كيف تُغير النزعة الشعبوية السياسة الخارجية الأميركية

كيف تُغير النزعة الشعبوية السياسة الخارجية الأميركية

[caption id="attachment_55256307" align="aligncenter" width="855"]جايك كروبا يلون في خريطة انخابية بينما تظهر نتائج الانتخابات في حفل لمتابعة الانتخابات الأمريكية في فلوريدا. (غيتي) جايك كروبا يلون في خريطة انخابية بينما تظهر نتائج الانتخابات في حفل لمتابعة الانتخابات الأمريكية في فلوريدا. (غيتي) [/caption]

استطلاعات الرأي لا تصنع السياسات
• 65%من الجمهوريين و73 % من الديمقراطيين يريدون من الرئيس الأميركي التركيز على الشؤون الداخلية بدلا من الخارجية
• يعتقد 74 % من الجمهوريين أن الولايات المتحدة لم تصل إلى المدى الكافي في محاربتها لتنظيم داعش في العراق وسوريا




واشنطن: ستيفن سيستانوفيتش


في عدد الشهر الماضي من مجلة «فورين أفيرز»، قدم ريتشارد فونتاين وروبرت دي كابلان تحليلا لتأثير حملة الشعبوية التي انطلقت العام الحالي على السياسة الخارجية الأميركية. قال الكاتبان إن الصعوبات الاقتصادية جعلت الأميركيين أقل رغبة في أن تؤدي بلادهم دورا كبيرا في الخارج. وحتى لو لم يصل أي من دونالد ترامب أو بيرني ساندرز إلى منصب الرئاسة، كان صناع السياسات في المستقبل سينتبهون إلى تلك المشاعر القوية التي خاطبها هذان المرشحان.

للوهلة الأولى تؤكد البيانات هذا الرأي. كشف تقرير من مركز بيو للأبحاث تم نشره في 5 مايو (أيار) أن 65 في المائة من الجمهوريين و73 في المائة من الديمقراطيين يريدون من الرئيس الأميركي التركيز على الشؤون الداخلية بدلا من الخارجية. ويتفق نحو ثلثي مؤيدي الرئيس المنتخب ترامب على أن الولايات المتحدة تعاني بسبب تدخلها في الاقتصاد العالمي. ويتفق 61 في المائة من الأميركيين (بالإضافة إلى 71 في المائة من الجمهوريين) على أن الولايات المتحدة فقدت الاحترام الدولي الذي كانت تتمتع به في السابق.

ولكن إذا ألقينا نظرة أكثر عمقا، سيبدو الإجماع الشعبوي مهتزا. في كثير من القضايا الأكثر أهمية، تظل المشكلة الكبرى عدم الاتفاق بين الطرفين – ولا سيما بين ناخبي ترامب وناخبي ساندرز. في الأعوام الخمسة الأخيرة تضاعف تأييد زيادة نفقات الدفاع إلى أكثر من ثلاثة أضعاف بين الجمهوريين المحافظين، ليصل إلى 67 في المائة بعد أن كان 20 في المائة. ويصل الرقم بين أنصار ترامب إلى 66 في المائة. في المقابل يريد 16 في المائة فقط من مؤيدي بيرني زيادة ميزانية البنتاغون، بينما يُفضل 43 في المائة تخفيضها.

وبالطبع من المفهوم أن الجمهوريين مؤيدي زيادة الإنفاق يُفضلون أن يكون الدفاع القومي قويا ولكنهم أصبحوا أكثر حذرا بشأن الاستخدام الفعلي للقوة العسكرية. بيد أن الاستطلاعات تشير إلى خلاف ذلك. يعتقد 74 في المائة من الجمهوريين أن الولايات المتحدة لم تصل إلى المدى الكافي في محاربتها لتنظيم داعش في العراق وسوريا. ولا يريدون فقط شن المزيد من الغارات الجوية، بل يُفضل 68 في المائة من الجمهوريين إرسال قوات برية، ويظل الرقم مرتفعا بين مؤيدي ترامب حيث يبلغ 70 في المائة. ويختلف معهم الديمقراطيون الليبراليون: فهم يعارضون إرسال قوات برية بنسبة 75 في المائة إلى 21 في المائة.

