• أقوى الانتقادات الموجهة إلي المستشارة الألمانية تستند إلى الصفات ذاتها التي تم الاحتفاء بها من قبل
• جاء اختيار مجلة «التايم» لميركل باعتبارها شخصية العام الماضي انتصارًا نادرًا في السياسة المعاصرة
• تزايد المسيرات الاحتجاجية التي تُنظمها الجماعات المناهضة للمهاجرين إلى إضعاف دعوات ميركل لالتزام الهدوء
• يواصل الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا تحدي قيادة ميركل.. وأدى «البريكست» إلى تحويل التركيز نحوها
• تكشف استطلاعات الرأي الوطنية أن حزب البديل من أجل ألمانيا يحقق باستمرار نتائج جيدة
واشنطن: رونالد جي غرانييري
دائما ما ينتهي المسار السياسي بالفشل. تُعبر تلك الملاحظة، التي تُنسب إلى إينوك باول السياسي البريطاني الراحل، بالفعل عن حقيقة عالمية. إذا لم يكن الزعيم السياسي ذكيًا بالقدر الكافي للانسحاب من الساحة قبل أن تصبح الأمور سيئة، أو (على سبيل المثال الرؤساء الأميركيون) إذا أجبرته القوانين الدستورية على التنحي في لحظة محددة، توجد احتمالات كبيرة بأن المشهد الأخير من أي مشوار سياسي سوف يصل إلى نهاية سيئة. من الصعب معرفة الوقت المناسب للمغادرة.
لا يرغب أحد في ترك منصبه عندما يتحلى بأكبر قدر من السلطة. كما أن رجال السياسة الناجحين دائمًا ما يميلون إلى الاعتقاد بأن أي تراجع يكون مؤقتا، وأنهم سيواصلون مسيرتهم لتجاوز تلك المرحلة السيئة إلى أن تزداد الأمور سوءًا ويفوت الأوان. حتى أكثر السياسيين نجاحا سيميلون إلى تجاهل الإنذارات التي تشير إلى اقتراب وقت النهاية، مهما كانت تلك الإنذارات عالية الصوت.
تنطبق تلك القوانين الأساسية الخاصة بالجاذبية السياسية حتى على السيدة التي احتفلت بها مجلة «إيكونوميست» في العام الماضي 2015 باعتبارها «أوروبية لا غنى عنها»، وفي العام ذاته وصفتها مجلة «التايم» بأنها «شخصية العام». أنجيلا ميركل هي أول امرأة تحتل منصب المستشار الألماني على الإطلاق، حيث تُعد فترة ولايتها ثالث أطول فترة ولاية في تاريخ ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية. ورغم ذلك، تواجه مناخًا سياسيا معاديا على نحو متزايد. يتعرض المنصب القوي الذي تحتله ميركل على رأس الاتحاد الديمقراطي المسيحي لهجوم عنيف من جهة المعارضين المحافظين داخل حزبها وحليفه البافاري الاتحاد الاجتماعي المسيحي، بالإضافة إلى المعارضين من الأحزاب اليمينية واليسارية الذين يُلقون باللوم عليها جراء الأزمات الحالية التي تعصف بكل من ألمانيا وأوروبا بأكملها.
ورغم عدم تحديد موعد لإجراء الانتخابات الوطنية المقبلة، فإنه وفقًا لقانون الانتخابات الألماني سوف يتم التصويت في وقت ما في أوائل الخريف من عام 2017، وبالتالي، ليس أمام ميركل سوى أقل من عام واحد للفوز على المشككين، وأن ترى ما إذا كان نهجها السياسي سوف يُؤتي ثماره في الوقت المناسب ليعكس الاتجاه السلبي السائد في الرأي العام.
حدود الإدارة الهادئة للأزمات
تواجه ميركل نهاية محتملة لحياتها السياسية البارزة في هذه المرحلة المتأزمة في مفارقة غريبة، حيث إن أقوى الانتقادات الموجهة إليها تستند إلى الصفات ذاتها التي تم الاحتفاء بها من قبل. أهم ما يميز ميركل هو إدارتها الثابتة القديرة والمعتدلة، ورغبتها في المراقبة والانتظار بدلاً من اتخاذ إجراءات متعجلة. يتميز أسلوبها بالعملية تماما مثل زيها العملي الذي أثار كثيرا من النقاش. لقد ساعدها نهجها الهادئ والحريص في الخروج سالمة من تحت الأنقاض السياسية والأخلاقية في ألمانيا الشرقية، لتبدأ بعد ذلك صعودًا سياسيًا مدهشًا. وفي حين احترق منافسوها الأكثر طموحًا وشهرة، واصلت ميركل مسيرتها ومثابرتها. وعندما سنحت الفرصة للتحالف الذي يجمع الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي لكي يشكل الحكومة في عام 2005 بعد مرور سبعة أعوام في المعارضة، انتهزت ميركل الفرصة، بل تحملت استهزاء المستشار غيرهارد شرودر المنتهية ولايته ليلة الانتخابات في عام 2005 لتُشكل ائتلافا مع حزبه الديمقراطيين الاشتراكيين.
