إسرائيل وجيرانها.. السلام الممكن والهدنة المستحيلة

إسرائيل وجيرانها.. السلام الممكن والهدنة المستحيلة

[caption id="attachment_55255121" align="aligncenter" width="1024"]نشطاء سلام يحملون لافتات خلال مسيرة السلام الإسرائيلية - الفلسطينية المشتركة على طول جدار الفصل الإسرائيلي المثير للجدل في الضفة الغربية ومدينة بيت جالا بين بيت لحم والقدس - مايو (أيار) 2016 (غيتي) نشطاء سلام يحملون لافتات خلال مسيرة السلام الإسرائيلية - الفلسطينية المشتركة على طول جدار الفصل الإسرائيلي المثير للجدل في الضفة الغربية ومدينة بيت جالا بين بيت لحم والقدس - مايو (أيار) 2016 (غيتي)[/caption]


الشارقة: غادة فتحي

أما قبل: في كتاب السياسي الأميركي ريتشارد هاس: «الفرصة: لحظة أميركا السانحة لتغيير مجرى التاريخ» يقول: «في زمن أقرب تمت المحافظة على برودة الحرب الباردة بواسطة سلسلة من (التفاهمات الضمنية) أو غير الرسمية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي».والأهمية الكبرى لأي سلام مع إسرائيل هي إنهاء حقبة طويلة من التخبط في ظلام «التفاهمات الضمنية»

شغل السياسي الأميركي المرموق ريتشارد هاس مناصب ذات وقع رنان، وقيمة تتجاوز هذا الواقع بكثير، فهو رأس مجلس العلاقات الخارجية، وكان مدير تخطيط السياسات بالخارجية والمستشار الأول لكولن باول في مجال واسع من الاهتمامات. وعمل منسقًا للسياسة الأميركية بشأن أفغانستان، كما كان مساعدا خاصًا للرئيس جورج بوش. وترك بصماته في بعض أهم المؤسسات البحثية الأميركية بدءا من معهد بروكنغز، لكلية هاملتون، ومؤسسة كارنيغي، وكلية كيندي لنظم الحكم بهارفارد، وانتهاءً بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية وجامعة أكسفورد.


