكبر مجموعة من الأفراد. كانت الهجرة غير المشروعة في مصر تقتصر في السابق على الشباب ولكن مع ارتفاع نسبة الفقر والجوع وتزايد معدل البطالة بين الشباب في مصر، توسعت هذه الهجرة لتشمل الأطفال. جعلت هذه الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في مصر الأطفال اليائسين فريسةً واضحة للمهربين ومجموعات الاتجار بالبشر الذين يثيرون مخيلة أسر هؤلاء الأطفال ويعدونهم بالثروة ويزينون أفكارهم عن الهجرة. وتستفيد هذه المجموعات من القانون الإيطالي الذي ينص على أنه لا يمكن إعادة المهاجرين القصر في إيطاليا قسراً وينص أيضاً على تزويد جميع القاصرين الذين يقيمون على الأراضي الإيطالية بالمسكن الآمن والغذاء والتعليم. فتبيع الأسر الفقيرة واليائسة كل ما تملكه لتوفير ما يتراوح بين 30 و60 ألف جنيه مصري لتأمين مستقبل أفضل لأطفالها، مع علمهم بأن الموت سيلاحقهم في كل خطوة من هذه الرحلة الخطيرة. يغرق البعض في البحر والبعض الآخر يضيع دون ترك أي أثر خلفهم أما أولئك الذين ينجون فغالباً ما يتم استغلالهم من قبل المافيا الإيطالية.
وأعدت وزارة الهجرة قائمة بالعقوبات المفروضة على أهل الأطفال المهرَّبين والمهرِّبين أنفسهم. وتم إرسال هذه القائمة إلى وزارة الخارجية لتبدأ بالتنفيذ. وتصل هذه العقوبات إلى السَّجن مدى الحياة وغرامات ضخمة للجناة.
روما وميلانو وتورينو
والمحافظات التي تُعد المصدر الرئيسي للهجرة غير الشرعية هي أسيوط والغربية والدقهلية والفيوم والمنوفية والشرقية. أما بالنسبة للمدن والقرى الرئيسية، فهي تشمل أبنوب في أسيوط وأطسا في الفيوم والكفر في الغربية ومطوبس في كفر الشيخ. وتقدر الإحصاءات الرسمية الصادرة عن منظمة العمل الدولية أن الهجرة غير الشرعية تشكل بين 10 و15 في المائة من المهاجرين في العالم. وأظهرت البيانات أن محافظة أسيوط تحتل المرتبة الأولى في الهجرة غير الشرعية.
ويتركز معظم الأطفال في ثلاث مناطق في إيطاليا وهي: روما وميلانو وتورينو. والمناطق التي يُرَحّلون منها على الساحل المصري هي إدكو ورشيد وأبو قير. يبقى الأطفال من جميع الجنسيات - المصرية والصومالية والسورية والعراقية - في رشيد استعداداً لتهريبهم إلى مدينة سرت الليبية، وهي أقرب منطقة لمدينة كالابريا التي تقع جنوب غربي إيطاليا. ولا يقتصر تهريب الأطفال على الطرق التي تمر عبر الساحل المصري المطل على البحر المتوسط فالأطفال غالباً ما يقومون برحلات خطرة من قرية السلوم إلى شواطئ ليبيا بالتنسيق مع المهربين الذين يملكون شبكات تعمل في مصر وإيطاليا.
وتسيطر الشبكات الإجرامية على الممر الرئيسي للتهريب عبر البحر المتوسط والذي يعتبر ممرّاً للأعمال ويساوي مليار دولار. وهو من بين أكثر الرحلات خطراً في العالم للأطفال. فمن دون أي وسيلة لتحقيق أحلامهم بالوصول إلى أوروبا عبر الممرات القانونية، يُجبر الأطفال على سلوك هذا الممر وتحمل عواقب أخطاره حاملين معهم آمالًا وأحلاماً يعتقدون أنها لن تتحقق أبداً في بلدانهم الأصلية.