ساعدت تلك المهارات ميركل على الصعود وخدمتها أيضًا على نحو أفضل خلال السنوات العشر الأكثر صخبًا في السلطة. وفي رئاستها لحكومات ائتلافية صعبة المراس في بعض الأحيان، قادت ميركل ألمانيا لتُخرجها من الضائقة الاقتصادية وقامت بدور الممثل الأكثر وضوحًا للاتحاد الأوروبي، إذ تمكنت من إدارة أزمة الديون اليونانية وضعف اليورو. كما أن انتقاداتها الصارمة غير المبالغة للتصرفات الروسية بأوكرانيا، وخاصة ضم شبه جزيرة القرم، اعتمادًا على مهاراتها في اللغة الروسية بالإضافة إلى دور ألمانيا الاقتصادي الحيوي بالمنطقة، جعلها تتصدر رد الفعل الأوروبي. وكان الأكثر تأثيرًا من ذلك كله بالنسبة لهذه السياسية التي لا تعمد إلى المبالغة، أن فاجأت ميركل العالم عندما أعلنت في شهر سبتمبر (أيلول) عام 2015 استجابة لصور اللاجئين البائسين الذين يتحملون القوارب المتهالكة والمخيمات المكتظة هربًا من الفوضى السائدة بالشرق الأوسط، مُشيرة إلى أن ألمانيا سوف تستقبل أكبر قدر من هؤلاء اللاجئين الذين جاءوا إليها. وعندما خرجت معارضات بأن مئات الآلاف من المهاجرين سيفوقون القدرات الألمانية، كان ردها البسيط ملخصًا لمنهجها في حل الكثير من المشكلات المعقدة: «يمكننا فعل ذلك».
جاء اختيار مجلة «التايم» لميركل باعتبارها شخصية العام في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي انتصارًا نادرًا لذلك النمط من الشخصيات في السياسة المعاصرة. توقع الكثير من المراهنين في خريف عام 2015 أن اللقب سوف يذهب إلى أحد التنظيمات الإرهابية الكثيرة أو أحد الأشخاص الذين هددوا نمط الحياة الأميركية في تلك الفترة، مثل تنظيم داعش الإرهابي أو دونالد ترامب. ولكن بدلاً من ذلك، اختارت مجلة «التايم» أقل الشخصيات الصارخة على الساحة العالمية السياسية، شخصية تشتهر تحديدا بتجنبها لحب الظهور الشخصي أو الصخب السياسي. ولم تبخل مجلة «التايم» في إطراء ميركل، وأطلقت عليها لقب «مستشارة العالم الحر». شهدت قيادتها في التعامل مع الكثير من الأزمات مثل أزمة اليورو وأوكرانيا وأيضًا المهاجرين على اتساع مهاراتها وقيمة تركيزها العملي على إدارة الأزمة.
ولكن بدأت الشقوق تظهر في الصورة، بينما لا تزال نسخ مجلة «التايم» في أكشاك بيع الصحف. رغم أن الصفقات التي توصلت إليها ميركل في صيف عام 2015 هدأت أزمة اليورو مؤقتًا وأنقذت عضوية اليونان بالاتحاد الأوروبي، استمر النقاد في التعبير عن قلقهم بشأن المستقبل البعيد واستقرار الاتحاد الذي يتطلب اتخاذ إجراءات علاجية مستمرة من أغنى أعضائه - ناهيك عن الاستياء المتزايد من الدول المجاورة الذين لا يزالون يشعرون بالقلق من فكرة هيمنة ألمانيا على أوروبا. كذلك توقفت مساعي ميركل لإحلال السلام بأوكرانيا، في ظل شعور رجال الأعمال الألمان والأوروبيين بالقلق تجاه العقوبات المفروضة على روسيا لأنها سوف تؤثر على توقعاتهم الاقتصادية، بينما شعر آخرون بأن التشدد أكبر من اللازم حول منطقة حيوية بالنسبة روسيا ولكنها بعيدة عن غرب أوروبا قد يُشعل حربا مدمرة ليس لها ضرورة. تمكنت ميركل من الحفاظ على تماسك الجبهة الغربية والتأكيد على الترابط مع أعضاء الجبهة الشرقية في كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. بيد أن مزيجا بين المصالح الاقتصادية والعزوف الألماني التاريخي عن احتواء المظاهر العسكرية أدى إلى تدفق سيل من البيانات والتعليقات الصادرة من هؤلاء الذين يتساءلون إذا كان من الأفضل لمصالح ألمانيا السعي إلى التوافق مع فلاديمير بوتين لاستعادة السلام والاستقرار بالمنطقة.