خلافات حزبية



تظهر الخلافات الحزبية بوضوح صارخ كذلك عندما يتعلق الأمر بمواقف السياسة الخارجية الواسعة. لدى سؤالهم عما إذا كانت الولايات المتحدة تذعن أكثر مما ينبغي لمصالح دول أخرى، قال 58 في المائة من الجمهوريين نعم، في مقابل 22 في المائة من الديمقراطيين. كذلك سأل القائمون على استطلاع الرأي في بيو عن الأهمية التي يعطيها الأشخاص للحفاظ على مكانة الولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى الوحيدة في العالم. أجاب 67 في المائة من الجمهوريين (و70 في المائة ممن يسمون أنفسهم جمهوريين محافظين) بأن الولايات المتحدة يجب أن تسعى إلى البقاء في القمة؛ بينما وافق 35 في المائة فقط من الديمقراطيين الليبراليين على ذلك.

يوجد أيضا اتجاهان في الرأي العام يتجاوزان خلافات الحزبين وسيكون على الرئيس ترامب وضعهما في الحسبان. يتعلق الأول بما يُمكن أن يُطلَق عليه صورة الولايات المتحدة عن ذاتها. بغض النظر عما يتردد عن التشاؤم الشعبي، فإن نسبة المشاركين في الاستطلاع الذين قالوا إن الولايات المتحدة هي أكبر قوة اقتصادية في العالم ارتفعت بمعدل ثماني نقاط في العام الأخير فقط – لتبلغ 54 في المائة، وهي أعلى نسبة منذ وقوع الأزمة المالية في عام 2008. وعندما سأل مستطلعو الآراء عن القوة العسكرية الأميركية حصلوا على إجابة مشابهة: صرح 72 في المائة من المشاركين لمركز بيو بأن الولايات المتحدة هي الأولى. (وذلك في ارتفاع عن نسبة 64 في المائة التي كانت منذ ثلاثة أعوام). ويبدو أن التعامل مع قضايا، مثل القرم وإيران وتنظيم داعش وتجاوزات الصين في بحر الصين الجنوبي، جعل الأميركيين يشعرون بمزيد من السيادة وليس أقل.

أستطلاعات الرأي



ربما يكون الاتجاه الثاني الذي يصعب قياسه هو الأهم. على مدار عقود عديدة، واجه مستطلعو الآراء صعوبات في معرفة أفضل وسيلة لقياس توجهات السياسة الخارجية المتغيرة. بغض النظر عما يجري في العالم، على سبيل المثال، عندما سئل المشاركون عن مدى أهمية المخاوف المحلية مقابل المخاوف الخارجية وضعت الغالبية العظمى منهم الشؤون الداخلية أولا. (عندما انتخب باراك أوباما رئيسا منذ ثمانية أعوام، أعطت النسبة ذاتها من الجمهوريين والديمقراطيين هذه الإجابة – وهم 79 في المائة). وعلى الرغم من أن مركز بيو ظل طوال عقود يسأل الناس عن نوع الدور العالمي الأميركي الذي يفضلونه، لم تتزحزح النسبة التي أجابت بـ«قائد العالم الأوحد» إلى أقل أو أكثر من 12 في المائة.

