استمرار احتلال روسيا الهادئ لأوسيتيا الجنوبية
* عدم اتخاذ رد فعل دولي مناسب على ما حدث في جورجيا شجع بوتين على ضم منطقة القرم
* وزير المصالحة والمساواة المدنية: يوجد ما يزيد على 80 اتفاقية مزعومة بين أوسيتيا الجنوبية وروسيا لا تحمل أي شرعية دولية
فيلادلفيا (الولايات المتحدة): مايا أوتاراشفيلي
عندما ضمت روسيا منطقة القرم، كانت التداعيات قاسية: اشتعل الغضب العالمي وسريعا ما توالت الإدانات لتصرفات الكرملين وتبعها تطبيق عقوبات غربية ضد موسكو. ومع أن ذلك لم يوقف بوتين عن الاستمرار في سياساته التوسعية، أدت أزمة أوكرانيا دورا مهما في التدهور السريع الذي شهدته العلاقات بين روسيا والغرب، مما أثار نقاشات لا تنتهي في دوائر السياسة بواشنطن حول ما إذا كان الغرب قد دخل «حربا باردة ثانية» مع روسيا منذ عام 2014، ولكن هناك حد للعقوبات والغضب الذي يستطيع الغرب أن يوجهه ضد دولة معتدية واحدة. كانت هناك دائما تصرفات إجرامية، ربما تكون أقل في الأهمية الاستراتيجية (بالنسبة للغرب)، ترتكبها روسيا ضد جيرانها، ولكنها مرت دون وقوع أي تبعات ذات أهمية على روسيا. وأحد أبرز الأمثلة في هذا الصدد نموذج العلاقات الروسية الجورجية.
الإمبراطورية الصغيرة
كانت علاقات جورجيا، الإمبراطورية الصغيرة القديمة المستقلة بذاتها، متوترة مع جارتها الشمالية لمدة قرون. في عام 1801 فسخت الإمبراطورية الروسية معاهدتها للحماية مع جورجيا عندما احتلت الأراضي الجورجية. ومنذ ذلك الحين، دخلت حكومات وقوات جورجية متعددة في معارك خاسرة ضد روسيا ثم حكامها. وكان أحد هؤلاء الحكام، جوزيف ستالين الجورجي الأصل، والذي كان يعرف في جورجيا باسم أيوسيب جوغاشفيلي.
عندما استعادت جورجيا استقلالها عن روسيا في عام 1991، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، كما فعلت كثير من الدول الشيوعية السابقة، اندلعت حربان أهليتان داخل حدودها في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. تسبب الاستقلال الرسمي الجديد لجورجيا في نوع مختلف من الاعتماد على روسيا، حيث ساعدت موسكو على التوسط في وقف إطلاق النار في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ونشرت قوات «حفظ سلام» دائمة في المنطقتين الانفصاليتين اللتين أعلنتا حكما ذاتيا بالفعل. ومنذ ذلك الحين، تسبب وجود قوات عسكرية روسية في المنطقتين في مواجهات عنيفة لا تنتهي بين الجورجيين وحكومتي الأمر الواقع. أدت أحدث تلك المواجهات التي وقعت في عام 2008، إلى اندلاع حرب في أوسيتيا الجنوبية، مما أسفر عن قصف روسيا لمناطق جورجية غير متنازع عليها. وفي حين كان الغرب وسيطا مهما في اتفاق وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب بعد خمسة أيام، كان الضرر الواقع على جورجيا غير قابل للإصلاح من عدة أوجه. كان من الملحوظ أن القوات الروسية وضعت حاجزا من الأسلاك الشائكة بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية، وهو ما وصف بعد ذلك «بالاحتلال الزاحف» نظرا للمرونة الواضحة لتلك الحدود، حيث تُحرك القوات الروسية الحاجز باستمرار في عمق الأراضي الجورجية غير المتنازع عليها. ويوجد سبب لذلك الاحتلال الزاحف، إذ تركت «الحدود» الموضوعة حديثا جزءا من خط أنابيب شركة «بي بي» داخل أراضي أوسيتيا الجنوبية الخاضعة لسيطرة روسيا. ويُذكر أن خط الأنابيب ينقل النفط من أذربيجان إلى البحر الأسود عبر جورجيا. ويسهل ذلك على روسيا عملية تخريب خط الأنابيب وقتما تريد.