وكان الأكثر ضررًا من كل ذلك هو رد الفعل المحلي القوي للغاية والمناهض لسياسة الباب المفتوح التي تنتهجها ميركل أمام اللاجئين. فقد ازدادت المخاوف في المدن الصغيرة من تدفق وجوه غير مألوفة بعد نشر تقارير إخبارية عن موجة من الاعتداءات الجنسية وجرائم أخرى ارتكبها شباب مهاجر في المدن الألمانية مثل مدينة كولونيا في ليلة رأس السنة الجديدة. كما أدت معاناة المسؤولين المحليين في توفير سكن وخدمات أخرى للمهاجرين، بالإضافة إلى تزايد المسيرات الاحتجاجية التي تُنظمها الجماعات المناهضة للمهاجرين مثل حركة «وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب» - المعروفة باسم بيغيدا - إلى إضعاف دعوات ميركل لالتزام الهدوء. لا يتساءل الكثير من الألمان فقط عما إذا كان «يمكنهم فعل ذلك»، بل يسألون بصراحة عما إذا كانوا يرغبون في القيام بالأمر من الأصل.
يواصل الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا تحدي قيادة ميركل. فقد أدى الاستفتاء البريطاني على «البريكست» لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على وجه التحديد إلى تحويل التركيز نحوها باعتبارها زعيمة فعلية للمفاوضات الأوروبية. حاولت ميركل أن تحقق التوازن بين رغبتها في الحفاظ على تماسك الاتحاد الأوروبي ورغبة مماثلة في تجنب مزيد من الجدل في العلاقات مع لندن. في الأشهر القليلة الماضية، حققت ميركل بعض النجاحات من خلال سياستها الخاصة بالمهاجرين. كما أدت التسوية التي تم التوصل إليها مع تركيا إلى تقليص تدفق المهاجرين، من أكثر من 800 ألف مهاجر خلال العام الماضي إلى ربع ذلك العدد خلال العام الحالي، ومن المتوقع أن يقل العدد مع قدوم فصل الشتاء. كما حاولت ميركل أيضًا تهدئة الناخبين المُضطربين من خلال اللجوء إلى قوانين جديدة للسيطرة على الهجرة وتشديد إجراءات إنفاذ القانون ضد الأنشطة الإجرامية. ولكن بالنسبة لكثير من الناخبين الألمان، وقع الضرر بالفعل. فقد تكبد الاتحاد الديمقراطي المسيحي خسائر محرجة في الانتخابات الأخيرة بالولايات الألمانية (المقاطعات) مثل برلين وحتى مسقط رأسها بولاية مكلنبورغ - فوربومرن. ورغم استعادة معدلات شعبيتها الشخصية إلى حد ما، لا تزال النسب أقل من المستويات المرتفعة التي وصلت إليها بها في عام 2015.
