لم يبلغ الخنوع لدولة أجنبية كما بلغه سياسيو العراق لإيران. نتفهم العلاقات بين الدول، والتحالفات والاتحادات، لكن لكل علاقة أصولها، ووفق المصلحة الوطنية! كم من دولة أسندت معارضتها من قبل دولة أجنبية، وعندما تصل، تلك المعارضة، إلى السلطة تتغير الصلات ويحدد الولاء.
نعلم كم كانت العلاقات بين الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية بأوروبا الشرقية؛ ولم نسمع منها تغزلا بشخصية سوفياتية على أنه صنع رجال دولة من دول تلك المنظومة، مع أن العلاقات وصلت إلى حد الذوبان، وكذلك الصلات، خلال الحرب الباردة، بين الدولة الأوروبية الغربية وأميركا، وكانت تلك الدول تدور في فلك الأخيرة، ومع ذلك لم نسمع أن أحد سياسيها صرح بالخنوع الذي يصرح به الساسة العراقيون لإيران.
قال حامد الجزائري، نائب أمين عام سرايا الخراساني لقناة إيرانية؛ متحدثا بالعربية مع ترجمة للفارسية، عن سليماني، ما نصه: «شخصية نادرة، لا تعرف الكلل والملل، تتحدى الصعاب بأشد أنواعها، وبكل معانيها، من لا شيء يخلق شيئا، الشخص الذي يصنع الرجال في العراق. أعطى الفرصة أن يكون الرجل العراقي بطلا، العراقيون كلهم فخورون أنهم خاضوا المعارك إلى جوار هذا الرجل، وسمعوا منه النصيحة، وسمعوا منه الإرشاد والوعظ، عندما يرونه قريبا منهم تشتد عندهم العزيمة، ويكونون كالأسود عندما يدخلون إلى المعركة، لا يجدون للموت معنى؛ لأن في جوارهم رجلا كقاسم سليماني. أقول: إن الحاج قاسم صنع الرجال، استطاع أن يوجد أبطالا. لو أن الحاج قاسم لم يكن موجودا ما ظهر هؤلاء الرجال، الحاج قاسم كان له الدور الكبير في بلورة الشجاعة».
بعد هذا الاعتراف الصريح، ومن قبل ميليشيا مؤثرة في الساحة العراقية، تعد سهما من سهام إيران الطائشة في كل مكان تصل يدها؛ ماذا بقي لحرمة الوطن؟ ماذا بقي للعراقي كتاريخ وحاضر ومواقف، إذا كان رجاله جبناء وغرس فيهم سليماني الشجاعة؟! ماذا بقي للعراقي ورجاله يهربون ولولا أن يشد في عضدهم سليماني. هل ترون أن حزبا من أحزاب الإسلام السياسي، الذي ولد في الحاضنة الإيرانية، ومن حارب مع الجيش الإيراني ضد الجيش العراقي، سيرد على صراحة الجزائري؟ أو ستعف تلك الأحزاب من تسليم ثروة العراق لإيران؟
هل من شك، مع هذا التصريح وغيره الكثير، أن الدولة العراقية يديرها شخص أجنبي، كمندوب سامي، وألا وزير يوزر ولا قائد ينصب في الجيش والأمن إذا لم يكن بموافقة هذا المندوب. من يمنع قاسم سليماني من أن يستخدم الشباب العراقي، بعد غسل أدمغتهم، في معاركه خارج العراق، وها هي «سرايا الخراساني» تقاتل نيابة عن إيران لحماية نظام بعثي، الذي عارضته أحزاب ومنظمات الإسلام السياسي ببغداد؟
يتذكر الجميع تصريح رئيس المجلس الإسلامي الأعلى سابقا عبد العزيز الحكيم (ت 2009)، حال عودته وحزبه ومنظمته «بدر» إلى العراق (2003): «على العراق تعويض إيران خسائر حرب الثماني سنوات» (1980 - 1988)، وهو يعلم أن الخميني كان مصرا على استمرار الحرب، ولما اضطر إلى قبول وقفها قال كلمته الشهيرة: «تجرعت السم». ماذا يعني هذا؟ يعني القوى التي تدير شأن العراق ليست لديها حدود في الخضوع، بل ما زال رجالها يعدون أنفسهم جنودا في الحرس الثوري.
يعلم الجزائري وغيره، من الأحزاب والجماعات الدينية، أن الذي جعل لهم اليد الطولى على مقدرات العراق هي أميركا وليست إيران، بل كانت إيران غير راضية على الغزو الأميركي، تحبذ نظاما ضعيفا محاصرا داخل العراق على وجود جيش أميركي إلى جوارها من جهة الغرب. حتى أن هذه الأحزاب المتمكنة الآن، بفضل الغزو الأميركي، أصدر بعضها بيانات ضد الغزو آنذاك. لذا كان جهد إيران بعد الإطاحة بالنظام العراقي السابق، أن تحشد العنف تحت مسمى «المقاومة الإسلامية»، وسرايا الخراساني واحدة من فرق ذلك العنف الذي عاشه العراق بعد 2003.
نعود لنائب الأمين عام السرايا، وهو يتحدث لفضائية «الشروق الجزائرية»، ولا أعلم ما صلة هذه الفضائية بالسرايا، كي تبعث مندوبة إلى العراق للقاء نائب أمينها العام؟ يقول: إن اسم السرايا تيمنا بشخصية أبي مسلم الخراساني (قتل 136هـ)، وعلى أنه سيظهر آخر الزمان شخص يسمى «الخراساني» ويصرع السفياني، فجاء الاسم من باب التبرك والتثمين، للدفاع عن الدين المحمدي، حسب قوله. بهذا المنطق تشكل حزب اسمه «الطليعة الإسلامي»، ومسجل في مفوضية الانتخابات، والسرايا جناحه العسكري.
أقول: عندما يدافع وزير خارجية بلد عن صور قادة بلاد أخرى، على أنها رموز دينية، وعندما يقول قائد ميليشيا، لمنظمته وزارة الداخلية: «نحن مع الإمام إذا قال توقف الحرب نوقفها، وإذا الإمام قال تستمر تستمر». فكيف الحال الآن، والأخير أصبح سلطة؟!
يقول الفرزدق (ت110هـ) ليزيد بن عبد الملك (ت 105هـ)، وقد سلم الأخير أمر العراق لشخص لا يؤتمن على راحلة قلوص، حسب الشاعر: «ا أطعمــت العـراق ورافديْه - فـزاريا أحذ يد القميص - تفهق بالعراق أبو المثنى - وعلم قومه أكْل الخبـيص» (المٌبرد، الكامل في اللغة والأدب). فتفهق يا قاسم سليماني بالعراق ورافديه، وقد صنعت بيدك جنودا يحكمونه لك، فتوجه بهم إلى أين ومتى ما شئت.