ما بعد فشل الانقلاب.. التطبيع الدبلوماسي بين أنقرة وتل أبيب

ما بعد فشل الانقلاب.. التطبيع الدبلوماسي بين أنقرة وتل أبيب

[caption id="attachment_55255116" align="aligncenter" width="1024"]تركي يعرض الأعلام الثلاثة الفلسطينية والإسرائيلية والتركية للبيع خلال مسيرة في إسطنبول (غيتي) تركي يعرض الأعلام الثلاثة الفلسطينية والإسرائيلية والتركية للبيع خلال مسيرة في إسطنبول (غيتي)[/caption]

أنقرة: محمد عبد القادر خليل

شهدت تركيا خلال الآونة الأخيرة تطورات درامية، لم ترتبط وحسب بالاضطرابات الأمنية والسياسية في مرحلة ما بعد فشل محاولة الانقلاب على حكومة حزب العدالة والتنمية، وإنما تعلقت بمسارات التحرك التركي المختلفة لتحسين نمط علاقاتها وتفاعلاتها مع عدد من الفواعل الإقليمية والدولية.
في حين أٌعلن في السادس والعشرين من يونيو (حزيران) الماضي عن اتفاق وقع في العاصمة الإيطالية (روما) يقضي بـ«التطبيع الدبلوماسي» بين كل من أنقرة وإسرائيل، فقد قامت تركيا بتقديم ما اعتبرته موسكو «اعتذارا» عن حادثة إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، هذا فيما صرح رئيس الوزراء التركي، بن على يلدريم، باستعداد بلاده لـ«تطبيع اقتصادي» مع الدولة المصرية مع توفير فرصة للقاءات ثنائية على المستوى الوزاري، هذا في وقت أفادت فيه بعض التقديرات بعقد اجتماع احتضنته دولة الجزائر بين مسؤولين أمنين أتراك وممثلين عن النظام السوري.



ترتيبات إقليمية جديدة




التطورات هذه جاءت بالتزامن مع التحركات المصرية الهادفة إلى تسكين أوضاع الإقليم الملتهبة، ويبرز في هذا السياق التحرك الدبلوماسي المصري فيما يخص عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية، ولا سيما بعد زيارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري إلى إسرائيل مؤخرا، لمناقشة المبادرة المصرية التي أعلنت القمة العربية في موريتانيا دعمها لها وللتحركات الفرنسية في السياق ذاته.
ربما ينبئ ذلك عن تحولات متسارعة يشهدها مسرح عمليات الإقليم توفر توافقات طارئة ملائمة للاستدارة التركية، خصوصا بعد خروج حزب العدالة أكثر قوة من محاولة الانقلاب الأخيرة التي شهدتها البلاد في الخامس عشر من يوليو (تموز) الماضي، وربما تنسجم هذه المستجدات مع استراتيجية «ردم الفجوات» التركية مع ما تشهده الساحة الإقليمية من تطورات وترتيبات أمنية وسياسية جديدة؛ كونها قد تساهم في إعادة «تمرير الدماء» في شرايين علاقات تركيا المتصلبة مع فواعل بلغت الروابط مع البعض منها حد المراوحة بين «الفتور» و«العداء» المعلن بسبب تعارض الأجندات السياسية وتباين الحسابات الخارجية حيال عدد من الملفات الإقليمية العالقة، والتي مثلت بدورها محركات ضاغطة لـ«تفخيخ» بعض قنوات التحرك الإقليمي، لتواجه أنقرة ما يمكن اعتباره «تحديات بالجملة»، توزعت ما بين ما اكتظت به الساحة المحلية، أو مواجهة تصاعد وتيرته على الساحة الإقليمية والدولية.


