واشنطن: جورجيا ليفنسون كوهين وسعدية مدسبجيرج*
•نموذج جديد للتعاون بين القطاع الخاص والمنظمات غير الربحية والحكومات أسفر عن مقاربة ابتكارية للتعامل مع التحديات العالمية
•التقدم التكنولوجي والتفكير الإبداعي إلى ازدهار التمويل الابتكاري
•ظهرت في الاقتصادات الثرية أدوات مالية جديدة تتعامل مع نطاق واسع من التحديات بما في ذلك الصحة العامة
•سجل مبهر لمؤسسة «شراكة الممرضات والعائلة» في تحسين حياة المرأة الحامل وصحة الطفل ومساعدتهم على الاكتفاء الذاتي
[blockquote]
عادة ما يعكس تقييم كيف تعاملت الحكومات والمنظمات مع التحديات العالمية مأزقا مألوفا: فعندما يتعلق الأمر بالتمويل، هناك القليل جدا، ودائما ما يأتي متأخرا جدا. كما تتراكم تكلفة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية مع مرور الوقت سواء كانت تلك المشكلات مثل انتشار الإيبولا الذي تحول إلى وباء، أو موجات هجرة اللاجئين التي وضعت قوة الاتحاد الأوروبي محل الاختبار أو تزايد المظالم الاجتماعية التي تعزز الفقر.
ونادرا ما تتمكن الحكومات وجماعات الإغاثة من أن تنجح في التصرف قبل أن تتراكم التكلفة: وبالفعل، ووفقا لبعض التقديرات، يزيد إنفاقهم 40 مرة في التعامل مع الأزمات عن إنفاقهم في محاولات الحيلولة دون وقوعها.[/blockquote]
ويرجع أحد أسباب ذلك إلى أن المشكلات الدولية المعقدة يتم عادة التعامل معها من خلال الحكومات والمنظمات غير الحكومية فيما يتم إسناد الدور الثاني إلى القطاع الخاص، ويلعب القطاع المالي تحديدا دورا محدودا للغاية. ونظرا لأن النظام المالي العام التقليدي يرزح تحت وطأة صعوبات الموازنة والمآزق السياسية، فإنه غالبا ما ينهار. ويعجز التمويل الحكومي عن الوفاء بما تم الوعد به، ويأتي ذلك التمويل ببطء شديد فيما تتفاقم المشكلات.
ولكن في السنوات الأخيرة ظهر نموذج جديد للتعاون بين القطاع الخاص والمنظمات غير الربحية والحكومات أسفر عن مقاربة ابتكارية جديدة في التعامل مع الكثير من التحديات العالمية بما في ذلك الصحة العامة، والتعامل مع الكوارث والحد من الفقر. فبدلا من التعامل مع الكوارث والاعتماد الكامل على التمويل التقليدي، يعمل الممولون – بالتعاون مع الحكومات والمنظمات غير الحكومية – على دمج أسواق رأس المال الخاص مع الأنظمة العامة على نحو يعزز الصالح العام ويحقق أرباحا للمستثمرين أيضا. وبالاعتماد على الأدوات المالية مثل التأمين المجمع والدين المورق، تستطيع تلك الجهود –التي أصبحت تعرف باسم «التمويل الابتكاري» - أن تفتح الطريق أمام موارد جديدة وتسمح بتدخلات أكثر فعالية من حيث التكلفة. وفي الوقت نفسه، تنتج مثل تلك الحلول أرباحا وتمنح المستثمرين الفرصة لتنويع دخولهم من خلال منتجات مالية لا يرتبط أداؤها بالاقتصاد العام أو بالأسواق المالية.
أدى التقدم التكنولوجي والتفكير الإبداعي إلى ازدهار التمويل الابتكاري. ولكن لكي نستفيد منه أكبر استفادة ممكنة، يحتاج حل المشكلات العامة عبر تعزيز رأس المال الخاص إلى المزيد من الانتباه من قبل صناع السياسة الذين يجب أن يأخذوا في اعتبارهم سلسلة من الخطوات لتشجيع المزيد من التقدم في هذا الاتجاه الجديد.