ومع ذلك يمكن أن تكون التغيرات المفاجئة في نتائج الاستطلاع ذات أهمية بالغة. في نصف القرن الأخير، كانت هناك ثلاث فترات فقط كشف فيها مركز بيو عن انخفاض حاد وثابت في التأييد الشعبي لفكرة أن «أميركا يجب أن تهتم بشؤونها الخاصة على المستوى الدولي». وجاءت بعد كل فترة منها مرحلة أكثر نشاطا في مجال السياسة الخارجية. في أواخر السبعينات من القرن الماضي، حدث انخفاض في نسبة تأييد فكرة الاهتمام بالشؤون الخاصة بنحو 10 نقاط (من 43 في المائة إلى 33 في المائة) قبل النشاط الذي اتسمت به السياسة الخارجية في عهد ريغان. وفي منتصف التسعينات، حدث انخفاض مشابه (من 41 في المائة إلى 32 في المائة) قبل زيادة النشاط في الأعوام الأخيرة من رئاسة كلينتون وبداية حكم بوش الابن. في الأعوام الثلاثة الماضية، بدأ عدد الأميركيين الذين يقولون إن البلاد يجب «أن تهتم بشؤونها الخاصة» في الانخفاض من جديد، من أعلى نسبة على الإطلاق بلغت 52 ليصل إلى 43 في المائة. تختلف الآراء بشدة حول الدور الذي يجب أن تؤديه الولايات المتحدة في الخارج، ولكن على الأقل يبدو الاتجاه واضحا. وعلى خلاف ما يدعيه فونتاين وكابلان، يظهر الشعب أكثر استعدادا لمزيد من التدخل.

حملة ترامب



والآن تخيل أن عليك إطلاع دونالد ترامب على ما تعنيه نتائج هذه الانتخابات بالنسبة لحملته الشعبوية. لا يعكس إخباره بتحول الولايات المتحدة إلى الاهتمام بالداخل فقط حجم التعقيد الذي تتضمنه الإحصائيات. لا يؤيد الرأي العام رؤية ترامب بأن التحالفات الأميركية ربما أصبحت بالية – إذ يعتبر 77 في المائة من الأميركيين أن عضوية الناتو في صالح الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، يختلف ناخبو ترامب مع مرشحهم حول التدخل في سوريا وهم أكثر صراحة منه بشأن الإنفاق على الدفاع. (ربما يكون وعد ترامب الغريب بتمويل زيادة ميزانية الدفاع عن طريق «إنهاء سرقة الوظائف الأميركية» أقرب إلى ساندرز من التيار العام الجمهوري).

وأخيرا، لا تكشف الاستطلاعات عن إجماع ناشئ على الحد من الدور الأميركي في الخارج. وإن دل ذلك على شيء، فهو أن التيار يسير في الاتجاه المعاكس. منذ ثلاثة أعوام، كشف مركز بيو أن 55 في المائة من المستقلين يعتقدون أن الولايات المتحدة فعلت «أكثر مما ينبغي» في العالم. وهؤلاء هم الناخبون الذين احتاج إليهم ترامب للفوز، ولكن اليوم صرح عدد أقل (43 في المائة فقط)، بذلك الاعتقاد.

من الصعب دائما استقراء الاستطلاعات لصُنع السياسات، لأن الشعب الأميركي أحيانا ما يتبنى أهدافا متناقضة. في السبعينات، أخبر المشاركون مستطلعي الآراء بأنهم يفضلون اتفاقيات الوفاق والحد من التسلح، ولكنهم أيضا لم يكونوا واثقين في السوفيات ولم يريدوا لهم التقدم. واليوم، يُفضل المشاركون قيادة العالم، ولكنهم يقولون إن ذلك لا يجب أن يُحول الاهتمام الرئاسي بعيدا عما يحدث في الداخل.

ربما يكون ترامب في موقف يسمح له باستغلال تلك الآراء المتعارضة. كان شعار «اجعل أميركا عظيمة من جديد» سيحظى بقبول من جاك كيندي بالتأكيد؛ وكان رونالد ريغان سيسعد بكتابته على قبعة البيسبول. وقد أعطى ترامب ذلك الشعار معنى انعزاليا بغيضا ليبدو مواكبا للعصر. ولكن إذا كان ترامب يعتقد من نفسه، أو أخبره مستشاروه، بأن الأميركيين يظنون ببساطة أنهم «خاسرون» أو أنهم يرغبون نتيجة لثورتهم الشعبوية في غلق الباب في وجه عالم ناكر للجميل، فقد أساء فهمهم.(فورين أفيرز)

font change