محركات محلية




وعلى الرغم من أن التفاعلات الإقليمية والتطورات الدولية صاغت تقريبا ملامح التحركات التركية، غير أن المحركات المحلية أضلعت أيضا بأدوار رئيسية في دفع السياسة الخارجية التركية لاتخاذ المبادرة لرفع مستوى علاقاتها مع عدد من الدول، التي ارتبطت معها بملفات توتر واضطراب خلال الفترة الخالية. يأتي في مقدمة هذه العناصر «المتغير القيادي»؛ فقد أشارت بعض التقديرات السياسية إلى أن رئيس الوزراء التركي الجديد، بن علي يلدريم، ينتمي إلى «جناح الصقور» داخل حزب العدالة والتنمية، وأنه أكثر انسجاما مع سياسات التشدد التي اتبعها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، حيال عدد من الدول في المنطقة بسبب تناقض المصالح بشأن الكثير من القضايا الإقليمية.
بيد أن الرجل على ما يبدو أكثر انفتاحا وسعيا في الوقت نفسه إلى تدشين جسور جديدة لعلاقات تركيا الخارجية، ترتكز على ما هو مشترك لتصفية ما هو مختلف بشأنه. وقد يفسر ذلك التوازي بين فتح مسارات تحسن العلاقات مع جملة من القوى الإقليمية عبر ممرات كثيرة، وليس من خلال قناة واحدة، وفق ما يمكن اعتباره «تبديلا عكسيا» لعلاقات تركيا الإقليمية.
ويأتي التحرك التركي في نمطه المتسارع وطبيعته «التهدئية» وسياقه المتزامن، متأثرا بطبيعة التحديات الأمنية التي واجهتها أنقرة مؤخرا على الساحة المحلية، بعدما شهدت تداخلا مركبا بين ساحات عمل ثلاثة تنظيمات مسلحة تصاعدت وتيرة عملياتها الإرهابية، هي «صقور حرية كردستان»، و«جبهة التحرير الشعبي اليسارية»، وتنظيم داعش، ولا سيما أن عمليات التنظيمين الآخرين تركزت مؤخرا ليس في «الهامش الجغرافي»، حيث المناطق الريفية والحدودية، وإنما في «المركز التركي»، حيث المدن الرئيسية كإسطنبول وأنقرة.
وقد تنوعت هذه العمليات من حيث الأنماط والأهداف والتداعيات، وكان القاسم المشترك بينها استهداف المناطق والأهداف الحيوية، مثل المناطق السياحية والمراكز الأمنية- العسكرية، والمنشآت الحيوية، مثل مطاري «صبيحة دوكوتشن» و«أتاتورك» في إسطنبول. وقد أفضت أغلب هذه العمليات إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، بما استوجب من «العقل التركي»اإتباع استراتيجية «التفكير البارد» من أجل التحرك الفاعل لعزل مسار التطورات المحلية عن أثر تحركات وسياسات الفواعل الإقليمية.


إلى جانب ذلك، فقد أدت المحركات الاقتصادية أدوار رئيسيا في تحفيز التوجهات الخاصة بإعادة النظر في مقاربات تركيا الخارجية، وذلك في ظل التداعيات الاقتصادية الضخمة التي باتت تواجهها أنقرة على المستوى الاقتصادي، جراء تراجع معدلات السياحة بسبب توالي تحذيرات السفر من قبل الدول الغربية للمواطنين من قبل الكثير من الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، وأيضا بفعل تصاعد التهديدات الإرهابية في مختلف مناطق تركيا السياحية، فضلا عن توالي التقديرات والتقارير الاستخباراتية التي تحذر من وجود «خلايا نائمة» و«عناصر سائبة» تتبع تنظيمات جهادية غدت تتحرك بحرية في قلب الكثير من المدن التركية؛ استعدادا للقيام بعمليات إرهابية تستهدف مواقع محورية ذات كثافة بشرية.
على جانب آخر، فقد أفضى تصاعد التوترات والاضطرابات السياسية والأمنية على الساحة المحلية في مرحلة ما بعد محاولة الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية، إلى دفع القيادات التركية إلى التركيز على التطورات الداخلية، خصوصا في ظل «سياسات التطهير» التي تتبناها أنقرة حيال ما يطلق عليه «التنظيم الموازي» بقيادة فتح الله غولن، وذلك على النحو الذي يضاعف من القناعة بأهمية الاستمرار في انتهاج استراتيجية «تسكين» التوترات الإقليمية؛ وذلك في ظل الانشغال بالتحديات والتهديدات المحلية.