دفعة إلى الأمام
بدأ عدد كبير من الأطراف المختلفة الاحتفاء بالتمويل الابتكاري بما في ذلك وزارات المالية وهيئات التنمية متعددة الأطراف والشركات المالية غير الربحية والبنوك الاستثمارية التقليدية. وفي معظم الحالات، كان للمؤسسات الخيرية قصب السبق في عمليات التمويل الأولية، ثم طبقت هيئات المساعدات الحكومية مفاهيم جديدة من خلال توفير التمويل لإصدار أدوات مالية جديدة.
ورغم أن مصطلح «التمويل الابتكاري» يبدو معقدا، فإنه أقل تعقيدا مما يبدو عليه. وتساعد ثلاثة أمثلة جديدة على شرح معناه وما يمكن أن يحققه.
في صيف 2002، توصلت وزارة المالية بالمملكة المتحدة إلى أن موازنة الحكومة لم تقدم التمويل الكافي لكي تفي بالتزاماتها تجاه الأهداف الإنمائية للألفية وهي سلسلة من المساعي العالمية الطموحة لمعالجة الفقر والكثير من آثاره. ولا يقف البريطانيون وحدهم في تلك المعضلة؛ ففي الكثير من الـ189 دولة التي وافقت على الأهداف الإنمائية للألفية، أدرك المسؤولون أن النوايا الطيبة والتعهدات بالمساعدات الكبيرة لا تؤدي إلى أرباح كافية تمكنهم من الوفاء بوعودهم.
ويعتقد غوردون براون، أن خبرة القطاع الخاص وأسواق رأس المال ربما تكون قادرة على المساعدة ومن ثم تواصل مع بنك غولدمان ساكس الاستثماري. واتجه مصرفيو الشركة إلى صندوق أدوات ما يطلق عليه التمويل المهيكل لتحويل التعهدات بتقديم مساعدات في المستقبل إلى تمويل مباشر لمشروعات الأهداف الإنمائية للألفية.
وجوهريا، كانت خطة غولدمان ساكس مألوفة على نحو ما للأشخاص الذين لديهم قروض منازل والذين من ثم يقترضون من ذواتهم المستقبلية لكي يدفعوا مقابل السكن الذي هم بحاجة إليه اليوم. ورغم أنه في هذه اللحظة، لم يكن لدى الحكومات في المملكة المتحدة وغيرها من الأماكن نقد كافٍ للإنفاق على مشروعات الأهداف الإنمائية للألفية، فإنهم تعهدوا بتخصيص قدر معقول لمشروعات الأهداف الإنمائية للألفية خلال 15 عاما. ويمثل الوعد بهذا الإنفاق في المستقبل نوعا من الأصول الأساسية – ما يشبه المنزل بالنسبة للرهن العقاري - وهو ما كانت غولدمان ساكس تراهن أنه سيمثل عامل جذب للمستثمرين. وكان التجديد يعتمد على ابتكار نوع جديد من المنتجات المالية: وهو سند مالي يمكن أن تسدده المساعدات التنموية التي ستقدمها الحكومة في المستقبل بدلا من الاعتماد على عائدات مشروع محدد مثل مصروفات الطرق أو مصروفات استهلاك المياه.
أفضل طريقة لإنفاق الأموال
كما حددت الحكومة البريطانية وشركاؤها المصرفيون ما يعتقدون أنه أفضل طريقة لإنفاق الأموال التي سيجمعونها من بيع تلك السندات: في حملات التطعيم التي سوف تساعد على تحقيق الأهداف الصحية العامة لمشروعات الأهداف الإنمائية للألفية. وفي عام 2006، أسسوا «مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» وأنشأوا أول «سندات تطعيم» على مستوى العالم. وقد منحت كل من «وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية» و«موديز لخدمات المستثمرين» و«ستاندرد أند بورز» السندات تصنيف (إيه إيه إيه) أو ما يعادله، وكانت «مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» قد أصدرت أول سند لها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2006 وتمكنت عبره من جمع مليار دولار. واشترت المؤسسات مثل صناديق المعاشات والبنوك المركزية بالإضافة إلى مستثمري التجزئة سندات أتت بأرباحها بعد خمس سنوات حيث قدمت أرباحا سنوية نسبتها 5 في المائة - 31 نقطة أساس أعلى من سعر الفائدة الذي كان يقدم في ذلك الوقت عن طريق سندات الخمسة أعوام التي تقدمها الخزانة الأميركية. ومنذ ذلك الوقت، أصدرت «مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» 30 سندا في عدد مختلف من العملات وبمدد زمنية مختلفة لملائمة المستثمرين من المؤسسات إلى أفراد القطاع الخاص وتمكنت من جمع 5.25 مليار دولار. ووسعت «مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» مؤخرا قاعدة مستثمريها من خلال إصدار ما يوازي 700 مليون دولار من الصكوك (السندات الإسلامية) التي تلتزم بمعايير الإقراض الإسلامية من خلال تفادي الفائدة ومصروفاتها.