مشهد سياسي متغير
تنبع التحديات التي تواجه ميركل أيضًا من التغيرات الكبيرة داخل مشهد الأحزاب الألماني. فعلى مدى العقود الثلاثة الأولى لجمهورية ألمانيا الاتحادية، كانت الكتلتان الرئيسيتان للأحزاب السياسية، وهما الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الاتحاد الاجتماعي المسيحي، والحزب الديمقراطي الاشتراكي تتوقعان الفوز بأكثر من 80 في المائة من إجمالي الأصوات. وبالتالي في الوقت الذي كان فيه نظام ألمانيا برلمانيًا، في الغالب كانت الحكومات مستقرة للغاية، إذ إنه عادة ما كان الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الاتحاد الاجتماعي المسيحي أو الحزب الديمقراطي الاشتراكي يتولى قيادة ائتلاف ما مع حزب ليبرالي صغير وهو الحزب الديمقراطي الحر، وكانت الحكومة تميل أكثر إلى اليمين أو إلى اليسار اعتمادًا على اختيارهم للشريك. وكان ظهور حزب الخُضر إضافة حزبية أخرى إلى المزيج الوطني في عام 1983 غير أن الحزب لم يدخل في أي تحالف وطني إلا في عام 1998 عندما انضم إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي في أول حكومة تجمع بين الأحمر والأخضر. كما أضافت الوحدة حزبا آخر، حيث أعاد حزب الوحدة الاشتراكي السابق الذي حكم ألمانيا الشرقية تجديد كيانه باعتباره حزب الاشتراكية الديمقراطية ثم اندمج مع الاشتراكيين الديمقراطيين المعارضين وذلك لإنشاء الحزب اليساري الألماني (اليسار). أسس الحزب اليساري الألماني قاعدته إلى حد كبير في ألمانيا الشرقية سابقًا، حيث اعتبر نفسه حاميا لهؤلاء غير الراضين عن الوحدة ومنتقدي النظام السياسي الجديد. ونظرا لفوزه المستمر بنحو ربع الأصوات في الولايات الشرقية، كان الحزب طرفًا رئيسيًا في حكومات الكثير من الولايات هناك.
أدى ظهور هذه الأحزاب الجديدة خلال العقدين الأخيرين إلى التعجيل بتفتيت أصوات الناخبين في ألمانيا. وعليه تراجع إجمالي الأصوات المشتركة بين الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الاتحاد الاجتماعي المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي، إذ بينت استطلاعات الرأي الأخيرة أن تلك الأحزاب مجتمعة قد تفوز بنسبة مئوية أقل من 60 في المائة من الأصوات في عام 2017، وبناء عليه، أصبح النظام المستقر الذي كان يتكون من حزبين رئيسيين يتوليان القيادة في تحالف مع شريك أصغر نظامًا من خمسة أحزاب يصعب التنبؤ به، حيث صارت الخيارات الوحيدة القابلة للتطبيق هي تكوين ائتلافات من ثلاثة أحزاب أو «ائتلاف كبير» ذي قاعدة عريضة بين الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الحزب الاجتماعي المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي.
لا يعد تشكيل ائتلافات كبيرة غريبا على الأنظمة البرلمانية الأوروبية. في الواقع، بعض البلدان، مثل النمسا، خضعت لحكم مثل هذه الائتلافات لمدة عقود، ويكمن الاختلاف الوحيد في أي من الحزبين الرئيسيين سيختار الرئيس التنفيذي. إنها تمنح مظهر الاستقرار وفرصة التعامل مع الأزمات بنهج شامل. بيد أنه في الوقت نفسه، تعني الائتلافات الكبيرة أيضًا أن الأحزاب الحكومية تُهيمن على البرلمان، فلا تترك أي دور بناء كبير للمعارضة البرلمانية، وبالتالي تشجع على ظهور الأحزاب والحركات على الهامش. ويعوق مثل هذا الترتيب النقاش البرلماني كما أنه يشجع على نشوب المشاحنات بين الأحزاب الحكومية فيسعى كل حزب إلى تحسين وضعه ومحاولة تأكيد مكانته المستقلة.
في العقود الستة الأولى من تاريخ جمهورية ألمانيا الاتحادية بعد الحرب (كألمانيا الغربية وألمانيا الموحدة بعد عام 1990)، استمر الائتلاف الكبير الوحيد من عام 1966 إلى 1969، وقد تعاملت تلك الحكومة بنجاح مع الأزمة الاقتصادية والإصلاح الدستوري. ولكن كان رد فعل الجمهور وخاصة الشباب النفور من وجود «عصابة السلطة» التي أزكت نشاطا متزايدا على طرفي النقيض السياسي. وكان ذلك عصر خروج الاحتجاجات إلى الشوارع من الطلاب الثوريين المعارضين خارج البرلمان، وأيضًا الصعود المؤقت للحزب الوطني الديمقراطي الموالي سرًا للنازية والذي اتهم الحزبيين الرئيسيين بأنهما أصبحا متشابهين بدرجة كبيرة لذلك من الضروري اتخاذ إجراءات تصحيحية بشأنهما. والآن يخشى قادة الأحزاب وخبراء آخرون، ممن رحبوا في البداية بالائتلاف الكبير باعتباره انعكاس واع للتوافق السياسي الواسع، من أن الائتلاف طويل الأجل سوف يقوض الثقة في النظام الجمهوري. وبالتالي بعدما أدت الانتخابات التي أجريت في عام 1969 إلى تشكيل حكومة ائتلافية بين الحزب الديمقراطي الاشتراكي والحزب الديمقراطي الحر، تنفس الألمان من جميع الأحزاب الصعداء ووافقوا على أن الائتلافات الكبيرة ينبغي أن تكون خيارات قصيرة الأجل وليست عادة طويلة الأجل.