روسيا تعتزم ضم أوسيتيا الجنوبية
منذ حرب عام 2008، توصل الخبراء إلى أن عدم اتخاذ رد فعل دولي مناسب على ما حدث في جورجيا، شجع بوتين على ضم منطقة القرم. ولكن مشكلة جورجيا مع روسيا لم تنته في عام 2008. ففي مارس (آذار) عام 2015، بعد عام فقط من ضم روسيا لمنطقة القرم، وقعت معاهدة «تحالف وتكامل» مع حكومة الأمر الواقع في أوسيتيا الجنوبية في تسخينفالي. تعني هذه المعاهدة بالضرورة أن روسيا تعتزم ضم أوسيتيا الجنوبية. وتم توقيعها من أجل «إضفاء شرعية على اتحاد أوسيتيا الجنوبية مع روسيا». تتجاوز بنود المعاهدة مجالات التعاون العسكري وتتضمن استحواذ روسيا على السيطرة الحدودية والأموال والاقتصاد والتعليم والرعاية الصحية ونظم الرخاء الاجتماعي في أوسيتيا الجنوبية. وعلى الجانب الآخر، رفعت المعاهدة جميع الحدود والقيود على حركة السلع والأشخاص بين الأراضي الروسية والأوسيتية الجنوبية. وتتضمن بعض البنود الخاصة في المعاهدة قيام أوسيتيا الجنوبية بتسليم جميع شؤون الدفاع إلى روسيا بما فيها الدفاع عن الحدود الأوسيتية (تقع جورجيا على الجانب الآخر من الحدود).
بنود المعاهدة
توضح الفقرات المختارة من المعاهدة والمذكورة فيما يلي مدى إحاطة هذه المعاهدة المثيرة للجدل. وفي حين أنها لم تذكر ذلك بوضوح، يعني تنفيذ بنود المعاهدة ضم روسيا لأوسيتيا الجنوبية بحكم الأمر الواقع.
- تنقل جمهورية أوسيتيا الجنوبية إلى روسيا الاتحادية مسؤولية حفظ القانون والنظام والأمن العام والسيطرة على تهريب المخدرات، بالإضافة إلى إدارة أجهزة الشؤون الداخلية، وهيئات التحقيق، ومصلحة السجون في أوسيتيا الجنوبية.
- توافق أوسيتيا الجنوبية على نقل مسؤولياتها في مجال الجمارك والتنظيم الجمركي إلى روسيا الاتحادية. وتصبح مصلحة الجمارك في أوسيتيا الجنوبية جزءا من هيئة الجمارك التابعة لروسيا الاتحادية.
- يحق لمواطني أحد طرفي المعاهدة الحصول على جنسية الطرف الآخر في المعاهدة بموجب إجراءات مبسطة. ولا تنطبق القيود التي تفرضها روسيا الاتحادية على من لا يحملون الجنسية الروسية من مواطني أوسيتيا الجنوبية.
- يجب على جمهورية أوسيتيا الجنوبية، بدعم من روسيا الاتحادية، أن ترفع تدريجيا متوسط أجور موظفي الدولة وأجهزة الحكومة المحلية إلى مستوى مشابه لمستوى أجور فئات العاملين الملائمة في منطقة شمال القوقاز الفيدرالية التابعة لروسيا الاتحادية.
- (ملخص فقرات متعددة) يحق للمواطنين الروس المقيمين بصفة دائمة في جمهورية أوسيتيا الجنوبية الحصول على معاشات وإعانات وأشكال التضامن الاجتماعي الأخرى على مستوى مشابه لمتوسط المعاشات وأشكال التضامن الاجتماعي الأخرى في منطقة شمال القوقاز الفيدرالية. وتنطبق القوانين واللوائح الروسية وكذلك إعانات برامج الرخاء الاجتماعي الروسية على جميع هؤلاء الأفراد المقيمين في أوسيتيا الجنوبية الذين يحصلون على الجنسية الروسية.
- يساعد البنك المركزي في روسيا الاتحادية البنك الوطني في جمهورية أوسيتيا الجنوبية في تنفيذ السياسة النقدية وتقوية النظام المالي في أوسيتيا الجنوبية.
كذلك يتضح أن البعد العسكري لهذه المعاهدة شامل لكل شيء. وفقا لبنود المعاهدة، سيتم التعامل مع أي عدوان من أطراف خارجية (من بينها جورجيا) ضد أوسيتيا الجنوبية على أنه عدوان على روسيا، ومن ثم يسمح لروسيا بشن حروب مستقبلية محتملة على جورجيا.