ولكي تضمن أن يتم إنفاق هذا المال بأكثر الطرق فعالية، عقدت «مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» شراكة مع «تحالف التطعيم (جافي)» وهي شركة غير ربحية تمول جانب منها مؤسسة «بيل أند ميلندا غيتس» ومتخصصة في برامج التطعيم واسعة النطاق والطرق الخلاقة لتمويلها. ساعدت سندات «مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» شركة «جافي» على زيادة موازنتها السنوية من 227 مليون دولار في 2006 إلى 1.5 مليار دولار في 2015 وتوسيع برامج مثل مبادرة القضاء على شلل الأطفال التي مولت تطوير واختبار لقاح جديد وتوفير مخزون من اللقاح القديم في أماكن مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية والهند.
وقد أثنى تقييم قامت به شركة استشارات الرعاية الصحية «إتش إل إس بي» (التي أصبحت حاليا جزءا من شركة موت ماكدونالد) في عام 2011 بـ«مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» نظرا لإنقاذها حياة على الأقل 2.75 مليون شخص وتحسين حياة الملايين غيرهم. وفي الوقت نفسه، مكنت «مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» المملكة المتحدة وغيرها من الدول المتبرعة من تلبية التزاماتها تجاه «الأهداف الإنمائية للألفية» كما وفرت للمستثمرين في مجال الرعاية الصحية عائدات مؤكدة. ومن أهم الأمثلة في هذا السياق كان صكا مدته ثلاث سنوات ذا معدل فائدة عائم كانت «مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» قد أصدرته في 2015 وحصلت عنه عن تصنيف «إيه إيه» وهو ما وفر للمستثمرين كوبونات بعائدات ربع سنوية أعلى بمقدار 14 نقطة أساس من معدل الفائدة على معدل «ليبور» المعياري لمدة ثلاثة أشهر بالدولار الأميركي، وتمكنت من جمع 200 مليون دولار، بالإضافة إلى «سندات الكانغرو» التي تمتد لخمس سنوات (تصدر بالدولار الأسترالي وتخضع للقوانين واللوائح الأسترالية) والتي أصدرتها «مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» في 2010 وحصلت على تصنيف «إيه إيه إيه» ووفرت للمستثمرين معدل فائدة ثابت 5.75 في المائة (أعلى بمقدار 76 نقطة أساس من معدل السندات الحكومية الأسترالية) وتمكنت من جمع 400 مليون دولار أسترالي.
دعوها تمطر
ليس من المستبعد أن تشهد منطقة الساحل شبه القفر – التي تمتد في شمال أفريقيا - موجات جفاف – ناهيك عن المجاعات التي تعقب موجات الجفاف. وتعرضت المنطقة لثلاث موجات جفاف كبرى خلال السنوات العشر الماضية وهو ما حد من الأمن الغذائي لملايين من الأشخاص. وتتضمن الاستجابة التقليدية لمثل تلك الطوارئ لجوء الأمم المتحدة إلى الدول المتبرعة لتمويل المساعدات المالية التي عادة ما تصل متأخرة للغاية مما يجعلها لا تساعد كثيرا في علاج أسوأ آثار موجة الجفاف. ولكن خلال الماضي، حدث شيء مختلف.