[caption id="attachment_55256178" align="aligncenter" width="1024"] بوتين وميركل[/caption]
ومع ذلك، خلال العقد الأخير، كانت الائتلافات الكبيرة هي القاعدة وليست الاستثناء. ففي عام 2005، كانت ميركل تأمل في تشكيل ائتلاف يميني وسطي مع الحزب الديمقراطي الحر، غير أن النتائج جعلت تشكيل ائتلاف مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي ضرورة. وبعد إعادة انتخاب ميركل في عام 2009، كانت قادرة على تشكيل ائتلافها المفضل مع الحزب الديمقراطي الحر إلا أن الصراعات الداخلية وانهيار الحزب الديمقراطي الحر كانت تعني في عام 2013 أن عليها العودة إلى الشراكة مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي. وتشير استطلاعات الرأي الحالية إلى أن تشكيل ائتلاف كبير قد يكون الخيار المحتمل الوحيد أمامها للبقاء في منصبها بعد عام 2017 أيضًا.
بغض النظر عن النجاحات التي حققتها حكومات ميركل في السابق، فإن تجربة ائتلاف أكبر حزبين معًا في زواج قسري أسفرت عن ضعف كليهما. فقد تضرر الحزب الديمقراطي الاشتراكي كثيرًا إذ انخفض نصيبه من الناخبين الوطنيين إلى أقل من 25 في المائة، في حين يجذب حزب الخضر والحزب اليساري الناخبين اليساريين الذين يعتقدون أن الديمقراطيين الاشتراكيين أصبحوا مرتبطين للغاية بمؤسسات الدولة. وأدى استمرار ضعف أداء الحزب الديمقراطي الاشتراكي إلى تكهن البعض في قيادة الحزب، وخاصة رئيس الحزب زيغمار غابرييل، بشأن احتمالية تشكيل ائتلاف يساري عقب انتخابات 2017، الأمر الذي سيربط الحزب الديمقراطي الاشتراكي بحزب الخضر والحزب اليساري. ربما يكون مثل هذا الائتلاف ممكنًا من جهة الحسابات، رغم عدم وضوح ما إذا كانت الاختلافات المذهبية والشخصية بين الأحزاب الثلاثة قد تؤدي إلى خيار مستقر على المدى الطويل.
كان أداء الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الحزب الاجتماعي المسيحي بقيادة ميركل أفضل قليلا مقارنة بمنافسيهم من الاشتراكيين الديمقراطيين. وقد حازت ميركل على إطراء وسائل الإعلام وطائفة عريضة من الناخبين غير أن الحزب الديمقراطي المسيحي المحافظ كان متذمرا بسبب فقدان الحزب لهويته. ووجه الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري، الذي يفوز بأغلبية مطلقة بانتظام في ولايته الأصلية ويعتبر ذاته صوت المحافظين الجدد، الانتقادات على نحو خاص. اضطر حاكم ولاية بافاريا الألمانية، هورست زيهوفر، لتوجيه انتقادات لميركل بسبب كل من مسألة المهاجرين والاتحاد الأوروبي، إلى درجة إحياء خطط قديمة للاتحاد الاجتماعي المسيحي بتحويل ذاته إلى حزب محافظين وطني. وفي الوقت ذاته، رغم محاولات الاتحاد الديمقراطي المسيحي لجذب مركز سياسي واسع النطاق، تعرض الحزب لسلسلة من الهزائم في انتخابات الولايات، وتراجعت حصته في أصوات الناخبين في الانتخابات الوطنية إلى أوائل الثلاثينات، وهو مستوى لم يشهده منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية في عام 1949.