الضرورات والحقوق والاختيارات




أحد المداخل الرئيسية لتفكيك ما يزيد على ستين عامًا من التشابكات في هذه القضية، تلك الثنائية التي تعايش معها العرب طويلاً بين الضرورات والحقوق. فالنظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية احتلت إسرائيل فيه موقعًا «استثنائيًا» لمركب من الأسباب الدينية والثقافية والأخلاقية والسياسية (وفقًا للمعايير الغربية) والنفعية. وهذا المركب أتاح للقوى الغربية الكبرى جميعًا (ولا نستثني من ذلك الاتحاد السوفياتي) أن تجد كل منها وجهًا يدفعها للالتزام بالدفاع عن «حقها في الوجود».
وفي المقابل، كان العرب والمسلمون في تلك اللحظة التاريخية في واحدة من أشد لحظات الضعف الشامل. وبسبب البعد الديني - الذي لا يقبل التجاهل - للقدس في المقام الأول، كان من الصعب - بل ربما من المستحيل - على صانع قرار عربي أن يعلن قبوله تسوية تعترف بحق إسرائيل في الوجود. ويكفي هنا أن نشير إلى ما ورد في وثائقي بثته القناة الثالثة في التلفاز الهولندي في أكتوبر (تشرين الأول) 2003 عنوانه: «الصمت حيال إسرائيل» تطرق للمرة الأولى للعلاقة الحميمة بين هولندا وإسرائيل. وفي الوثائقي اعترف وزيرا الخارجية الهولنديان السابقان، هانس فان ميرلو وهانس فان دن بروك، بأن مؤسسات وزارة الخارجية الهولندية تلقت دومًا أوامر رسمية بضرورة مساندة إسرائيل. بل إن هانس فريلينخ، وزير الدفاع الهولندي الأسبق، فجر قنبلة عندما قال إن «القوات الهولندية تلقت الأوامر إبان حرب أكتوبر 1973 بأن تكون في حالة استنفار قصوى لمساعدة إسرائيل إذا احتاجت إلى ذلك».
ولاحقًا أصبح الأخطر عربيًا، أن «سقف التوقع» كانت تغذيه منافسات سياسية على الاستغلال السياسي للقضية من بعض الأنظمة الحاكمة والقوى السياسية لعقود، فنشأت فجوة ملأتها «التفاهمات الضمنية». وتعبر عن طبيعة هذه الفجوة عبارة ترددت كثيرًا خلال ربع القرن الماضي تقول: «للحكومات ضروراتها... وللشعوب اختياراتها»، وهو شعار غلبت فيه البلاغة على الحقيقة، وبدا أنه يعفي مستخدميه من الصدام مع حكوماتهم بسبب سياساتها «الواقعية» تجاه إسرائيل، وفي الوقت نفسه، يحتفظ للبعض بما تبقى من رصيد «الصمود».
إحدى الموازنات البلاغية التي تريح أصحابها وتوهمهم بأنهم قادرون على حل المعضلة التاريخية حديثهم عن «هدنة»، وهي قائمة بالفعل على كل الجبهات تقريبًا، فضلاً عن أن أحدًا في الجانب الآخر (إسرائيل والغرب) لا يدعوهم إلى هذه الهدنة. ما يعني أنهم بذلك يضعون قدرتهم البلاغية في كفة وقدرة آلة الاستيطان الصهيونية على التهام ما بقي من فلسطين في كفة، لنفيق بعد سنوات على حقيقة أن فلسطين التي يمكن التفاوض بشأنها تبخرت من على الخريطة.
وهكذا أصبحنا أمام «حقوق» و«ضرورات» وبينهما ضاقت «الخيارات» وأصبح هناك «سلام» هو «هدنة» و«اعتراف» هو «إرجاء»، في حين تعمل إسرائيل بوتيرة ملحوظة على تغيير الوقائع على الأرض بمزيد من الاستيطان، فضلاً عن الاستثمار الذكي للفجوة - التي كانت تتسع باستمرار - بين الحقوق والضرورات والاختيارات لتعقد مزيدا من «التفاهمات الضمنية» في عواصم عربية وغير عربية.


السلام والصراع ورقعة الشطرنج




يعكس جانب كبير من الخطاب المنتج خلال السنوات القليلة الماضية أن قدرات إسرائيل على ممارسة الشطرنج السياسي تزداد بوضوح، ما يشكل، في ظل استمرار الحالة الرمادية في العلاقة معها، خصمًا من رصيدنا على نحو واضح. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي بقليل قفزت على قاعدة بيكونور الكازاخية المخصصة لإطلاق الصواريخ الباليستية، واستمرت في التمدد بأفريقيا حتى أصبحت أحد أهم اللاعبين في القارة، ووطدت علاقاتها ببعض دول الجوار المهمة، كإثيوبيا. وقد جاءت رحلة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أفريقيا مؤخرًا (2016) والعدد الكبير من الرؤساء الأفارقة الذين التقاهم لتكشف عن حجم التحدي الذي يشكله استمرار الوضع القائم فيما يتصل بالعلاقات العربية الأفريقية.
وإذا عدنا إلى النصف الثاني من التسعينات فسنجد علامة فارقة في هذا الاتجاه، ونعني بذلك أن السعي غير المسبوق جاء من جانب النخبة العسكرية التركية العلمانية لتوثيق الصلات مع إسرائيل عبر: «اتفاق التعاون الاستراتيجي الإسرائيلي التركي» فبراير (شباط) 1996، ليؤكد أن الهدنة «فرصة» لإسرائيل.