في يناير (كانون الثاني) 2015، وبعدما ضربت موجة جفاف المنطقة، تلقت ثلاث دول – موريتانيا والنيجر والسنغال - مجموعة غير متوقعة من المدفوعات تصل إلى 26 مليون دولار. فبدلا من التبرعات، كانت تلك المدفوعات نتيجة طلبات تقدمت بها تلك الدول للحصول على قيمة وثائق التأمين ضد الجفاف والتي كانوا قد اشتروها في العام السابق.
ورغم أن مجمل المدفوعات بالدولار ربما يبدو متواضعا، فإن تأثير تلك الأموال كان كبيرا نظرا لسرعة وصولها: فقد تلقت تلك الدول الأموال حتى قبل أن تتمكن الأمم المتحدة من أن تصدر التماسا بطلب المساعدة. واستخدمت موريتانيا الأموال لكي تقدم إغاثات غذائية عاجلة لمن هم أكثر حاجة في منطقة «ألاك» مما حمى الكثير من الأسر من هجران منازلهم في محاولة يائسة للبقاء. ومن جهة أخرى، استخدمت السلطات في النيجر الأموال لتمويل برامج العمل للمزارعين في منطقة «تيلابيري» والذين لم يعد بإمكانهم إطعام أسرهم بعد دمار المحاصيل. واستخدمت السنغال تلك الأموال لتوزيع الغذاء على المنازل الأكثر تضررا ولكي تمنح الإعانات لمربي المواشي الذين كانوا مهددين بفقدان مواشيهم.
وكان بالإمكان تقديم تلك المدفوعات من خلال «الوكالة الأفريقية لاستيعاب المخاطر» وهي هيئة متخصصة تابعة للاتحاد الأفريقي ومن خلال شركة «أرك» للتأمين اللتين تخضعان معا لملكية الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي. وقد تم إنشاء «الوكالة الأفريقية لاستيعاب المخاطر» في 2012 بتمويل من مؤسسة «روكفيلر» وغيرها من المنظمات نتاج حالة من اليأس من عدم فعالية نظام المساعدات الدولية في حالات الطوارئ وتم تأسيس المؤسسة لمساعدة الدول الأفريقية على الاستعداد لمواجهة الكوارث الطبيعية. وبمساعدات تنموية من بنك التنمية الألماني والذي تمتلكه الحكومة الألمانية ومن وزارة التنمية الدولية بالمملكة المتحدة، تم إنشاء شركة تأمين «أرك» في عام 2014. وكانت كينيا وموريتانيا والنيجر والسنغال هي أولى الدول الأفريقية التي توقع على ما يطلق عليه منتج تأمين المخاطر. ولتقديم تغطية سنوية للجفاف تصل إلى 60 مليون دولار، دفعت كل دولة قسطا سنويا يتراوح بين 1.4 مليون و9 ملايين دولار: وهو ما يعادل تقريبا نصف المقدار الذي سيكون على دولة واحدة أن تدفعه لكي تحصل على نفس المستوى من التأمين. ومنذ ذلك الحين، حصلت شركة «أرك» على دعم بعض أكبر شركات إعادة التأمين العالمية بما في ذلك «سويس ري» و«ميونيخ ري».
وبالإضافة إلى توفير أموال التأمين عند الحاجة إليها، تشجع شركة «أرك» على الاستعداد للأزمات. فقبل أن تستطيع الدول شراء وثيقة التأمين، يجب أن تقدم خططا مفصلة تؤكد فيها أنها سوف تستخدم الأموال التي سوف تحصل عليها في الوقت الملائم وعلى نحو فعال. ويعتمد هذا التخطيط إلى حد كبير على منصة برامج «أفريكا ريسكفيو» وهي المنصة التي طورها في البداية «برنامج الغذاء العالمي» التابع للأمم المتحدة بتمويل من مؤسسة «روكفيلر» ويعمل ذلك البرنامج على تقليل خسائر وتكلفة الصعوبات الناجمة عن الطقس باستخدام بيانات تصدر عن أقمار اصطناعية متقدمة وسجلات تفصيلية لموجات الجفاف السابقة وعمليات إغاثة الطوارئ التي أعقبتها.
