من حيث التعريف، كعب أخيل هو نقطة ضعف رغم القوة الهائلة وهو ما يمكن - أو يحتمل - أن يؤدي إلى الانهيار. وفي الأسابيع القليلة الماضية، أصبح لدى «حزب الله» عدد من نقاط الضعف التي تزيد من ضعف موقفه بصفة عامة في سوريا ولبنان وبين قاعدة مؤيديه من الشيعة. وهذا لا يعني أن «حزب الله» سوف يسقط في وقت قريب. ومع ذلك فإن دوره كلاعب رئيسي في لبنان وفي المنطقة تراجع إلى حد كبير وهناك مخاوف وشكوك كبرى بشأن دوره في المستقبل.
في البداية، تم النظر إلى اغتيال أحد أكبر القيادات العسكرية لـ«حزب الله»، مصطفى بدر الدين، في سوريا خلال الشهر الماضي باعتباره ضربة هائلة للآلة العسكرية والأمنية لـ«حزب الله» وهو ما يشير إلى أن الحزب أصبح أكثر عرضة للاستهداف وأقل قدرة على الانتقام لخسارة بهذا الحجم حيث أعاد اغتيال بدر الدين إلى الأذهان مقتل كبار قيادات «حزب الله»، حينما تم اغتيال عماد مغنية في سوريا في 2008، وحسان اللقيس، وهو من أكبر الفنيين العسكريين بـ«حزب الله»، حيث أطلقت النيران عليه خارج منزله جنوبي بيروت في ديسمبر (كانون الأول) 2013. وفي يناير (كانون الثاني) 2015، قتل جهاد مغنية، ابن عماد مغنية، بصحبة أحد الجنرالات الإيرانيين في مرتفعات الجولان في هجوم إسرائيلي بطائرات الدرون. وقبل خمسة أشهر، قصفت الطائرات الإسرائيلية مبنى خارج دمشق مما أسفر عن مقتل سمير القنطار.
ومن جهة أخرى، أصبح معظم كبار قادة «حزب الله» الذين خططوا لانتصاراته وإنجازاته «المقدسة» ونفذوها في لبنان في عداد الموتى، ومن ثم لم تعد نخبة «حزب الله» موجودة، وربما لا يستطيعون أن يجدوا من يحل محلهم. وهو ما يمكن أن يعني أن مشاركة حزب الله في سوريا قد كلفته أكثر مما يقر به.
ففي الأيام الأولى لـ«حزب الله»، وعندما كان يركز فقط على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، كانت حالة السرية والأمن المشدد حول الحزب لا يمكن اختراقها. وكان جيشه أصغر وأكثر دقة وبالتأكيد أفضل تدريبا. فقد دفعت سوريا ببساطة «حزب الله» لأن يتوسع بسرعة كبيرة مما أثر على قدراته الأمنية والعسكرية. كما فقد «حزب الله» أيضا مقاتلين أكثر مما فقد أثناء كافة حروبه ضد إسرائيل.
ورغم أن «حزب الله» اكتسب بعض تقنيات القتال الجديدة في حربه في سوريا، فإنه فقد ما هو أكثر من ذلك بكثير.
في الوقت نفسه، كان «حزب الله» يعاني من الكثير من الأضرار إثر الضغوط الداخلية والخارجية؛ حيث اتضح أن «حزب الله» – المعروف بتكامل أعضائه ووفائهم - قد أصبح يعج بالجواسيس الذين يعملون لصالح إسرائيل. فربما يكون محمد شواربة، أحد أكبر القيادات السابقة في وحدة العمليات الخارجية لـ«حزب الله» ورئيس الحرس الشخصي لحسن نصر الله أكبر عملية اختراق للحزب على يد وكالة الاستخبارات الإسرائيلية «الموساد»؛ حيث تفيد التقارير بأن شواربه كان يقدم معلومات لإسرائيل سمحت لها بإحباط عدد من الهجمات التي كانت معدة كانتقام لعملية اغتيال عماد مغنية في 2008.
وجاء الكشف عن شبكة الجواسيس داخل صفوف «حزب الله» بعد سلسلة من المزاعم بالفساد كانت تحيط بالمسؤولين والشخصيات السياسية بالحزب. هل تتذكرون فضيحة صلاح عز الدين التي أطلق عليها النسخة اللبنانية من فضيحة برنارد مادوف؟ لقد تمكن هذا من تشويه صورة «حزب الله» كمدافع ورع عن الجماهير يقف فوق الفساد المتفشي في الكثير من الأحزاب السياسية بلبنان.
ولكن القصة لم تنته هنا. فقد أصبح «حزب الله» أكثر فسادا من أن يستمر. فبداية من حلقات التجسس في صفوفه إلى تهريب الأدوية المزيفة، وبيع الأميفتامين، وهي مجرد أمثلة من الفساد في صفوف «حزب الله» ناهيك عن فساد حلفائه.
