كان للمؤرخ السعودي عبد الله بن إبراهيم العسكر موعدٌ مع القدر، أن يرحل بحادث مروري، لم يعلم سائق السيارة أنه صار سببا لوقف أحلام هذا الموثّق النابه في كتابة التاريخ، رحل وفي باله مهمة الكشف عن فترة غامضة من تاريخ بلاده نجد، تمنى أن ينجزها قبل مماته. أفصح عن ذلك في مقابلة أجريت معه قبل تسعة أعوام: «أحلامي البحثية والعلمية كثيرة، ولا أظنها تنتهي إلا بموتي، والشّاعر يقول: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، وأنا أحلم بأن أقوم أو أشرف على بحث معمق يتناول تاريخ منطقة نجد، من القرن الثَّالث الهجري إلى القرن الثاني عشر الهجري، وهي حقبة شبه ظلماء، ومغرية للباحثين مع كونها صعبة المراس، وهي مهمة لمعظم تاريخ الجزيرة العربية، وما كُتب عنها لا يشفي الغليل» (الحياة، حوار أجراه خالد الباتلي، تاريخ: 6-3-2007). وها هي الأحلام قد توقفت في ذلك اليوم، وكان كئيبًا لمَن تقلقه قلة الموثقين والمنصفين في كتابة التاريخ من مستوى الراحل عبد الله العسكر.
تعرفت إلى المؤرخ العسكر قبل أكثر من ثمانية أعوام، في ندوة عُقدت بالكويت اشتركنا فيها معًا، ومن حينها نُسجت بيننا أواصر المودة والفائدة في الوقت نفسه. كان أحد المشجعين أو الداعمين لاستخدامي المصدر والمعلومة في مقالاتي، والحرص على ذِكر سنة الوفاة، بعد معاناة مع الصحف، وما شكا منه محررون لا تهمهم الأمانة في النقل؛ لذا لا يجدون حاجة إلى التوثيق، حتى كدتُ أتوقف عن النشر بسبب ذلك. ليست معاندة بقدر ما هو ردِّ جميل صاحب المعلومة، وحق القارئ في عدم استغفاله، ومن هنا بدأتُ أثق فيما يكتبه العسكر، وأبادله الرأي والاطمئنان.
لا يتوقف الإعجاب بالعسكر لأنه حريص على المعلومة وتوثيقها فحسب؛ إنما تجده المؤرخ المحايد، لا يهتم بالرأي العاطفي، مهما كان مصدره دينيًا أو قوميًا أو طائفيًا، وبهذه الروح كتب عن تاريخ اليمامة، وعن شخصية مسيلمة (قُتل 12هـ). وقد أجاب على مَن اعترض عليه: «أنا لا أدافع عن مسيلمة بن حبيب الحنفي. كلُّ ما في الأمر أنني كتبتُ عنه وعن قرآنه المزعوم. كما أنني أعدت قراءة تاريخ بني حنيفة برمته، وهذا العمل لا يرضي بعض المؤرخين أو المثقفين بسبب ردِّة بني حنيفة، تحميل ما أقوم به من عمل أكاديمي صارم شحنات دينية، أو التشكيك في النوايا».
تحدث عن العلمانية في ندوة قادته الصدفة إلى منصتها، فكان أحد حضور ندوة الخميسية (مجلس حمد الجاسر) بحي الورود في الرياض، ولغياب المحاضر محمد علي البار كُلف العسكر بتقديم الورقة نيابة، ليصطدم بشخصيات عربية غطاها تراب الحراك الإسلامي، لكنه قال كلمته، مشيرًا إلى أن الإسلام خالٍ من الكهنوت، يفصل بين السياسة والدين، وهذه العلمانية ببساطة.
لم يطعن، كعادة الكثير مِن المؤرخين العرب المسلمين، بالمستشرقين، ويأخذهم بجريرة التجسس، فصالحهم وطالحهم يُبان مِن فائدة ما كتبه، وربَّ جاسوسٍ تحول إلى باحثٍ ومكتشفٍ، ناسيا المهمة التي أتى لأجلها، ولا يحمل العسكر الغرب مصائبنا، ولننظر العيب فينا أولاً، وإذا سئل عن المرأة ودورها في التاريخ أجاب «ضعفها يعود إلى طُغيان ذكورية مجتمعاتنا، وليس لسبب آخر».
كان عالمًا وحالمًا، يصعب أن تكون له مشكلة مع مَن خالفه الرأي، وما أكثرهم، فحظوته بأبٍ لا يتعصب، وما استفاده مِن جامعة كاليفورنيا، أهّلته أن يقبل الرأي الآخر، شاكيًا من قلة المحترفين بعِلم التاريخ، وهنا لا يقصد العدد بقدر ما يقصد نوعية المؤرخ، في زمنٍ كثر الهواة الوالجون هذا العِلم، وهو القائل: «ما كان يجب أن نجعل التمذهب والطَّائفية يتحكمان فيما يجب أن ننظر فيه وما لا يجب». ذاكرًا أستاذا عراقيًا، درسه في جامعة الملك سعود التاريخ الأخميني، حبذه بدراسة تاريخ الشرق. حتى كان على أبواب السفر إلى أصفهان للدراسة في جامعتها، بعد أن حصل على القبول منها، ولكن اندلاع الثَّورة الإسلامية منع ذلك. يرى العسكر هناك قصورا في دراسة تاريخ الشرق مِن إيران إلى أفغانستان والصين والهند وباكستان.
عندما تسأل العسكر عمَّا وصل إليه من منزلة علمية مرموقة، في دراسة التاريخ، يقص عليك الصدفة التي قادته إلى ولوج هذا العِلم، وإلا كان يفكر أن يكون إعلاميًا، أو ما يفتح له الحظ باب مهنة أُخرى، ويعبر عن ذلك بعبارة «الدَّفع الذَّاتي»، أي لا تخطيط ولا توقع، بعد أن أراد له والده أن يكون موظفًا في مدينته «المجمعة» البعيدة عن الرياض.
ترك مؤرخنا ثروة غزيرة من المؤلفات والتحقيقات والترجمات والتلاميذ أيضًا، فأهم ما كتب في التاريخ: «تحقيب التاريخ الإسلامي»، الرياض (2008)، و«تاريخ اليمامة في صدر الإسلام محاولة للفهم» والأخير أطروحة الدكتوراه، صدر بالإنجليزية، ثم بالعربية مؤخرًا عن دار «جداول». كان القدر يرصده، وهو في عنفوان عطائه العلمي، ختم حياته في مراجعة لمكتبة الإسكندرية بحثًا عن الوثيقة، ليؤكد عبرها: «الانحياز آفة عِلم التاريخ»، رحل وهو في سِن الشَّباب (64 عامًا) قياسًا بأعمار المؤرخين، وقد أكلت سنونهم أوراق الماضين وخطوطهم المبهمة.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.