الدكتور غالي أغمض عينيْه وترك للقراء نظّارتيه

الدكتور غالي أغمض عينيْه وترك للقراء نظّارتيه

new doc 1_1

بقلم:منصف المزغني
ريشة: علي المندلاوي


1 -
رحيل بطرس بطرس غالي يشبهُ طي مجلّد ضخم من مئات الصفحات التي تأبى أن تنغلق، وفي كل صفحة أسرار لم تُحْكَ بعد، وتفاصيل نائمة بين السطور.
هذا المجلّد الغالي مفتوحُ على أكثر من ظرف عصيب وفصل عجيب، وموقف رهيب، عرفته مصر والصراع العربي الإسرائيلي، والوطن العربي، والعالم.
2 -
العالم الحي الذي عاش فيه بطرس بطرس غالي لم تهدأ عواصفه.
- ولد في القاهرة، ورأى شمسها يوم 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 1922.
- وهذه القاهرة نفسها شهدت غروب شمسه يوم 16 فبراير (شباط) 2016.
- إذن، ولد بطرس بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بسنوات أربع.
- وعرف في شبابه تواريخ كبرى تبدأ من نشوب الحرب العالمية الثانية، وصولا إلى «داعش» وما يحياه العالم الآن من حرب مفتوحة على الإرهاب.
3 -
عاش هذا الراحل الاستثنائي وقائع سياسية عرفتْ إكراهات كثيرة أمْلتْها الظروف السياسية الدبلوماسية أيام الرؤساء الذين تداولوا على حكم مصر، بدءًا بجمال عبد الناصر، ووقوفا طويلا مع أنور السادات ومفاوضات السلام مع إسرائيل، وحسني مبارك، وكانت خاتمة رحلة عمر بطرس غالي مع عبد الفتاح السيسي، ومن باب الاعتراف له، نعته الخارجية المصرية باعتباره «عميد الدبلوماسية المصرية».
4 -
شاء بطرس بطرس أن يواصل في المناخ السياسي لأسرته الأرستقراطية التي عرفتْ بالعمل السياسي وعرف بها العمل السياسي في تاريخ مصر الحديث.
وكان بطرس بطرس مثلُه
- مثل ابن الفلاح الذي لا يذكر متى رأى تربة الأرض أو تلوّث بطينها أوّل مرة.
- هكذا هو بطرس بطرس غالي لا يذكر متى عرف السياسة، فهو يعيش في العائلة التي انخرطت في الممارسة السياسية، وصار من واجبه، لكي يتواصل مع المناخ العائلي أن يتعلم الأصول ويعرف قانون الوقائع السياسية والدولية من حوله، من أجل تحديد المواقف بما يلائم من الملابسات.
- وهكذا نال الإجازة في الحقوق من القاهرة، ثم ّ الدّكتوراه في القانون الدّولي من باريس، كما عمل أستاذا للقانون الدّولي والعلاقات الدّوليّة في القاهرة إلى جانب ترؤسه عام 1965 الجمعيّة المصريّة للقانون الدّوليّ.
5 -
صنّف الدكتور غالي كثيرا من المؤلفات، وأنشأ الكثير من المنابر الصحافية، لعل أشهرها فصليّة «السياسة الدولية» وكان يشجع كتابها ودارسيها في صمت المتواضعيْن وحرص العلماء.
ونال من الأوسمة والدروع ما تضيق عنه كسوته وفاز بشهادات الدكتوراه الفخرية من العالم وهو أمر يضيق عنه هذا المقال.
6 -
لم يكن للرجل مجال حتى يتخلص من التزامات حزبيّة.
- وهكذا، توغّل في العمل السياسي الحزبي فاختار بين عامي 1974 و1977 أن يكون عضوًا في اللّجنة المركزيّة والمكتب السّياسي للاتّحاد الاشتراكي العربيّ. ثم أصبح في العام 1987 عضوًا في البرلمان المصري بعد أن عُيّن وزير دولة للشّؤون الخارجيّة عام 1977 وحتّى عام 1991.
7 -
والتاريخ سجّل، لبطرس بطرس غالي، أنه كان أوّل عربي يشغل منصب الأمين العامّ للأمم المتّحدة، وكان أوّل أمينٍ عامٍّ للمنظّمة الفرنكفونيّة الدّوليّة، وترأّس مجلس دول الجنوب.
8 -
كان غالي يُعرف بنهجه المستقلّ، فلم يكن من فئة السياسيين المحترفين. ولكن، كانت تناديه ضوابط أخلاقية في سياسته الدبلوماسية، وهذا النهج الذي اختاره هو الذي صار مانعا عائقا حال دون تولّيه ولاية ثانية للأمم المتّحدة، فقد استخدمت الولايات المتّحدة الأميركية حقّ «الفيتو» ضدّه، والحال أن الأغلبية الأممية كانت معه، وكان غالي يعرف جوهر الدبلوماسية في صراعات العالم عبر التاريخ الإنساني، وقد علّق على الفيتو الأميركي ضده، بقوله الساخر:
«كما في عهد الرّومان، ليس لديهم دبلوماسيّة. أنت لا تحتاج إلى دبلوماسيّة إذا كنت قويًّا جدًّا».
9 -
يقول مثل أفريقي: كل شيخ يموت هو مكتبة احترقت. ولكنّ بطرس بطرس غالي كان مجهرا ومرصدا للرؤية والنظر.
ولقد أغمض عينيه عن هذا العالم، وخلع نظارتية السميكتيْن عسى أن تتعلم الأجيال شيئًا من رغبة الدكتور غالي في التحديق والتقدير ومزيد النظر.
font change