من المحتمل أن تفيد «أرك» في تغيير الطريقة التي تدير بها الدول النامية تكلفة الكوارث الطبيعية حيث أثبتت أنه من الممكن إزاحة العبء عن كاهل الحكومات (والفقراء والسكان الأكثر عرضة للخطر) ووضعه على عاتق الأسواق المالية العالمية الأكثر قدرة على مواجهة المخاطر. وحتى اليوم، أصدرت «أرك» 500 مليون دولار في التأمين ضد الجفاف لعشر دول وبحلول عام 2020 تستهدف أرك أن تقدم 1.5 مليار دولار لتغطية نحو 30 دولة والمساعدة على حماية 150 مليون أفريقي من الكثير من المخاطر البيئية بما في ذلك الحرارة الشديدة، وموجات الجفاف، والفيضانات، والأعاصير بل وحتى الأمراض الوبائية.
العمل من أجل النجاح
لا تقتصر ظاهرة التمويل الابتكاري على العالم النامي. ففي الاقتصادات الثرية، ظهرت أدوات مالية جديدة لكي تتعامل مع نطاق واسع من التحديات بما في ذلك الصحة العامة وهي المجال الذي كانت المقاربات التقليدية عادة ما تخفق في تلبية احتياجاته العاجلة للوقاية أو للتدخل المبكر. ولنأخذ على سبيل المثال مؤسسة «شراكة الممرضات والعائلة» وهي مؤسسة غير ربحية في الولايات المتحدة ترسل الممرضات في زيارات منزلية للأسر منخفضة الدخل، والأمهات الجدد وتعمل معهم بداية من الحمل حتى يصل الطفل إلى عمر العامين. ولمؤسسة «شراكة الممرضات والعائلة» سجل مبهر في تحسين حياة المرأة الحامل وصحة الطفل ومساعدتهم على الاكتفاء الذاتي. ومما لا شك فيه أن هذه المؤسسة تعد واحدة من أكثر آليات التدخل ضد الفقر فعالية في التاريخ الأميركي؛ وفقا لنحو 30 عملية تقييم مستقلة قامت بقياس تأثيرها. ففي دراسة أجريت في عام 1997 ونشرها باحثون بثلاث جامعات أميركية، وجد أنه بعد خمسة عشر عاما من المشاركة في برنامج الأم الجديدة التابع لمؤسسة «شراكة الممرضات والعائلة» كان الأطفال أقل عرضة بنسبة 79 في المائة من أن يتعرضوا للاعتداء أو الإهمال، كما احتاجت الأمهات إلى عدد أقل من الأشهر التي يعتمدن فيها على الإعانة. وفي عام 2013، وجد «المعهد الأطلسي للأبحاث والتقييم» أن البرنامج كانت له آثار إيجابية وساهم في تحسين حياة المواليد وصحة الطفل ونموه بل وحتى منع الجريمة، وقدر المعهد أنه بالنسبة لكل أسرة تمت رعايتها، وفرت الحكومة نحو 40 ألف دولار من الإنفاق على أشياء مثل أنظمة العدالة الجنائية والتعليم الخاص والرعاية الصحية.