كان أسوأ ما حدث لتحالف الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الاتحاد الاجتماعي المسيحي، الذي كان يفخر دائمًا بقدرته المشتركة على جذب الناخبين المحافظين وإيقاف صعود أي منافس دائم إلى جواره، هو أن شهدت الأعوام القليلة الماضية ظهور حزب يميني وطني جديد. تأسس حزب البديل من أجل ألمانيا في البداية لانتقاد سياسات ميركل تجاه الاتحاد الأوروبي، وخاصة استعداد ألمانيا لإنقاذ اليونانيين المسرفين ورفع قيمة اليورو، ثم تطور إلى حزب شعبي - قومي يزداد قوة. لم يعد حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي يقتدي بالجبهة الوطنية الفرنسية وحزب استقلال المملكة المتحدة، مجرد معارض للاتحاد الأوروبي، فهو أيضًا يعبر عن مشاعر العداء للمهاجرين. استغل الحزب المشاعر ذاتها وكذلك كثير من قادة حركة وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب (بيغيدا)، لجذب الناخبين مباشرة في المدن الصغيرة (وخاصة في الشرق) ممن يشعرون بأن مؤسسات الدولة بمساعدة «الصحافة الكاذبة» وبتحريض منها تتجاهل مخاوفهم. أوشك الحزب في عام 2013 على تحقيق نسبة خمسة في المائة من الأصوات اللازمة للدخول إلى البرلمان الألماني. بيد أنه منذ ذلك الحين، خاض سلسلة من انتخابات الولايات القوية، حيث جاء مؤخرًا في المرتبة الثانية بعد الحزب الديمقراطي الاشتراكي في مكلنبورغ فوربومرن، متقدمًا بفارق ضئيل على الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ولاية ميركل.
تكشف استطلاعات الرأي الوطنية التي تجرى حاليا أن حزب البديل من أجل ألمانيا يحقق باستمرار نتائج جيدة. ورغم أن قيادة الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الحزب الاجتماعي المسيحي استبعدت ضم حزب البديل من أجل ألمانيا في أي ائتلاف، في حالة مواصلتهم خسارة الأصوات لصالح للشعبويين الناشئين، سيكون من الصعب للغاية أن تبقى ميركل وحزبها في السلطة. تثير مثل تلك المخاوف نقاشا استراتيجيا مستمرا داخل الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الاتحاد الاجتماعي المسيحي، سواء كان من الأفضل تبني مواقف تجاه قضايا مثيرة للجدل تشبه تلك التي يتخذها حزب البديل من أجل ألمانيا من أجل استرجاع أصوات المحافظين الرافضين أو الاستمرار في مهاجمة حزب البديل من أجل ألمانيا بضراوة أملاً في الحد من شعبيته. ستحدد الطريقة التي تدير بها ميركل هذا النقاش الداخلي ما إذا كانت قادرة على التمسك بمنصبها في العام المقبل أم لا.
أهمية عالمية
يهتم كثيرون من خارج ألمانيا بمصير ميركل لما له من أهمية عالمية. كما يتضح من الإطراء الذي قدمته كل من «التايم» و«الإيكونوميست» لميركل، تنبع مكانة ميركل الدولية من دورها كداعية للاعتدال القائم على ضوابط في أوروبا وخارجها. في عصر تفضل فيه الدول الأوروبية الكبرى الأخرى - مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا العظمى خاصة بعد البريكسيت - التحول إلى الداخل ردا على الركود السياسي والاقتصادي، وتهدد الأحزاب الشعبوية بقلب التقاليد السياسية من بولندا والمجر إلى النمسا وإسبانيا واليونان، يبدو نهج ميركل القوي والتزامها الثابت تجاه مؤسسات مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو أكثر قيمة من أي وقت مضى. أي حكومة ألمانية مستقبلية تضع أي من الكيانين محل تساؤل سوف تمحو ركنا أوروبيا أساسيا في النظام العالمي الحالي، فيما سيلقي بعواقب غير محسوبة على الصرح بأكمله.