وحتى في الضواحي الجنوبية لبيروت، يبدو الفساد واضحا للغاية. فدائما ما يشتكي المواطنون من الفوارق الطبقية بين الأحياء. فعلى سبيل المثال، أصبح من الواضح أن مسؤولي «حزب الله» وأفراد عائلاتهم يعيشون في الجانب الراقي من الضاحية، ويقودون أحدث السيارات ويذهبون إلى المدارس والجامعات الخاصة. وفي الوقت نفسه، يعيش باقي الناس، بما في ذلك قواعد «حزب الله» ومقاتلوه في المناطق الفقيرة بالضاحية التي ترزح تحت وطأة البطالة وتعج شوارعها بالمخدرات.
ولكن رغم الشكاوى التي تسمعها من هؤلاء الأشخاص، يبدو أن «حزب الله» قد توقف عن محاولة الحفاظ على صورته بعدما صار مشغولا بما لا يسمح له بأن يلقي بالا للسخط الداخلي.
أثبت «حزب الله» لمجتمعه أنه فاسد كبقية الجماعات السياسية في البلاد. فعلى غرار باقي أنحاء لبنان، تعاني الضاحية من أزمة مياه ونقص في الكهرباء وانتشار فوضوي للمحال غير الشرعية وشوارع مليئة بالقمامة. أضف إلى ذلك حقيقة أنه يؤوي الكثير من المجرمين المطلوبين واللصوص وتجار المخدرات الذين يتسبب ظهورهم في حالة من عدم الارتياح داخل المجتمع.
كما شارك «حزب الله» في حرب دموية في سوريا، يعود الكثير من المقاتلين الذين شاركوا فيها في أكفان دون أي «انتصار مقدس». كما أصبح الشيعة أكثر عزلة، من أي وقت سابق، عن غيرهم من المجتمعات اللبنانية وبقية السنة في الشرق الأوسط بصفة عامة. بالإضافة إلى أن معدلات البطالة في ارتفاع مستمر ولم تعد هناك وظائف متاحة مدرة للدخل سوى القتال في سوريا.
ومن الواضح أن المواطنين قد فاض بهم. حيث بدأ تأييد حرب «حزب الله» في سوريا يكلفهم أكثر مما يمكنهم احتماله. فقد أخبرني مقاتلو «حزب الله» الذين التقيت بهم مؤخرا جميعا أن القتال في سوريا يمثل بالنسبة لهم فرصة عمل. فلم يعد الأمر مهمة مقدسة أو عملا من أعمال المقاومة، بل أصبح الأمر يتعلق بالراتب الذي سيتلقونه في نهاية الشهر بالإضافة إلى المزايا الاجتماعية والصحية التي سيحصلون عليها إذا ما تمكنوا من العودة إلى البلاد أحياء.
وأدرك الكثير من أعضاء «حزب الله» ومؤيديه في السنوات القليلة الماضية أنهم أصبحوا مرتزقة ولاية الفقية في حرب إيران في المنطقة، وعليهم أن يذهبوا إلى أي مكان يطلب منهم أن يذهبوا إليه سواء كان ذلك لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن. وقد كلف الخطاب الجديد للحرب الإقليمية الطائفية «حزب الله» عمقه في العالم العربي. ولكن الأكثر أهمية، أن «حزب الله» فقد خطاب المقاومة وصورته النقية.
بالإضافة إلى الآلاف من المقاتلين الذين فقدهم «حزب الله» في سوريا، فإنه خسر أهم أعمدة قوته: صورته. لقد خسر شعبيته في العالم العربي والعالم السني وخسر مصداقيته كفائز في كافة الحروب وخسر صورته كرمز وزعيم بين قاعدة مؤيديه.
غامرت إيران بإرسال «حزب الله» إلى سوريا لأنها كانت تعتقد أن الحرب لن تدوم طوال هذه المدة وأن «حزب الله» سيعود منتصرا - كالمعتاد - وأنها ستتمكن من فرض سيادتها على المنطقة برمتها من خلال فرض سيطرتها على سوريا. على أي حال، لم تمض الأمور كما كان مقدرا لها، فما زال «حزب الله» يخسر المقاتلين والقادة، كما أنه لم يتمكن من تحقيق النصر في أي مكان أو في أي شيء ولا تبدو الأوضاع على الأرض مبشرة. بل إن تدخل روسيا زاد الأوضاع سوءا بالنسبة لإيران و«حزب الله» في سوريا.
وتدرك قيادات «حزب الله» والقيادات الإيرانية أنهم لا يمكنهم الثقة في روسيا: فأولويتها الأولى هي الحفاظ على نظام الأسد وليس حماية المصالح الإيرانية. وفي الحقيقة فإن ما تريده إيران في سوريا يختلف تماما عما تريده روسيا. وبدأ مؤيدو «حزب الله» يدركون هذه الحقيقة القبيحة عندما تم اغتيال سمير قنطار في سوريا وفهموا عواقب تعاون روسيا مع إسرائيل ضد «حزب الله».
