بقلم: رشيد الخيُّون
لا تبدو الرَّسائل بين الخلف والسَّلف مِن السّنين بالغريبة؛ فالزَّمن يعيشه النَّاس، وتُسجل حوادثه في ساعاته وأيامه؛ ومَن يقرأ محمد بن جرير الطَّبري (ت310هـ) «تاريخ الأمم والملوك»، وما صُنف مِن بعده في التاريخ على طريقته، سيجده عبارة عن رسائل بين السنين، وعلى مدى الدَّهر تجد التسليم والتسلم قائمًا بينها، وبين العقود، وبين القرون، حتى مَن حصر تاريخه بمائة سنة مِن مئات التاريخ (الحوادث الجامعة والتجارب النَّافعة في المائة السَّابعة) مثلاً، وهكذا تتداول الأيام.
ليس اعتباطًا يتبادل النَّاس التهاني بانقضاء سنة وقدوم أخرى؛ وهم لا يقصدون انقضاء الخير فيها بقدر ما يقصدون تجاوز الشَّر منها، أن لا يصاحبهم إلى السنة الجديدة، ولكلِّ أهل دين وقومية رأس سنتهم، ومِن أسباب ذلك وموجباته: ذكرى بداية الخليقة، أو ميلاد الدِّيانة نفسها، أو حدث فاصل في تاريخ القوم، وكلُّها تتوج بالأعياد.
غير أننا لسنا خارج هذا العالم، كي لا نحسب لتجدد السّنين الميلادية حسابها، فالدُّنيا، مثلما نرى ونسمع، غدت قرية صغيرة، ولا تعني هذه الجبال والوديان والبحار حواجز بين آفاقها، والقول لمَن نقل عنه أبو حيان التوحيدي (ت414هـ)، أبو سليمان محمد بن طاهر السّجستاني (ت380هـ)، عندما سأله عن سرّ الصَّداقة بينه وبين ابن سيار القاضي، والأول بسجستان والثَّاني بالصَّيمرة، وهما بلدان متباعدان، فأجابه قائلاً: «الأمكنة في الفلك أَشدُّ تضامنًا مِن الخاتم في أُصبعك، وليس لها هذا البُعد الذي تجده بالمسافة الأَرضية مِن بلدٍ إلى بلد بفراسخ تُقطع، وجبال تُعلى، وبحار تُخرق» (التوحيدي، الصَّداقة والصَّديق).
لا نبالغ إذا قلنا إنه تعبير مبكر عن العولمة، التي نعيشها تامة في هذا الزَّمان، فكيف نعاب على استعمال تاريخ صار شأنه دوليًا، وإلا فرؤوس السّنين متعددة في هذه الدُّنيا، ليس بين المسلمين والمسيحيين ولا بين أوروبا وبقية القارات، إنما متعددة داخل بقعة جغرافية واحدة بين دين وآخر، إلا أن العالم جميعًا توحد بالاحتفال، فالأعمار والمواعيد الدُّولية والمحلية غدت وفق الميلاد.
أقول هذا لأن هناك مَن اعتبر الاحتفال بالعام الجديد، أو الكتابة في المناسبة، معصية مِن المعاصي أعاذنا الله منها، لكنَّ الشّهور التي نتداولها، مِن ثقافة منطقتنا ومحيطها، مع اختلاف الأسامي، مِن يناير و(كانون الثَّاني) وحتى ديسمبر و(كانون الأول)، ومعلوم أن كانون مفردة سريانية معناها «الشِّتاء»، و«كانون» تستخدم قبل وسائل التدفئة الحديثة، بمعنى الحطب الموضوع في الموقد والمشبوب نارًا.
إن فكرة الرَّسائل بين عام وآخر مطروقة، قرأتها قبل 49 عامًا، في مجلة لم أعد أتذكر اسمها، رسالة موجهة مِن 1967 إلى 1968. وأكثر ما كان يشكو السَّلف للخلف «النَّكسة»، على اعتبار أن «النَّكبة» تسمية اختصت بما حدث (1948). كانت الرِّسالة مؤلمة، حمل بها السَّلف خلفه مهمة محو النَّكسة، التي غيرت عالمنا تمامًا، وأنعشت الثَّورات والإسلام السِّياسي، ومنها وبسببها خرج شعار «الإسلام هو الحلّ»، وأي ظهور لأمر جديد يُنسب ليونيو (حزيران) 1967. وجاء الخلف وزاد الخسف.
كان العام 2016 محملا بالهموم والنَّكبات الجسام، عام الإرهاب ومكافحته المتعثرة أيضًا، ودعونا نقرأ الرِّسالة بعد استهلالٍ أوجبته المناسبة:
«كنتُ أظن أن الحوادث التي ورثتها من أعوام ما بعد الغزو الأميركي لأفغانستان ثم العراق ستنتهي؛ كي لا أُحملك وزرها، ولكن، ما أن أزف الرَّحيل وإذا أُسلم لك حلب وبقية المدن السورية خرائبَ، هجرها أهلها، ومعلوم مَن يعبر البحار لا عودة له، وآخرها أيضًا خلفتُ لكِ تفجير برلين، وكان الحدث الجسيم، ليس لأنه تفجير خطير، فما أكثر الأخطار، لكنه جاء نوعيًا، وفي أعياد الميلاد، وقصد سوق المناسبة، وكأنه موجهًا إلى دين لا مكان، وكانت ألمانيا الأكثر تعاطفًا مع المزاحين عن أرضهم، وإذا بأحدهم يفعلها.
أترك لك ليبيا حطامًا، وهكذا تسلمتها، واليمن مائجة هائجة، وديانها وجبالها في النَّهار غيرها في اللَّيل، أما العِراق فأمره أمر، ثلثه ليس معه، ورأسه يتدلى مثقلاً بدعوات الانفصال، وكان الأمل عودة الموصل، وتطفأ الطائفية، وإذا بالحشود تتقابل، على دعوى عمرها ألف وأربعمائة عام، والسؤال الذي لا يعني الزَّمن بماضيه القريب وحاضره ناهيك عن مستقبله: لمَن الإمامة؟! ومَن يُعتقد أن الأوائل اختلفوا لكنهم حكموا واصطلحوا ومضوا لسبيلهم.
أترك لك المنطقة هائجة، والعالم يقف على قرن ثور، سأغادر ولم أعرف أي إنجاز كبير أنجزته، كي أضعه خميرة بين يديك، فما عادت تُقال إنجازات الطِّب والعلوم ولا الزِّراعة ولا الاقتصاد على العموم، وما زال الإرهاب يفترس الأرواح فلا صوت يعلو على صوته. أنسحب و«داعش» ما زال أمرها سرًا، قد تنتهي ويُكشف المستور، لكن ما قيمة ذلك والحق قد ابتلعه الباطل. معك سيبدأ رئيسًا أميركيًا جديدًا ملأ الأثير تهديدًا، وشاعت حوله حكايات عجيبة.
ختامًا، مع كل المحبطات التي خلفتها لك، تركت لك، في أواخر ساعاتي، ما يخفف قليلاً عن إرث العقود الخوالي، إنها أول مرة، ومنذ مبادئ ويلسون الأربعة عشر (1918)، أن تدافع أميركا عن الباطل، قضي الأمر بإيقاف الاستيطان وتحريمه بفلسطين، وهذا أقصى ما قدرت على فعله لك، أودعك بأمل عساه يجدي».
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.