في الوقت الحالي، تهدد كافة بدائل ميركل بالفعل هذين الكيانين. يعرب كل من الحزبين الصاعدين - الحزب اليساري وحزب البديل من أجل ألمانيا - عن ازدرائهما لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. يتصدر حزب البديل من أجل ألمانيا مزيدا من عناوين الأخبار بسبب مواقفه المعادية للمهاجرين، بل واكتسب قوة دفع بفضل زيادة النزعة الشعبوية التي سادت جميع أنحاء القارة فضلاً عن التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ما يثير إزعاجًا أكبر من وجهة نظر كثير من حلفاء ألمانيا هو أن حزب البديل من أجل ألمانيا أعرب عن تعاطفه مع روسيا وفلاديمير بوتين. وفي ترديد لرؤية كثير من الأحزاب الشعبوية الأخرى التي تثني على قومية بوتين ورفضه للأعراف الاجتماعية الغربية حول قضايا مثل حقوق المثليين، يمجد حزب البديل من أجل ألمانيا بوتين باعتباره زعيما قدوة، ويندد بحلف الناتو بسبب «تهديده بالحرب» بسبب أوكرانيا، في الوقت ذاته يرفض الحزب الاتحاد الأوروبي بسبب تقويضه للهوية الوطنية الألمانية ومصالحها. أما الحزب اليساري، فإنه يقلل من شأن العنصر الثقافي في جهوده المبذولة لجذب التقدميين الغربيين، ولكنه يُكن عداء يساريا تقليديا لحلف الناتو، بينما يتعاطف مع روسيا ويُهاجم الاتحاد الأوروبي باعتباره منظمة رأسمالية فاسدة فرضت التقشف على اليونانيين الذين يحتاجون إلى الدعم وأوروبيين آخرين. وفي استطلاع لرأي الناخبين الألمان مؤخرا، حصل حزبان سياسيان على أكثر من 30 في المائة من أصوات المشاركين الذين قالوا إنهم يثقون في فلاديمير بوتين أكثر من أنجيلا ميركل - والحزبان هما اليساري والبديل من أجل ألمانيا. كما يتفق الحزبان على تعميم العداء تجاه الولايات المتحدة الأميركية، ويحملان أميركا مسؤولية الكثير من المشكلات في العالم ويحلمون بانفصال ألمانيا عن النظام العالمي الذي تقوده أميركا.
ورغم أنه من غير المحتمل أن يشارك حزب البديل من أجل ألمانيا في أي حكومة وطنية في العام المقبل 2017، فإنه لا يمكن الاستهانة بدوره المُعطِل، وإبعاده للأصوات المحافظة عن الاتحاد الديمقراطي المسيحي- الاتحاد الاجتماعي المسيحي، خاصة إذا جعل ميركل غير قادرة على تشكيل ائتلاف حقيقي. جدير بالذكر أن استمرار شعبية البديل من أجل ألمانيا في الانتخابات المقبلة للولايات سوف يُشعل أيضًا المناقشات الحالية داخل الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الاتحاد الاجتماعي المسيحي بشأن الاستراتيجية السياسية والقيادة المستقبلية، ومن المحتمل أن يُشجع النقاد الداخليين لميركل على إجبارها لتغيير المسار أو مغادرة السباق السياسي كلية. لقد أدى بالفعل إلى تخلي ميركل عن سياستها المُرحبة بالمهاجرين. ومن المحتمل أن يؤدي المزيد من الهجوم على شعبيتها إلى إضعاف الموقف الألماني في مفاوضات البريكست، وقد تؤدي أيضًا إلى موقف أكثر تصالحا مع روسيا، ليس فقط بشأن أوكرانيا، بل وأيضًا فيما يتعلق بالتحركات الروسية في سوريا.
كذلك سوف تسير أي تحركات نحو تشكيل ائتلاف يساري في هذا الاتجاه، حيث إن بعض قادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، وخاصة سيغمار غابرييل، وأيضًا وزير الخارجية المُعتدل فرانك شتاينماير، رددوا انتقادات الحزب اليساري بسبب دعم ميركل لموقف الناتو الصارم ضد روسيا. في مفارقة، ربما يصل الأمر في النهاية إلى أن يصبح حزب الخضر، الذي تعتمد أصوله على النقد العميق لسياسة حلف الناتو في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، حجر عثرة أمام مثل ذلك التحالف، حيث يدعم باستمرار نهج ميركل تجاه روسيا.
وأشار منتقدو سياسة روسيا إلى أن تدخلات موسكو العسكرية في سوريا أدت إلى زيادة تدفق اللاجئين إلى أوروبا مما أضعف الكثير من الحكومات والاتحاد الأوروبي ذاته. حتى لو لم تكن تلك الاستراتيجية مقصودة من فلاديمير بوتين، لا بد أنه سعيد بالنتائج غير المباشرة لجهوده في دعم حليفه بشار الأسد. في ظل ضعف الولايات المتحدة وإنهاك الاتحاد الأوروبي، لن يواجه بوتين معارضة كبيرة أمام تحقيقه مزيدا من الأهداف المرجوة بالمنطقة. في حالة عدم قدرة ميركل على تأكيد شعبيتها، أو المساعدة في تولي خليفة لها يستكمل مسيرتها، سيبدو المستقبل قاتمًا للغاية أمام أي محاولات لتعزيز المصالح الغربية.