وفي الوقت نفسه، لا تستفيد إيران من تدخل روسيا. وبدلا من ذلك، فإنها تعرض خططها سواء على المستوى العسكري أو الدبلوماسي للخطر وهو ما يمكن أن يعرض طموحاتها في المنطقة للخطر بالضرورة. وتجلس روسيا حاليا على طاولة المفاوضات مع القوى الغربية لإصدار مسودة الدستور السوري وإقرار مستقبل سوريا فيما يرسل «حزب الله» مقاتليه لكي يموتوا هناك.
ومن جهة أخرى، تزايد التوتر بين «حزب الله» والنظام السوري بعد التدخل الروسي الذي وصل إلى صدامات حادة في بداية الشهر الحالي في شمال حلب مما أسفر عن إصابة على الأقل ثمانية من مقاتلي «حزب الله».
في الوقت الذي بدأت فيه إيران تشهد تقدما بعد رفع العقوبات وتنفتح على الغرب واستثماراته، يواجه «حزب الله» حاليا عقوبات شديدة، حيث تم تطبيق قانون «حظر التمويل الدولي عن (حزب الله) 2015» في 3 مايو (أيار). ويقضي القانون الأميركي، الذي وقعه الرئيس باراك أوباما في 18 ديسمبر (كانون الأول) 2015 بفرض أقصى عقوبات ضد «حزب الله» بالإضافة إلى أي أفراد أو منظمات تابعه له وأي مؤسسة مالية في أي مكان في العالم «تسهل عن علم تحويلاته المالية».
ولا تستهدف تلك العقوبات «حزب الله» وحده ولكن أي أحد أو أي مؤسسة تتعامل معه ماليا بأي شكل من الأشكال. وتم تصميم تلك العقوبات لعزل الحزب عن مجتمعه الاقتصادي مما سيسفر في النهاية عن عرقلة مأسسته لنفسه داخل المجتمع اللبناني.
ولا يوجد شك بأن إيران سوف تجد دائما سبيلا لإرسال الأسلحة والمال لـ«حزب الله» ولكن السؤال هو ماذا يمكنه أن يفعل بهذا المال إذا لم يكن يستطيع أن ينفقه؟ أي شخص سيفكر مرتين قبل أن يبيع أو يشتري أي شيء من «حزب الله» الآن. وهذا بالطبع خبر مؤسف بالنسبة لـ«حزب الله» وهو ما انعكس جليا في الكثير من تصريحات قيادات الحزب الأخيرة التي أظهرت مدى قلقهم من فرض تلك العقوبات.
مما لا شك فيه أن «حزب الله» ليس في وضع جيد، ولكنهم ليسوا شديدي القلق في لبنان لأن لديهم حركة معارضة قوية. كما قدمت الفصائل السياسية اللبنانية الأخرى الكثير من التسويات ومن ثم فقدت مصداقيتها. وما زال المجتمع الشيعي – رغم وجود حالة من السخط والشكوك والرغبة في التغيير - لم يتمكن من تكوين بديل واضح لـ«حزب الله».
ومع ذلك، فإن «حزب الله» قلق على المستوى الإقليمي. فقد أسفرت كافة التحديات السابقة في أن يخسر الحزب مصداقيته في المجتمعات العربية. ولكن الأهم من ذلك، أصبح «حزب الله» ميليشيا شيعية تعمل تحت الإدارة الإيرانية. وهم يعلمون أن إيران عندما يحين الوقت، ويتم التوصل إلى تسوية في سوريا، واليمن والمنطقة بصفة عامة، ستتفاوض أيضا على دور «حزب الله».
لقد أجبرت إيران «حزب الله» على أن يتغير من قوة مقاومة إلى حزب سياسي لبناني مسلح، ثم تم إجباره على الذهاب إلى سوريا وأن يصبح الميليشيا الإقليمية لإيران. ماذا بعد ذلك؟ الأمر كله يعتمد على ما ترى إيران أنه مناسب. وفي النهاية، تريد إيران الصورة الأكبر: أن تصبح أكبر قوة في المنطقة وسوف تفعل كل ما يتطلبه الأمر لكي تضمن ذلك. وهناك تحديات كبرى لتحقيق ذلك الهدف، ولكن إذا تطلب الأمر المساومة على «حزب الله»، سوف تعقد إيران صفقات وهي تضع ذلك في اعتبارها كما تفاوضت على «المقاومة» وبرنامجها النووي. فـ«حزب الله» بالتأكيد ليس أكثر أهمية من برنامجها النووي.
ومن ثم، يمكنها ببساطة أن تجعله يتوقف تماما، أو تجبره على تسليم سلاحه أو تدفع به إلى أعماق الحرب الدموية في المنطقة. فالأمر برمته يعتمد على أهداف إيران وألاعيبها في المنطقة. وفي الوقت نفسه، سيكون على «حزب الله» أن يقدم المزيد من الوعود الدموية ووعود لا يمكنه الوفاء بها.