[caption id="attachment_55259686" align="aligncenter" width="1003"] صورة تجمع مجموعة من الأطفال اللاجئين بمعسكر للإيواء في تورينو مع عصام عبد الصمد رئيس اتحاد المصريين في أوروبا ومحمود عوض الله رئيس فرع الاتحاد في إيطاليا (المجلة)[/caption]
وكان سالم، وهو صبي يبلغ من العمر 17 عاماً من محافظة المنوفية، على وشك الانضمام إلى لائحة حصيلة القتلى في البحر الأبيض المتوسط عندما انقلب القارب الذي كان يسافر فيه، مما أسفر عن مصرع 100 من الركاب البالغ عددهم 300. وعندما نُقل الناجون إلى الشاطئ، أخبرنا بأن المخابرات المصرية ضبطتهم.
وبعد يومين عاد سالم إلى المدرسة حيث كان يأخذ دورة مهنية عندما تلقى مكالمةً من المهربين، ومع أهوال البحر التي لا تزال جديدة وعالقة في ذهنه، وافق سالم على المحاولة مرة أخرى.
«كنا 300 شخص. والقارب لا يتحمل حتى 50 شخصاً. كان صغيراً جداً. وأخبرونا أن القارب كبير. كان الأمر مشجعاً. وبسبب الأشياء التي قالوها لنا لم نشعر أن لدينا ما نقلق بشأنه».
وأوضح سالم أنهم على مدار خمسة أيام، لم يحصلوا على أكثر من نصف كوب من الماء يومياً والقليل من الطعام. وفي اليوم السادس انقلب القارب، وجاءت قوارب من اليونان والصليب الأحمر الإيطالي لإنقاذهم.
«عندما وصلنا إلى إيطاليا عرض بعض الناس تبنينا، ولكن لم يقبل أيٌّ منَّا ذلك. لم نرغب في تغيير أسمائنا أو أن يكون لنا آباء مختلفون، وقيل لنا إنهم قد يستغلوننا في أمور سيئة».
سألنا سالم عن سبب مخاطرته بحياته للمرة الثانية وعمره 17 عاما فقط، فأخبرنا أن عدم توفر فرص العمل هو الدافع الأول له. وقال: «تعلم كيف تكون الحياة في مصر... وقد شجعني أصدقائي على الذهاب. لم أذهب وأنا سعيد، لم أجد أن لدي مستقبلاً في مصر. كنت أدرس في التعليم المهني، فما هي الوظيفة التي سأحصل عليها عندما أتخرج؟».
أخبرنا سالم الذي يعيش الآن مع عمه أنه لا يشجع أي شخص على تكرار ما فعله، وأنه يتمنى العودة إلى مصر. وقال: «أُخبر أصدقائي ألا يأتوا. لا يوجد عمل هنا. أنا نادم على المجيء».
في أثناء وجودنا في السوق الذي يعمل به سالم، قابلنا أحد زملائه، ويسمى أحمد، وهو يشعر كذلك بأن حلمه الأوروبي قد تحول إلى خيبة أمل مريرة. وروى لنا أحمد رحلته المحفوفة بالمخاطر والتي خاضها منذ 10 أعوام قائلا: «جئت عن طريق البحر، ورأيت الموت بعيني، إنه شيء لا أستطيع وصفه». وأضاف: «لا أنصح أي شخص بالهجرة بالقوارب. لقد غرق القارب الذي سافر فيه ابن عمي، ولم نجده مطلقا. ولا نعلم إن كان حياً أو ميتاً».
وأوضح: «إيطاليا ليست كما كانت». وأضاف أنه من المستحيل تقريباً العثور على وظيفة مستقرة ولها أجر يكفي من أجل البقاء والادخار، كما أن وجود مهاجرين في فترة يشهد فيها العالم اعتداءات إرهابية كبيرة يشعل العنصرية داخل المجتمعات.
يتم إجبار أطفال كثيرين على اتخاذ قرارات صعبة بينما يحاولون الوفاء بمتطلبات الحياة. أخبرنا أحمد أن الأطفال يجدون أنهم يدخلون إلى عالم المخدرات والدعارة ليتجنبوا مصير الإلقاء في الشوارع. «لا يساند أحدٌ أي شخص هنا، خاصة إن لم يكن لديك عائلة». ومن المؤسف أن الاستغلال الجنسي للأطفال المهاجرين منتشر للغاية. اكتشف فريق من الأطباء الإيطاليين الذي تولوا فحص الأطفال القادمين دون عائلاتهم أن 50 في المائة منهم تعرضوا لأمراض منقولة جنسيا، مما يوضح حجم المأساة الإنسانية.