تطورات إقليمية




اضطلع السياق الإقليمي – أيضا - بأدوار رئيسية في دفع تركيا إلى إعادة تدوير زوايا اتجاهاتها الإقليمية، فتوقف المفاوضات المصرية – التركية بشأن تصدير الغاز الإسرائيلي، قد دفع أنقرة إلى استنهاض النهج التقليدي بتغليب المصالح الاقتصادية إذا ما تعارضت مع التوجهات الآيديولوجية، عبر السعي لتصدير الغاز الإسرائيلي بواسطة خطوط أنابيب الغاز التركية، بما من شأنه أن يحقق المصالح الاقتصادية، من ناحية، ويدفع، من ناحية أخرى، إلى إبعاد إسرائيل نسبيا عن مسار التحركات التي تقودها كل من اليونان وقبرص بالتنسيق مع مصر بشأن تقاسم ثروات غاز شرق المتوسط.
في مقابل ذلك، ابتغت إسرائيل من وراء تحسين علاقاتها مع الدولة التركية خلق واقع جديد يفضي إلى استعادة التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين، بما يمثل خطوة رئيسية على طريق «عزل» أنقرة عن طهران، وهو ما التقطته الإدارة التركية وسعت إلى استغلاله، وفق ما يعرف في الأدبيات السياسية بـ«اقتراب الفرصة» لتحقيق «هدف مزدوج»، فمن ناحية ترقية العلاقات مع إسرائيل، ومن ناحية أخرى، إعادة ترتيب ملفات العلاقات مع موسكو عبر وساطة يبدو أن إسرائيل نفسها اضطلعت فيها بأدوار أساسية.
قد يفسر ذلك التزامن بين الانفراجة التدريجية التي شهدتها علاقات الدولتين مع الدولة التركية، التي تستهدف بدورها، التحرك سريعا لتغير نمط إدارتها للصعود السياسي والعسكري الكردي في سوريا، من خلال محاولة إيجاد أرضية تحقق مصالحها دون أن تشكل تهديدا لرؤى ومصالح القوى الإقليمية والدولية الأخرى حيال الوضع في سوريا؛ لذلك فقد استبقت الاجتماعات السورية – التركية التحولات التي شهدها مسار العلاقات التركية – الروسية.
وعلى ما يبدو، فإن ما تشهده تركيا في أعقاب الخامس عشر من يوليو من تفاعلات سياسية وأمينة جراء الشروع في عملية طويلة ومعقدة لإعادة هيكلة القوات المسلحة التركية، والكثير من الأجهزة الأمنية، قد تجعل من التهدئة مع دول الجوار الخيار الأمثل، بما يدفع أنقرة إلى تحسين العلاقات تدريجيا مع مختلف الفواعل الإقليمية والدولية، ما لم تكن طرفا مباشرا أو غير مباشر في الأحداث والتفاعلات التي تشهدها تركيا محليا في المرحلة الحالية.


تفاعلات دولية




التطورات على الساحة الدولية شكلت من جهتها أيضا محركات ضاغطة لتسريع خطى تركيا حيال صياغة مقاربة مغايرة بشأن تفاعلاتها الإقليمية، وذلك في ظل تنامي مخاوف أنقرة من حدوث تطورات مفاجئة تتمثل في صعود المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، ليغدو الرئيس 45 للولايات المتحدة، بما قد يزيد من تعقد علاقات أنقرة، ليس وحسب مع الولايات المتحدة، وإنما أيضا مع الكثير من القوى الغربية الأخرى، ولا سيما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والصعود النسبي لتيارات اليمين المتطرف التي باتت تطالب بانسحاب كل من فرنسا وهولندا وإيطاليا من الاتحاد الأوروبي، على غرار الخطوة البريطانية.
أفضى ذلك إلى تداعيات متصاعدة الحدة على تركيا بسبب الضغوط التي مارستها على الغرب فيما يخص قضية اللاجئين. هذا إضافة إلى تحميل بعض الجهات الغربية الحكومة التركية مسؤولية عدم التعاطي بجدية مع تصاعد تهديدات التنظيمات الجهادية وانتقالها إلى مسارح العمليات الغربية، وهو الأمر الذي ساهم في تصاعد حضور قوي اليمين المتشدد في الكثير من البلدان الأوروبية، وقد أدت هذه المدخلات إلى تحرك أنقرة لإعادة ضبط وتنظيم علاقاتها الإقليمية والدولية، بما من شأنه تعزيز القدرة على المناورة واستباق التحولات التي تشهدها الساحة الدولية.
لا ينفصل ذلك عن حالة التوتر التي وسمت علاقات تركيا مع بعض الفاعلين الدوليين بسبب سلسلة الإجراءات التي تبنتها مؤخرا بعد محاولة الانقلاب، خصوصا في أعقاب تعليق العمل باتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية، وتصعيد القوى الغربية انتقاداتها للحكومة التركية جراء ذلك. وقد باتت هذه التطورات السريعة والمتلاحقة تدفع أنقرة إلى العمل على تحسين العلاقات وضمان تطورها حيال الكثير من القوى الإقليمية والدولية الأخرى، ومن هنا برزت أهمية تأكيد تركيا على استمرار استراتيجيات تحسين العلاقات وتوثيق الروابط مع كل روسيا وإسرائيل.