التمويل الاجتماعي
ومع ذلك ورغم تاريخها المبهر، كانت مؤسسة «شراكة الممرضات والعائلة»، على غرار الكثير من البرامج الاجتماعية الفعالة، تواجه صعوبات في الحصول على الدولارات التي تحتاجها لكي تخدم المزيد من العائلات في الـ37 ولاية التي تعمل بها. ومن ثم بدأت «مؤسسة شراكة الممرضات والعائلة» في استكشاف شراكات جديدة لتأمين موارد جديدة من التمويل الخاص في بعض الولايات الأكثر حاجة مثل كارولينا الجنوبية التي يعيش أكثر من 27 في المائة من أطفالها في حالة من الفقر. وفي فبراير (شباط) 2016، وقعت كل من «مؤسسة شراكة الممرضات والعائلة» ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية وصندوق الأطفال بكارولينا الجنوبية على عقد مبتكر بعنوان «الدفع من أجل النجاح» والذي صممته وأشرفت عليه منظمة مالية غير ربحية يطلق عليها «التمويل الاجتماعي». (وكجزء من المبادرة، تلقت الولاية أيضا الدعم الفني من الخبراء بمعمل الأداء الحكومي بكلية كيندي). ويدعو العقد المستثمرين بالقطاع الخاص لأن يقدموا لمؤسسة «شراكة الممرضات والعائلة» 17 مليون دولار – وهي الأموال التي سوف تستخدمها المؤسسة بالإضافة إلى نحو 13 مليون دولار من نظام الرعاية الصحية الفيدرالي لتوسيع خدماتها وصولا إلى 3200 أم في كارولينا الجنوبية. وإذا ما نجح تدخل «شراكة الممرضات والعائلة» في تحسين حياة المشاركين من خلال تحقيق أهداف محددة – تقليل عدد المواليد قبل الأوان، وتقليل حاجة الأطفال إلى دخول المستشفيات واستخدام غرفة الطوارئ وتشجيع ترك فترة زمنية كافية بين المواليد وخدمة المزيد من الأمهات الجدد في المجتمعات منخفضة الدخل - يستطيع المستثمرون أن يحصلوا على أموالهم من خلال الأموال التي كانت كارولينا الجنوبية تضعها جانبا ويمكن أن يتوقعوا تحقيق أرباح تتراوح بين خمسة إلى 13 في المائة وذلك بافتراض أن الأداء كان مماثلا لأدائهم من قبل في برامج الدفع مقابل النجاح السابقة. وإذا ما أخفقت «شراكة الممرضات والعائلة» في تحقيق الأهداف، سوف يخسر المستثمرون أموالهم ولن تدين لهم الحكومة بأي شيء. وسوف يتم قياس النتيجة من خلال تجربة عشوائية وسوف يشرف على عملية التقييم معمل «عبد اللطيف جميل لمراقبة الفقر» بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
وفي بعض الأحيان يطلق على مثل تلك البرامج – تعد «مؤسسة شراكة الممرضات والعائلة» أكبر تلك المبادرات ولكنها ليست الأولى - «سندات التأثير الاجتماعي». ولكن هذه التسمية خاطئة على نحو ما: وذلك حيث إن مثل تلك التعاقدات هي أقرب لكونها استثمارا في الأسهم من كونها سندات نظرا لأن العائدات تعتمد على الأداء ويشارك المستثمرون في كل من العائدات المحتملة والمخاطر أيضا. وخلال السنوات الخمس الماضية، دخلت التحالفات بين القطاعين العام والخاص في أكثر من 50 مبادرة من مبادرات «الدفع من أجل النجاح» في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأميركا الشمالية للتعامل مع الكثير من القضايا بما في ذلك الصحة العامة وتنمية قوى العمل وتعزيز الرعاية والإسكان والتعليم والعدالة الجنائية. وتشير التقديرات الحالية إلى أن حجم الأسواق العالمية لهذا النوع من الاستثمارات يعادل نحو 150 مليون دولار ويتوقعون أن ينمو إلى 300 مليون إلى 500 مليون دولار خلال السنوات القليلة القادمة.
تحقيق عائدات تعادل التكلفة
هناك الكثير من العوامل التي تعزز العمل على تطوير التمويل الابتكاري. أولا، يتعلق الأمر بمعدلات الفائدة المنخفضة للغاية في السنوات الأخيرة والتي أثارت شهية أسواق رأس المال لأنواع جديدة من القاطرات الاستثمارية خاصة هؤلاء الذين لا يعتمد أداؤهم بالضرورة على توجهات اقتصادية أو مالية أوسع. ويستطيع التمويل الابتكاري أن يقدم القيمة للمستثمرين حتى إذا ما ضعفت السندات والأسهم التقليدية. وحتى إذا ما بدأت معدلات الفائدة في الارتفاع، كما يتوقع الكثيرون، فقد أثبتت بالفعل الحلول المالية الابتكارية قيمتها ومن المرجح أن تستمر.