النداء الأخير؟
حتى لو تمكنت ميركل من البقاء بعد الانتخابات المقبلة، فإنها لا تزال تواجه المشكلة الرئيسية التي يجب أن يواجهها أي قائد ديمقراطي تولى ذلك المنصب لمدة تزيد عن عقد كامل. سوف يشعر الشعب بالضجر، والمنافسون سيستمرون في التبرم. ومن المفارقات أن ذلك الأمر معتاد في السياسة الألمانية، خاصة داخل الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي ترأسه ميركل. استمر أول مستشار لجمهورية ألمانيا الاتحادية وأحد مؤسسي الاتحاد الديمقراطي المسيحي، كونراد أديناور، في منصبه طيلة 14 عامًا بعد أن فاز في أربع انتخابات وطنية. ولكن بعد فوزه الساحق في عام 1957، الذي حصل فيه الاتحاد الديمقراطي المسيحي على أكثر من نصف أصوات الناخبين (وهو رقم قياسي في تاريخ الديمقراطية الألمانية)، اتسمت الأعوام الأخيرة في ففترة حكمه بالمشاحنات والإحباط السياسي بين الأحزاب. بعد ذلك خسر الاتحاد الديمقراطي المسيحي الأغلبية المُطلقة في انتخابات عام 1961 (التي ألقى بناء جدار برلين ظلاله عليها)، وأبعد أديناور كثيرا من أعضاء حزبه في محاولته لتقويض الرجل الذي تخيل الكثيرون أنه سوف يكون خليفته، لودفيغ إيرهارد. عندما حان وقت تقاعد أديناور في شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 1963، كان قد تسبب في إضعاف إيرهارد لدرجة أنه لم يستمر في المنصب سوى ثلاثة أعوام فقط، وانتهى الحال بالاتحاد الديمقراطي المسيحي في صفوف المعارضة في عام 1969.
استطاع هيلموت كول، معلم ميركل الذي صعد في عام 1990 بعد إعادة التوحيد، بالكاد العودة إلى السلطة في عام 1994 ووعد بأنه سوف ينسحب قبل الانتخابات التالية لصالح خليفته فولفغانغ شويبله. ولكن مع مرور الوقت، أقنع كول نفسه بأنه لا يمكن الاستغناء عنه. وأملاً منه في التفوق على المدة التي أمضاها أديناور في منصبه والتي استمرت 14 عامًا، ظل كول في منصبه لمدة لكاملة ليقود الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الاتحاد الاجتماعي المسيحي في النهاية إلى هزيمة انتخابية ساحقة في عام 1998، أساءت تلك الهزيمة، بالإضافة إلى الكشف عن مخالفات في جمع التبرعات عقب تخليه عن منصبه، إلى سُمعة كول وهددت بتقويض مكانته التاريخية. وفي السنوات التالية، تدهورت صحة كول ولكنه استعاد سمعته من جديد، بيد أن المراقبين بقوا على رأيهم بأنه استمر في منصبه لفترة أكبر مما ينبغي، وتسبب في إضعاف خلفائه المحتملين.
تدين ميركل لكول ببعض الفضل. عندما سعى مستشار حكومة الوحدة للبحث عن سياسي في ألمانيا الشرقية لمساعدته على تمثيل وحدة الحزب ورغبة الاتحاد الديمقراطي المسيحي في فتح أبوابه للشرقيين، برزت ميركل باعتبارها الاختيار الأمثل والأهم. وعندما طالت فضائح تمويل كول في عامي 1999 - 2000 الكثير من زعماء الأحزاب الآخرين بمن فيهم شويبله، ظهرت ميركل كالفارس الأبيض (إذا جاز التعبير) وتمكنت من إعادة بناء الحزب.
ومع أن العلاقة بينهما فترت بدرجة كبيرة على مدار الأعوام، لا تُنكر ميركل أنها تعلمت الكثير من رئيسها السابق. من المأمول أن تتعلم أيضًا من المثال التاريخي الذي حدث له، لتنجح فيما لم ينجح فيه بالتقاعد واختيار خليفتها في قيادة الاتحاد الديمقراطي المسيحي. كيف ستواجه ميركل ذلك التحدي، يجب أن يشغل ذلك السؤال أذهان شركاء ألمانيا ومنافسيها وليس فقط أذهان الألمان. وفي حين تستعد ميركل لآخر فصولها على الساحة الدولية، يقف العالم بأسره مراقبا.