ارتباك معاكس




إن التطورات المحلية في مرحلة ما بعد المحاولة الانقلابية في تركيا، إضافة إلى السعي إلى تعزيز وضعية تركيا الإقليمية والتعاطي مع التحدي الكردي المتصاعد بشقيه المحلي والإقليمي، تبدو العناصر الأكثر تأثيرا في صوغ نمط المقاربة الإقليمية الجديدة لتركيا، والتي أفضت إلى العمل على إنهاء اضطراب العلاقات الروسية على مدار الشهور السبعة الأخيرة، وتحسين العلاقات مع إسرائيل في شقيها السياسي والدبلوماسي بعد توتر ساد علاقات الجانبين السنوات الست الخالية، وفيما بدا أيضا من مؤشرات بشأن تحول في سياسة تركيا الخارجية حيال سوريا بعد قرارات تغيير مجموعة التنسيق الأمني بالاستخبارات التركية المتعلقة بالملف السوري. ويشمل ذلك أيضا زيارات من قبل عدد من مسؤولي «الصف الثاني» (Track Two) إلى مصر في إطار تهدئة تدريجية لتحسين العلاقات المشتركة.
وبينما يؤشر ذلك إلى انفراجة محتملة على امتداد قنوات اتصال وتواصل تركيا الخارجية، سواء في مستوياتها الاقتصادية أو الاستخباراتية أو الدبلوماسية مع عدد من القوى الإقليمية والدولية، بيد أن ثمة تحديات ما زالت تعترض سبيل تركيا، تتعلق ببروز بوادر للعمل على تفادي إشكاليات وتداعيات السياسات السابقة عبر السعي غير المقصود لإعادة إنتاجها؛ ذلك أن مسعى تركيا لتحسين العلاقات مع مختلف دول الجوار دون الأخذ في الاعتبار طبيعة الحسابات المختلفة حيال الكثير من الملفات الإقليمية وتناقض التوجهات والسياسات بين الفاعلين الإقليمين قد يفضي إلى حلول مؤقتة في الوقت الراهن وتحديات مركبة المستقبل.
ذلك أن محاولة التوفيق بين المتناقضات لن تكون بأي حال من الأحوال عملية سهلة؛ فالعلاقات الراسخة مع دول الخليج لا يمكن فصلها – رغم المحاولات التركية – عن مسار العلاقات مع إيران، وعلاقات تركيا مع الأخيرة لا بد أن تؤثر في مقاربة تركيا حيال سوريا، كما لا يمكن لتركيا أن تحظى بعلاقات وثيقة مع الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين في الوقت نفسه.. السياسة الخارجية تحمل خيارات كثيرة، وخيار التوجه نحو التصعيد مع بعض الأطراف يصعب استبداله فجائيا بخيارات التحالف مع الأطراف ذاتها، وإلا لن يمثل ذلك أكثر من إعادة استراتيجية «صفر مشكلات» komşularla sıfır problem politikası التي لم تنه مشكلات تركيا مع جيرانها، وإنما ساهمت في تعميق البعض منها، لانطلاقها من بدء «شمولي» يصعب تحققه.
على جانب آخر، فإن الاهتزازات السياسية التركية المحلية قد تفضي إلى تصعيد التوترات في روابط وعلاقات تركيا الخارجية، مع أكثر من طرف في الوقت نفسه، حيث من ناحية القوى الأوروبية بسبب الإجراءات التركية في مرحلة ما بعد محاولة الانقلاب، ومن ناحية أخرى بعض القوى الإقليمية لاختلاف الأولويات وتباين الأجندات الإقليمية، لتواجه تركيا في تحركاتها الخارجية ما يمكن تسميته بـ«التحديات المركبة»، التي تستدعي تسريع وتيرة تسكين التوترات الإقليمية وتهدئة حدة التباينات مع الشركاء الإقليميين، وهو ما أعلنت القيادة التركية عن انتهاجه، ويبدو أنا ما زال يحتاج إلى بعض الوقت لتتجلى كامل معالمه.

http://arb.majalla.com/2016/07/article55254478/%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88-%D8%A3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%83-%D9%8A%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B7


font change