منذ أبريل (نيسان) 2003 والفلوجة قضية ساخنة في الإعلامَين العربي والعالمي، فأشد المعارك التي خاضها الجيش الأميركي، الغازي العراق، كانت بالفلوجة. تحولت أكثر من مرة إلى دار لهجرة «القاعدة»، رغما عن أهلها، فهُدمت منازلها ومساجدها، وهي التي عُرفت إثر حملة صدام حسين (أعدم 2006) «الإيمانية» بمدينة المنائر أو المساجد، لكثرة ما شيد فيها من مساجد. كثر بأبنائها القتل، خلال الحرب العراقية الإيرانية، فاستمر الحزن قابعا فيها، ثم تعرضت إلى غارات يومية من قبل الطيران الأميركي، وليس أكثر منها حصارا على مدار الساعة، لم يبق لأهلها شعور بالحياة، فما أن تُشيد دار فيها تُهدم أخرى، ومع أنها لا تملك ما تواجه به قوة عالمية كالولايات المتحدة الأميركية، ولا لها طاقة على تحمل نزق «القاعدة» ثم «داعش» وجبروتهما، إلا أنها استسلمت لوجهتي نظر فيها، الأولى تضعها ندا لأميركا، والأخرى تجعلها منزلا من منازل أبي مصعب الزرقاوي (قُتل 2005).
تسيد عليها «داعش» منذ 2014، أسوة ببقية المناطق الغربية والموصل، وقد أضاع الإعلامان العربي والدولي البوصلة فيها، ففي الصباح يعلنان تحررها، وفي المساء يعلنان احتلالها، ولا أحد يرحمها في الحالتين. تقف الطائفية على بواباتها، فعند أسوارها ينتظر الحشد الشعبي بميليشياته الصَّولة عليها، وبهتاف طائفي نافع لـ«داعش»، وتراها حائرة بين سابٍ لنسائها يرى في رجالها إما مجاهدين وإما كفارا، وميليشيات تكشف عن غرضها بين لحظة وأخرى، بأنها تترقب استباحتها، حائرة لا تعرف تقف مع من أو ضد من.
ما يدركه العاقل، غير الراغب في طول عمر الإرهاب، ولا الراغب في فناء هذه المدينة، أن إخضاع «داعش» بالفلوجة، وتحريرها من قسوة ووحشية، لا يتم إلا عن طريق محايد بين السنة والشيعة، وهذا المحايد يمكن أن يتوافر في الجيش العراقي وتطوع عشائر من المنطقة نفسها. لأن وجود جهة طائفية، غير محايدة، في حرب تحرير الفلوجة، من براثن «داعش»، سيخلق دواعش، أو مثلما قيل «أبشر بطول سلامة يا مربع».
لا يتحمل الوضع الطائفي العراقي، وعلى وجه الخصوص في الحرب على الإرهاب، ما تتظاهر به الميليشيات من مشاعر عدائية وانتقامية، بل على العكس سيخلق هذا التظاهر أكثر من «داعش»، وبهذا أرى الفلوجة وأهلها ضحية إلى السياسة الطائفية، وببلد لا يقوى رئيس حكومته على مواجهة أصغر قائد ميليشيا.
كيف الحال إذا تأكدت الأخبار بأن الجنرال قاسم سليماني، وقد نشرت نقلا عن وكالة أنباء إيرانية، موجود على جبهة الفلوجة، وبطبيعة الحال لا يحتاج سليماني إلى أن يأتي بنفسه، فهناك من يمثله، ومن العراقيين، أصدق تمثيل. فالذي يقر بولاية الفقيه المطلقة، وبسلطة مرشد الثورة الإسلامية عليه، سيلقي نفسه في التهلكة، إذا اضطر إلى ذلك؛ دفاعا وتلبية لما يطلبه أو يأمر به الولي الفقيه، وعلى فكرة أنهم من العرب العراقيين وليسوا من الفرس الإيرانيين. فمعلوم أن الإسلام السياسي عابر الأوطان والقارات والأمم والجغرافيا، ليشكل تاريخا واحدا مختلفا بين الجماعات المتواجهة بالفلوجة، فأولئك، أي «داعش» وتوابعه، يريدونها خلافة إسلامية، وقد أعلنوها بعد أن وُجد الخليفة، الذي كان مقبوضا عليه من قِبل الأميركان، فحرروه ليعلن نفسه خليفة، وأخرى تريد تحريرها نصرا لولاية الفقيه.
سمعنا بوجهتي نظر، في الحرب لتحرير الفلوجة، واحدة تريدها حربا خالية من نزعة طائفية؛ وذلك لضمان حماية المحاصرين فيها، والأفضل أن يخوض معركة التحرير الجيش العراقي مع القوات الدولية. أما الأخرى، فترى للحشد الشعبي إسهاما في المعركة، وهنا لا تضمن عواقب الشراسة الطائفية، أو مدى استفادة «داعش» من ذلك. على ما يبدو، ليس المسألة حرصا على تحرير الفلوجة مِن «داعش» إنما كسب الحصة من النصر.
بلا شك، إن وجود ميليشيات محسوبة على إيران، وما يظهر بينها من ممارسات طائفية، يعني أن «داعش» يأخذ على عاتقه الدفاع عن أهل السنة الفلوجيين، وأن معركته مع إيران لا مع الجيش العراقي، وبلا ريب انضم الكثير من شباب المناطق الغربية إلى «داعش» تحت هذا المؤثر الطائفي.
تحول العراق إلى ساحة حرب غير معلنة بين إيران وأميركا، هذا ما يبدو للعيان، لكن نتائج السياسة الأميركية تقول غير هذا، بأن هناك نوعا من التفاهم بين الدولتين على العراق، فمن مصلحة إيران أن يبقى سوقا لبضاعتها، وأرضا مفتوحة لها تساوم بها كل من له مصلحة بالعراق وثروته وموقعه الجغرافي، هكذا تجري الأمور، ولا الجار ولا البعيد يحسب حساب الدماء التي تنزف من أبدان العراقيين على مدار الساعة، والفلوجة نقطة المساومة.
كأن الكل متفق على بقاء «داعش»، هذا ما قد تستره التوافقات بين القوى، فيبرر أي فعل كان، وأولها إبعاد ملفات الفساد والسكوت عن الإصلاح، التي وعد به رئيس الوزراء، ولا ضريبة على الكلام مثلما يقال. لسنا متأكدين من أن الحرب على أبواب الفلوجة بين دول أم بين طوائف؟ فلا ننسَ أن «داعش» بفضل من سلم الموصل له، أصبح دولة، لا تحتاج إلا الاعتراف الدولي. فيا ترى هل الحرب بين الحشد الشيعي و«داعش» السني، أم بين الدولة العراقية و«داعش» الدولة؟