أدانت الحكومة الجورجية، بالإضافة إلى الحكومات الغربية، المعاهدة ورفضت الاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية، أو انضمامها إلى روسيا وفقا لشروط المعاهدة. ولكن الواقع لا يزال مفروضا وفقا لروسيا وأوسيتيا الجنوبية.
في 14 مارس، تصدرت أخبار روسيا وأوسيتيا الجنوبية عناوين الأخبار مرة أخرى، حيث صادق الرئيس بوتين على اتفاقية دفاع روسية لاستيعاب القوات العسكرية في أوسيتيا الجنوبية. وتجري وزارة الدفاع الروسية في الوقت الحالي محادثات مع حكومة الأمر الواقع الأوسيتية الجنوبية في تسخينفالي لتوقيع الاتفاقية. تعد هذه الاتفاقية واحدة من عدة خطوات أشير إليها في الأساس في معاهدة التحالف والتكامل. وسوف تسمح بنود هذه الاتفاقية الجديدة للجيش الروسي بالاستحواذ على جيش أوسيتيا الجنوبية بالكامل. بموجبها، سيصبح أفراد الجيش الأوسيتي الجنوبي الذين يحملون الجنسية الروسية (والذين بسبب حملة الحصول على الجواز السفر الروسي في أوسيتيا الجنوبية أصبحوا يمثلون الآن أغلبية سكان أوسيتيا الجنوبية) تلقائيا منضمين إلى الجيش الروسي. ونتيجة لذلك، في غضون فترة زمنية قصيرة، لن يكون لأوسيتيا الجنوبية قوات عسكرية خاصة بها، لتترك روسيا مسؤولة بالكامل عن دفاعها وأمنها وأنشطتها العسكرية.
اتفاقيات تفتقد الشرعية
ووفقا لما صرح به كيتيفان تسيخيلاشفيلي، وزير المصالحة والمساواة المدنية (وهي الوزارة الحكومية المعنية بتسوية العلاقات بين جورجيا ومناطقها الانفصالية): «يوجد ما يزيد على 80 اتفاقية مزعومة بين الطرفين، التي لا تحمل أي شرعية من وجهة نظر القانون الدولي، ولكن تستخدمها الحكومة الروسية لممارسة نفوذ حصري على جميع المجالات (في أوسيتيا الجنوبية) ولاتخاذ خطوات نحو (الترويس) وضم الأراضي بحكم الأمر الواقع. وذلك غير مقبول على الإطلاق، ونحن ندعو المجتمع الدولي إلى تكثيف الضغوط على روسيا لوقف تلك التصرفات».
منذ توقيع معاهدة التحالف والتكامل في عام 2015، ذهبت حكومة الأمر الواقع في أوسيتيا الجنوبية إلى ما هو أبعد من ذلك بإبداء تطلعها إلى أن تصبح جزءا من الأراضي الروسية، إذ أعلنت رغبتها في إجراء استفتاء من أجل الانضمام إلى روسيا، واستفتاء آخر لتغيير اسمها إلى «أوسيتيا الجنوبية - جمهورية ألانيا» لتشبه الأراضي الروسية التي يطلق عليها «أوسيتيا الشمالية - جمهورية ألانيا» والاتحاد مع تلك الجمهورية. ومن المقرر أن تُجري تسخينفالي انتخابات رئاسية في مطلع أبريل الحالي، ووفقا لتقارير حديثة، سيتم إجراء استفتاء على تغيير الاسم في اليوم ذاته.
ويستمر تنفيذ معاهدة التحالف والتكامل بالتوازي مع جهود جورجيا للاندماج مع الاتحاد الأوروبي. وفي غضون أسابيع، سوف يبدأ الاتحاد الأوروبي في تنفيذ سياسة تحرير التأشيرات مع جورجيا، والتي سوف تسمح للمواطنين الجورجيين بالسفر من دون تأشيرة إلى الدول الأعضاء في الاتحاد. ويأمل صناع السياسات الجورجيون في أن هذه الميزة المحفزة الجديدة سوف تقنع مزيدا من الأوسيتيين الجنوبيين بالحصول على جوازات سفر جورجية، ولكن ذلك مستبعد الحدوث في ظل ضم روسيا الفعلي لأوسيتيا الجنوبية.