عبَّر أحمد عن ندمه آسفاً على قراره بمغادرة مصر، وقال إنه خسر شبابه وعائلته، ويأمل في أن يتحسن الوضع في مصر حتى يتمكن من العودة والبحث عن عمل. وقال: «حتى إذا كنت أكسب المزيد هنا، فأنا أخسر الكثير. لقد خسرت شبابي ولم أر عائلتي منذ عشرة أعوام، وتوفي والدي ولم أره مطلقا. أنا أخسر أكثر مما أجني».
ومن جانبها، طالبت وزارة الخارجية المصرية مرارا الحكومة الإيطالية بالتدخل مع مؤسسات رعاية الأطفال للحد من نفوذ العصابات على الأطفال، لا سيما وأن الإحصائيات تشير إلى أن أغلب الأطفال المصريين الذين يتم تهريبهم ويبلغ عددهم تسعة آلاف طفل يعملون في النهاية في تجارة المخدرات ويتم استغلالهم جنسيا.
وقد أرسلت المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة العديد من التقارير الخاصة بتلك القضية إلى الأمم المتحدة ووزارة الخارجية المصرية والصليب الأحمر الدولي، لمطالبتهم بإعادة الأطفال، ولكن لم تجد تلك التقارير أي استجابة.
في أثناء الفترة التي أمضيناها في تورينو، زرنا ملجأ للأيتام وقابلنا مجموعة من المهاجرين المراهقين المصريين. تساعد السلطات الإيطالية الأطفال المعرضين للخطر حتى سن 18 عاما على البقاء في تلك المؤسسات. وفي هذا الملجأ، بدا أن اللاجئين يتمتعون بدرجة من الحرية للذهاب والمجيء دون إشراف.
استغلال الأطفال في تجارة المخدرات
سألنا الأطفال في الملجأ، وكانت أعمارهم بين 14 و16 عاما، عما يعرفونه عن استغلال الأطفال في تجارة المخدرات وأكدوا أن المشكلة منتشرة. قال أحد الأطفال: «يمتلئ متنزه فالنتينو بهم، الجميع يعرفون من هم والسلطات تعرفهم ولكنها لا تفعل أي شيء. يجب أن يغلقوا المتنزه».
كان يوسف قادما من القليوبية في عمر 15 عاما عندما أخبر والديه بأنه سيتركهم بحثا عن حياة أفضل في إيطاليا. وقال: «كان أبي خائفا، وصرخ في وأهانني مرات عديدة. وأخبرني أنه لن يعطيني مالاً، ولكن عندما اكتشف أني غادرت كان عليه أن يسدد الثمن». والآن يتحدث يوسف مع والديه كل فترة.
وأخبرنا خالد أن الأوضاع في الملجأ جيدة وأن العاملين به يحسنون معاملتهم، ولكنه لا يحب أن يشعر بأنه محاصر. وقال: «ليس معنا مال ولا يمكننا العمل، ولذلك لا أحد سعيد في هذا البلد».
روى لنا عبد الرحمن الذي يعمل نقاشا في مصر أنه خاطر بحياته للعيش في إيطاليا لأنه شعر بعدم التقدير في عمله. وقال: «لا نشعر بأن قيمتنا المال الذي نحصل عليه». وقال إنه لم يكن لديه فكرة عما يخبئه له المستقبل ولكنه غير نادم على قراره.
وقال محمد، الذي كان يبلغ 15 عاما عندما وصل على متن قارب مع 650 شخصا آخر بعد قضاء 16 يوماً في البحر، إنه خطط للاستقرار في إيطاليا وادخار المال ثم العودة إلى مصر.
تبعث القصص التي سمعناها من هؤلاء الأطفال في أثناء زيارتنا إلى تورينو على الحزن والأسى البالغ. وتتوقع منظمة اليونيسيف أن ترتفع أعداد القُصَّر الذي يَعبُرون بمفردهم البحر المتوسط مع دخول فصل الصيف، وهناك مشاورات مستمرة بين الحكومتين المصرية والإيطالية تتعلق بأوضاع الأطفال المهاجرين إلى إيطاليا.