وبطبيعة الحال، لم تكن العلاقات الإسرائيلية – التركية، وهي مثال لفوائد التأخر في عقد اتفاق سلام عربي – إسرائيلي، خاضعة لما تريده إسرائيل وحدها. وإذا أخذنا الفترة التي سبقت محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا موضوعًا للتحليل، فقد سعى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال رئاسته للوزراء ورئاسته للدولة، إلى تحويل هذه العلاقات إلى باب لدخول تركيا إلى الساحة الفلسطينية. وبالطبع يمكن البحث في الموقف التركي عما يبرر إدانته. فبعد توتر في العلاقات، أعلنت تركيا (بالتزامن على أكثر من مسار) تحسين نمط علاقاتها مع عدد من الفواعل الإقليمية والدولية. وأُعلن عن اتفاق وقع في العاصمة الإيطالية روما يقضي بـ«التطبيع الدبلوماسي» بين أنقرة وإسرائيل.
واضطلع السياق الإقليمي - أيضًا - بأدوار رئيسية في دفع تركيا لإعادة تدوير زوايا اتجاهاتها الإقليمية، فسعت أنقرة لاستنهاض النهج التقليدي بتغليب المصالح الاقتصادية إذا تعارضت مع التوجهات الآيديولوجية، عبر السعي لتصدير الغاز الإسرائيلي بواسطة خطوط أنابيب الغاز التركية، ما من شأنه أن يحقق المصالح الاقتصادية، من ناحية، ويدفع، من ناحية أخرى، إلى إبعاد إسرائيل نسبيًا عن مسار التحركات التي تقودها كل من اليونان وقبرص بالتنسيق مع مصر بشأن تقاسم ثروات غاز شرق المتوسط.
في مقابل ذلك، ابتغت إسرائيل من وراء تحسين علاقاتها مع الدولة التركية خلق واقع جديد يفضي إلى استعادة التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين، بما يمثل خطوة رئيسية على طريق «عزل» أنقرة عن طهران، وهو ما التقطته الإدارة التركية، وسعت إلى استغلاله، وفق ما يعرف في الأدبيات السياسية بـ«اقتراب الفرصة» لتحقيق «هدف مزدوج»، من ناحية ترقية العلاقات مع إسرائيل، ومن ناحية أخرى، إعادة ترتيب ملفات العلاقات مع موسكو عبر وساطة يبدو أن إسرائيل نفسها اضطلعت فيها بأدوار أساسية.
قد يفسر ذلك التزامن بين الانفراجة التدريجية التي شهدتها علاقات الدولتين مع الدولة التركية، التي تستهدف بدورها التحرك سريعًا لتغير نمط إدارتها للصعود السياسي والعسكري الكردي في سوريا، من خلال محاولة إيجاد أرضية تحقق مصالحها دون أن تشكل تهديدا لرؤى ومصالح القوى الإقليمية والدولية الأخرى حيال الوضع في سوريا، لذلك فقد استبقت الاجتماعات السورية - التركية التحولات التي شهدتها مسار العلاقات التركية - الروسية.


هل السلام خيار إسرائيل؟




هذا التساؤل في الحقيقة ضروري لتقييم جدوى السعي العربي للتوصل لحل للقضية، فالتفاوض والاتفاق لا يتم إلا بين طرفين، فهل السلام خيار إسرائيل؟
للإجابة عن هذا السؤال نتوقف أمام حقائق رئيسية لا يجوز تجاهلها. أولها أن وضع إسرائيل أمام مشروع حقيقي للحل سيضعها أمام كثير من الأسئلة التي لم تحسمها النخبة السياسية الإسرائيلية نفسها، وفي مقدمتها «سؤال الحدود». المتشددون اليهود كانوا دائمًا يتعاملون مع موضوع الحدود بمنطق تأجيل الحسم بين رؤيتين متناقضتين إلى حد بعيد: مثل « إسرائيل من النيل إلى الفرات » والحد الأدنى اي يجوز التنازل عن الأرض لحماية اليهود، -كل أرض ضرورية لحماية أمن إسرائيل يجب الاستيلاء عليها-، ويعتبر هؤلاء أن الحد الأدنى من الأراضي الذي يحقق ذلك، أن يكون هناك «شعب واحد بين البحر والنهر».
الحقيقة الثانية أن هوية إسرائيل بين دولة ديمقراطية ودولة يهودية يمثل مشكلة عميقة تدخل في باب: «المسكوت عنه» لكنها مرشحة للانفجار بأي وقت، وقد تفتح الباب لجعل إسرائيل موضوع إدانة دولية، وهي إحدى أهم الجوانب الإيجابية للمبادرة العربية، إذ تعتمد مرجعية القرارات الدولية لا مرجعية التفاوض دون مرجعية.

font change