ولكن لكي تنمو تلك المنتجات وتتوسع، يجب أن تحصل على تمويل أكبر وتتجاوز المستثمرين من المؤسسات والذين يمثلون حاليا أهم الأطراف الفاعلة في هذا القطاع. وذلك حيث إن هناك بالفعل بعض المنتجات المالية الابتكارية المتاحة لمستثمري التجزئة خاصة عبر التمويل الاستثماري المتخصص مثل «مجموعة غولدمان ساكس للاستثمار في المناطق الحضرية» وعبر صناديق التمويل التي تدير الاستثمارات للجمعيات الخيرية الكبرى. كما أصبح هناك عدد متنامٍ من المنتجات، بما في ذلك سندات التطعيم التي تقدمها «مؤسسة التمويل الدولية للتطعيم» في اليابان، بيسر أمام مستثمري التجزئة.
ولتحقيق نجاح على نطاق أوسع، يجب على مطوري المنتجات المالية الابتكارية أن يستمروا في تقديم عائدات جذابة والعمل على تقليل المخاطر – سواء كانت حقيقية أو متخيلة - التي يواجهها المستثمرون الذين يرغبون في أن يدخلوا تلك السوق الجديدة.
كما يجب أن يأخذ أساتذة المالية الذين يصممون هذه المنتجات في اعتبارهم الحصول على استفادة أكبر من المنح الحكومية والتأمين الحكومي مثل «برنامج هيئة ائتمان التنمية» الذي تديره الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والذي يقدم ضمانات جزئية للمستثمرين ويحظى بدعم وزارة الخزانة الأميركية. ومع ذلك فإن تعزيز قدر أكبر من المشاركة سوف يتطلب ما هو أكثر من العائدات التنافسية؛ حيث يحتاج المستثمرون أيضا إلى بيانات موثوق بها لطمأنتهم بأن التمويل الابتكاري سوف يساعدهم على تحقيق مكاسب فيما يقومون بعمل خيري. وهنا، يأتي الابتكار التكنولوجي لكي يكمل الابتكار المالي. فلنأخذ على سبيل المثال في اعتبارنا التطور الذي حدث مؤخرا في الحساسات بعيدة المدى التي يمكنها قياس آثار عمليات معقدة مثل تناقص الغابات. وجعل توفر مثل تلك البيانات من الممكن تصميم عقود «الدفع مقابل النجاح» التي تعتمد على المراقبة الدقيقة. وفي الوقت نفسه، فإن توفر صور دقيقة واضحة للأقمار الاصطناعية جعلت من الممكن تقييم المخاطر التي يمثلها الطقس السيئ والكوارث الطبيعية مما يسمح للممولين أن يطوروا المزيد من المنتجات الاستثمارية الدقيقة التي تعتمد على التأمين مثل خطط الحماية من الكوارث الطبيعية التي تنتشر حاليا في أفريقيا.
كما بدأت السياسات الحكومية تسير أيضا على نحو يشجع المزيد من التمويل الابتكاري. فعلى سبيل المثال، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2015، ألغت وزارة العمل الأميركية القواعد المقيدة التي كانت تمنع صناديق المعاشات الأميركية من أن تأخذ في اعتبارها العوامل الاجتماعية والبيئية والعوامل المتعلقة بالحوكمة الرشيدة عند اتخاذ القرارات الاستثمارية.
وربما يساعد «إصلاح إريزا» – في إشارة إلى قانون أمن دخل الموظفين المتقاعدين – على تحفيز الاستثمار في المنتجات المالية الابتكارية من قبل صناديق المعاشات الملتزمة بإرشادات قانون إريزا: وهي مصدر كبير للتمويل المحتمل. وفي الوقت نفسه، وفي عام 2015، وفي قمة انعقدت في بشلوس بألمانيا، تبنت الدول السبع الكبار مبادرة «التأمين المرن» والتي تقضي بالتعاون بين الدول السبع الكبار وعدد من البلدان الأكثر عرضة لآثار التغير المناخي؛ وتسعى المبادرة لمد حماية التأمين ضد كوارث المناخ ليشمل 400 مليون نسمة. وسوف يتطلب تحقيق المزيد من التقدم قيادة الدول المتبرعة وتنسيق الجهود السياسية الدولية ومن أهم الأمثلة على ذلك مبادرة «فريق عمل الاستثمار في التأثير الاجتماعي» وهي مبادرة تقدم بها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في عام 2013 لقمة الثماني وهي المبادرة التي ترصد وتقدم تقارير حول التوجهات العالمية للتأثير في الاستثمار.
كما سوف تزيد ثقة المستثمرين في التمويل الابتكاري أيضا إذا ما كانت هناك قواعد أكثر وضوحا فيما يتعلق بكيفية قياس التحليل المالي وتقييم العوامل البيئية والاجتماعية وتقديم تلك النتائج في تقاريرهم. ومن الخطوات المهمة في هذا الاتجاه كان تأسيس «هيئة معايير المساءلة المستدامة» التي تأسست في 2011، وهي شركة أميركية غير ربحية تعمل على تطوير طرائق صناعية موجهة للتعامل مع آثار تلك العوامل على إجراءات المحاسبة والحسابات المالية.
بالإضافة إلى أنه يجب على الحكومات أن تعمل على تحسين قدرتها على اتخاذ قرارات بعيدة المدى حول الإنفاق على الاستثمار في التنمية الاجتماعية والاقتصادية سواء في الداخل أو في الخارج. كما لا تسمح عمليات الموازنة في معظم الدول الثرية بالالتزامات بمساعدات تنموية بعيدة المدى: ومن ثم فإن إنشاء مشروع «المؤسسة الدولية لتمويل التطعيم» لم يكن سيصبح ممكنا إذا لم تضع الدول المشاركة استثناء لقواعد موازنتها. في الولايات المتحدة، يجب أن يمرر الكونغرس تشريعا – مثل قانون شراكة التأثير الاجتماعي الذي تم تقديمه في 2015 برعاية كلا الحزبين - وهو ما يمكن أن يوجه التمويل الفيدرالي إلى تمويل المبادرات المالية الابتكارية المشتركة بين القطاعين العام والخاص على مستوى الدولة وعلى المستوى المحلي.
الاستحواذ على رأس المال
في فبراير، التقى المتبرعون الدوليون في لندن وقدموا تعهدا مبهرا يتضمن نحو 11 مليار دولار من المساعدات ونحو 40 مليار دولار من القروض للتعامل مع التكلفة الهائلة للحرب الأهلية السورية بما في ذلك تدفق المهاجرين الذي يعاني منه الشرق الأوسط وأوروبا. وأفاد الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون بأن المجتمع الدولي: «لم يقدم أبدا مثل ذلك القدر من المال في يوم واحد وفي أزمة واحدة». ولكن المهتمين بالمساعدات الحقوقية والاستجابة للكوارث كانوا يراقبون المؤتمر بإحساس متشكك أخذا في الاعتبار أن جانبا كبيرا من الوعود بالتمويل لا يتحقق كما أن أفضل عمليات المساعدات كانت دائما تخفق في تحقيق الهدف المنشود.
ويستطيع التمويل الابتكاري أن يساعد على تحسين استجابة المجتمع الدولي لبعض المناحي المكلفة لمثل تلك الأزمات. تخيل، مثلا، كيف يمكن لمشروعات مثل تعاقدات «الدفع مقابل النجاح» أو المقاربات المشابهة لـ«المؤسسة الدولية لتمويل التطعيم» أن تمكن الحكومات من جمع التمويل بسرعة للرعاية الصحية، والإسكان والاحتياجات التعليمية للاجئين من خلال تأمين عملية الإنفاق المستقبلية. ربما كانت مثل تلك المقاربات من قبل مقاربات بعيدة المنال ولكنها لم تعد كذلك. فمن خلال الدعم الخيري والالتزام المستمر من قبل الحكومات، يستطيع التمويل الابتكاري أن يضع قوة أسواق رأس المال الخاص قيد العمل من أجل الصالح العام.
* جورجيا ليفنسون كوهين هي زميل الباحثين بـ«نيو أميركا» ومؤلفة الكتاب الذي سيصدر قريبا: «رأس المال والصالح العام: كيف يتعامل التمويل الابتكاري مع أكثر مشاكل العالم إلحاحا».. سعدية مدسبجيرج هي المدير الإداري لمؤسسة روكفيلر